حتى يوم الجمعة 15 مارس/آذار 2019، كانت مذبحة أراموانا في عام 1990 أكثر عمليات القتل الجماعي فتكاً في تاريخ نيوزيلندا، قبل أن تقع مجزرة نيوزيلندا التي ذهب ضحيتها 50 شخصاً كانوا يؤدون صلاة الجمعة في مسجدين.
اليوم، تحدث اثنان من رجال الشرطة السابقين الذين كانوا في أراموانا وقضوا على المسلح ديفيد غراي وإرهابه إجرامه، عن آثار مثل هذا الحدث على المستجيبين الأوائل من رجال الشرطة، والتأثير الممتد مدى الحياة لمثل هذا الحدث المروع، وما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل إذا لم يجر تشديد قوانين السلاح بشكل كبير.
ما بين مذبحة أرامونا ومجزرة المسجدين
تحدثت كبيرة مراسِلات الجرائم آنا ليسك إلى الضباط في كرايستشيرش، حيث قُتل 50 شخصاً وأصيب 50 آخرون، عندما اقتحم مسلحٌ مسجدين في المدينة قبل 5 أيام.
من الواضح أن مذبحة أرامونا لا يزال لها تأثير كبير على تيم أشتون.
كان يختنق في بعض الأحيان، ويحتاج أخذ نَفَس عميق قبل التحدث عن أجزاء من المذبحة. لقد رأت عيناه أشياء لا يستطيع أحد منا ولا يريد تخيلها.
أطفال ميتون، أنهار من الدم تتدفق من ضحايا أصيبوا بأسلحة نارية فائقة القوة، لم يستطع إنقاذهم.
بعد أن قُتل 13 شخصاً في بلدة أوتاجو الصغيرة، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، أصغرهم صبي يبلغ من العمر 5 سنوات، ركض غراي نحو مجموعة من الضباط من الفرقة المسلحة المعنية بالتدخل والتابعة لشركة كرايستشيرش، وأطلق النار عليهم باستخدام بندقية AK47.
كان أشتون أحد هؤلاء الضباط. سحب 3 منهم الزناد، ليُنهوا هياج غراي وحياته.
وقال أشتون: "رجال الشرطة والعاملون في خدمات الطوارئ الذين حضروا مشهد الرعب يوم الجمعة، هذا العمل الشرير، سيتأثرون به بقية حياتهم"، مضيفاً: "سيتأثر الأشخاص الذين فقدوا أحبّاءهم وأقاربهم. تأثيرات ذلك ستمتد على مدى عمر المشاركين".
لا يزال أشتون يفكر في أراموانا
وصفَ الأمر بأنه شيء لم يتمكن من تجاوزه قط. قضى الأيام والأسابيع التالية مع عائلته أكبر قدر ممكن من الوقت. كانوا ملاذه.
وقال: "لقد شُفيت بالحب حقاً، يجب أن تقضي وقتاً مع من تثق بهم وتهتم لأمرهم"، مضيفاً: "يمكن أن تستمر آثار هذا عدة أيام وأسابيع وشهوراً بالنسبة إلى أولئك الذين نجوا، وعادوا إلى المنزل".
عندما سمع أشتون عن الهجوم الإرهابي مجزرة نيوزيلندا كان رد فعله "رعباً كلياً". على مدى سنوات عديدة، كان يضغط على الحكومة، بداية من النواب المحليين وصولاً إلى قادة الأحزاب والمشرعين الآخرين، لتغيير قوانين الأسلحة في نيوزيلندا.
لقد خشي، فترة طويلة، أنه إذا لم يجرِ حظر الأسلحة الآلية، فسيكون هناك إطلاق نار جماعي ذي أبعاد ملحمية. تحققت مخاوفه يوم الجمعة في الساعة 1:40 مساء.
وأعلنت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن أن الحكومة ستحظر جميع الأسلحة ذات الطابع العسكري نصف الآلية والبنادق الهجومية، ضمن قوانين أسلحة أكثر تشدداً بعد مجزرة نيوزيلندا .
واعتباراً من الساعة الثالثة مساءً الخميس 21 مارس/آذار 2019، أصبح مرسوم بقانون سارياً، ليجعل من المستحيل على أي شخص شراء هذا النوع من الأسلحة دون موافقة الشرطة.
السجن أو الغرامة لكل من يمتلك أسلحة محظورة
وسيكون هناك تشريع صارم لأي شخص يمتلك بالفعل الأسلحة المحظورة الآن. ستقدَّم خطة لاسترداد الأسلحة، للمساعدة في إزالتها بالكامل من المجال العام.
وبمجرد انتهاء فترة الاسترداد، سيواجه أي شخص يمتلك سلاحاً محظوراً الغرامة أو السجن.
ظل أشتون يضغط من أجل هذا الإصلاح على مدى سنوات قبل وقوع مجزرة نيوزيلندا ، لكنه طلب تفعيل مزيد من التغييرات، قائلاً إنها كانت مسألة وقت فقط قبل المذبحة التالية، إذا لم يعدَّل قانون الأسلحة بشكل فعال.
يشعر أشتون بغضب انفعالي إزاء بهذه القضية، ويصبح عاطفياً خلال حديثه عنها.
لقد فزع الشرطي السابق، لأنه لم تكن هناك عملية تسجيل للأسلحة النارية على المستوى المحلي في نيوزيلندا، وهو ما يعني أن السلطات لم تكن على دراية فعلية بعدد الأسلحة الموجودة بالبلاد، ومن كان يملكها، وعدد الأسلحة التي بحوزته، ومتى وكيف جرى بيعها.
وقال: "ليست لدينا قيود على كمية الأسلحة التي يمكنك شراؤها، وليس لدينا أي فكرة عن عدد الأسلحة الموجودة هناك في الخارج".
وتابع: "لقد سمحنا باستيراد سلاح من عيار 50 إلى نيوزيلندا، لأي غرض؟ ليس لدي أي فكرة"، ورأى أنه "يجب أن نراجع قانون الأسلحة، ويجب أن نفعل ذلك الآن… لسوء الحظ يتزايد العنف المسلح في العالم، ويجب أن نبذل كل ما بوسعنا للحفاظ على سلامة النيوزيلنديين".
بعد أن كانت قوانين الأسلحة "متراخية"
وقال أشتون إنه يسمع بانتظام أن جناة بأسلحة آلية واجهوا الشرطة، في حوادث على غرار حصار نابيير، وإطلاق رجل من نورثلاند -يدعى كوين باترسون- النار على امرأتين، وهو ما أثبت أن قوانين الأسلحة كانت متراخية للغاية.
وأضاف: "علينا أن نجعل السياسيين والمشرعين يدركون أن واجبهم هو حماية المجتمع"، محذراً من أنه في حال عدم حدوث هذا، "فإن شرطيينا والجمهور سيظلون يتعرضون للمخاطر نفسها، بسبب هذه الأسلحة غير الضرورية على الإطلاق". وشدد على أن "هذا التغيير يجب أن يحدث اليوم، يجب أن يحدث الآن".
وقال أشتون إنه على الرغم من أنه عايش مذبحة أراموانا، وشاهد نصيباً كبيراً من أعمال العنف والقتل العمد الأخرى في أثناء خدمته في الشرطة، فإن مجزرة نيوزيلندا تركته يترنح.
وقال: "إنه يفوق قدرتي على الفهم، يجب علينا أن نحب ونعامل بلطف، أولئك الذين واجهوا الأمر، لأنهم لن يتعافوا بالكامل"، موضحاً أنه "بالنسبة لبعضهم، سيفكرون دائماً في أطفالهم بتلك اللحظات الأخيرة، وسيعانون رعباً شديداً… لا توجد كلمات لوصف ذلك".
توفي كريس نجل أشتون، وهو ضابط شرطة، في يوليو/تموز 2018، لذا فهو يشعر بتعاطف شديد مع الآباء الذين فقدوا أطفالاً في الهجوم.
الكثيرون أيدوا تغيير قوانين الأسلحة
أيد كريس تأييداً تاماً حملة أشتون العنيفة لإحداث تغيير في قوانين الأسلحة.
وقال أشتون: "عدد محدود للغاية من الناس يحتاجون أسلحة نصف آلية، الأشخاص الوحيدون الذين يحتاجون هذه الأسلحة هم الشرطة والقوات المسلحة"، مضيفاً: "إذا نزعت السلاح من المجتمع فستكون هناك حوادث أقل من هذا القبيل، يتعين علينا القيام بذلك الآن".
مما يثير الصدمة، بحسب أشتون، أنه لا يزال من الممكن اليوم شراء النوع نفسه من الأسلحة الذي استخدمه غراي في أراموانا داخل نيوزيلندا، قبل إعلان رئيسة الوزراء.
يمكن شراء بندقية نورينكو AK47، التي قال أشتون إنها شبيهة ببندقية كلاشينكوف نصف الآلية، على الإنترنت، مقابل نحو 700 دولار.
وقال: "لا نحتاج هذا النوع من السلاح في هذا البلد"، معتبراً أنه "من دون إزالة هذه الأنواع من الأسلحة، فإن إمكانية حدوث هذا النوع من الأشياء مرة أخرى قائمة".
بالنسبة إلى أشتون، فإن الألم والمعاناة والخسارة التي رآها في أراموانا ستظل عالقة بذهنه بقية حياته.
إنها تطارده بطريقة ما، وهو يعرف ما سوف يمر به المستجيبون الأوائل في كرايستشيرش.
يتألم قلبه لرؤية أن هذا قد حدث مرة أخرى خلال مجزرة نيوزيلندا في بلد يجب أن يكون آمناً، وكان يمكن أن يكون لو جرى تشديد قوانين السلاح قبل سنوات.
وقال: "فيما يتعلق بالرجل المسلح، ليس لديَّ ما أقوله بشأنه، لن أذكر حتى اسمه… إنه غير موجود".
سيعيشون هذا بقية حياتهم
مايك كين كان هناك مع أشتون في أراموانا طوال تلك السنوات الماضية، وقد خطر بذهنه فوراً المستجيبين الأوائل من رجال الشرطة في أعقاب هجومي يوم الجمعة.
وقال: "أنا ممتن للغاية، لأن الأولاد الذين قبضوا عليه لم يردّوا بإطلاق النار عليه، إذا حدث ذلك في بلد أخرى فسيكون جسمه مصفاة الآن…".
حسناً.. هل يشعر الضباط الذين يواجهون احتمال ملاحقة قاتل جماعيّ مسلح، بالخوف؟
هل يجب عليهم استجماع شجاعتهم وإقدامهم؟ هل هم بطوليون؟ كين يقول: لا.
ويضيف: "كانت لديهم المخاوف العادية التي كان الجميع سيشعرون بها، لكنهم كانوا يركضون نحو المكان وليس بعيداً عنه، أقسموا اليمين ليحموا الناس، لذلك عندما يهرب أي شخص آخر من الخطر، يذهبون نحوه".
وتابع: "ما يعتمدون عليه هو أنهم يُعدُّون أنفسهم، ويستحضرون تدريبهم، ويعدون زملاءهم، يداهمون معاً، ويتجاوزون ما يواجههم".
وأضاف: "هل يشعرون بالذعر؟ لا، لا يفعلون، فهم يحللون المعلومات ويمضون فيما يفعلونه، يفعلون ما يجب عليهم فعله".
عندما يسقط كثير من الأشخاص قتلى وجرحى، كما هو الحال في كرايستشيرش ومثلهم في أراموانا، لا يوجد وقت للعاطفة أو الدراما.
ويقول كين إن الشرطة مدربة على تنحية ذلك جانباً وجمع المعلومات واتخاذ القرارات والتصرف. الأمر بهذه البساطة.
"ما رآه ضباط الشرطة هؤلاء كان مروعاً"
بعد ذلك، عندما يتلاشى اندفاع الأدرينالين، وعندما تتلاشى الضوضاء، وعندما تتبدد حشود الناس وأنت وحدك، عندها تهجم عليك المشاعر وانعكاسات الحادث.
وعندها تأتي الدموع، تندلع الصدمة.
وقال كين: "نحن بشر، بعد كل شيء، تحت الزي الشرطي إنسان مثلي ومثلك، ولديهم لحظاتهم الخاصة"، مضيفاً: "ما رآه ضباط الشرطة هؤلاء كان مروعاً، مروعاً كلياً".
وأشار إلى أن كثيراً من الناس لا يمكنهم قط أن يستوعبوا مشهد إطلاق النار الجماعي، ونأمل ألا يحتاجوا أبداً لذلك.
يتذكر مذبحة أراموانا كأنها حدثت أمس. ويتخيل أن هجوم كرايستشيرش كان يشبهها جزئياً.
ويقول: "في ألعاب الفيديو والأفلام تشاهد الأفعال، لكنك لا ترى الدماء، لكن مع الناس الحقيقيين تراها… كان هناك نهر دم، وكان عليهم أن يمروا منه".
ولفت إلى أن المستجيبين من الشرطة "كان يتعين عليهم أن يظلوا محترفين ومركزين، ويبدأوا فوراً تقييم الناس ومساعدتهم، بدلاً من قول: (يا إلهي، لا يمكنني فعل هذا!)".
تدريب الشرطة على الاستجابة للحوادث
يجري تدريب كل مستجيب أول على درجة عالية من الاستجابة للحوادث، وقال كين إن التدريب صُمِّم ليكون فعالاً في الحالات الخطرة.
وقال: "إنها الغريزة، إنها الرغبة في النجاة، هناك حاجة كبيرة لمساعدة الناس بأوقات الأزمات، وهذا ما أظهره طاقم خدمات الطوارئ يوم مجزرة نيوزيلندا "، لافتاً إلى أنه "كان بإمكان الضباط الذين اعتقلوا المسلح أن يستجيبوا لما رأوه، ويُردوا المسلح قتيلاً، كان هذا القرار سيستغرق منهم أقل من نصف ثانية".
وأضاف: "كانوا يعلمون أن أشخاصاً قد أصيبوا بالرصاص، لكن ربما لا يعرفون عددهم، ربما كانوا يعتقدون أن هناك كثيراً من المسلحين، كان هناك كثير من الضوضاء. لكنَّ تركيزهم تحدَّد عندما رأوا تلك السيارة، وعندما صدموه، وعندما جروه خارجها… ردوا على ما فعله، على ما يقولون".
وتابع: "هل توقفوا وهربوا عندما رأوا القنابل في مؤخرة السيارة؟ لم يفعلوا، واستمروا في عملهم"، مضيفاً: "لقد خاطروا بشدة، ولكن هذا ما نقوم به، وهذا ما هو متوقع من شرطة نيوزيلندا".
كيف يتعامل أفراد الشرطة مع أحداثٍ مثل مجزرة نيوزيلندا
وقال كين إن استجابته هو وأشتون والآخرين في أثناء مذبحة أراموانا، كانت "مماثلة بالضبط" لاستجابة الضباط في كرايستشيرش.
وأضاف: "لقد حصلنا على تدريب، جهزنا لعملية منسقة، وأعطانا إجراءات، ما يمكننا وما لا يمكننا فعله. ما نراه في أي وقت معين هو ما يحركنا".
بعد أن أطلقوا النار على غراي، سحب كين فريقه في اجتماع مغلق. كان من المهم بالنسبة لهم الحصول على لحظة قبل بدء الفصل التالي. لقد قتلوا رجلاً، كان هذا أمراً جللاً، وهائلاً.
ويتذكر قائلاً: "لقد ابتعدنا، وجمعت رفاقي للتأكد من أنهم جميعاً بخير"، مضيفاً: "كان اندفاع الأدرينالين عالياً، أمضينا ساعات في النظر إلى الجثث ملقاة على الأرض، والسير عبرها".
وتابع: "لقد تخطينا ذلك، واضطررنا إلى التركيز على اصطياد ديفيد غراي. بعد ذلك جمعتهم معاً". ثم توجه الفريق للحديث عن المذبحة.
وقال كين إنه كان من المهم بالنسبة لهم القيام بذلك، أن يتحدثوا ويعملوا ويشاركوا ما حدث، مضيفاً: "أنا مؤمن بشدة بأهمية الحديث عن الأشياء".
وأشار إلى أنه "كان هناك القليل من الحزن، والقليل من الغضب، والقليل من الفكاهة السوداء، كل هذه الأشياء ستحدث في كرايستشيرش أيضاً. كان من المهم أيضاً دفعهم إلى التحدث مع زوجاتهم، وأحبّائهم أيضاً، ليقولوا إنهم بخير".
قبل العودة إلى الحياة العادية
وقال كين إنه في مرحلة ما، جاءت اللحظة التي أدرك فيها ضخامة ما حدث.
لقد هوى عليه الأمر بقوة وبسرعة.
قال: "بعد ذلك ستشعر بأنه (يا للجحيم! لقد كان ذلك قريباً)، يذهب الأدرينالين، أنت تهدأ وتبدأ بالتفكير في كل شيء".
ورأى كين أن أهم شيء يمكن أن يفعله المستجيبون في كرايستشيرش هو العودة إلى الروتين، مضيفاً أن الأمر يستغرق بضعة أيام لاستعادة عقلك، ثم عليك العودة إلى الحياة مباشرة.
وقال: "بعد يومين عدت مباشرة إلى الروتين، من المهم العودة إلى حياتك العادية؛ فهي تمنحك شيئاً ما، والعودة إلى الحياة الأسرية الطبيعية أمر حيوي للغاية… إنها تجعل الناس قادرين على تأمُّل أنفسهم وتأمُّل ما حدث".
غيرت مذبحة أرامونا، أشتون وكين إلى الأبد، ويقولان إن الأشخاص المشاركين في أحداث مجزرة نيوزيلندا أو مذبحة كرايستشيرش سيحدث لهم الأمر نفسه.
لن تكون الحياة أبداً كما كانت قبل 1:40 مساءً يوم الجمعة 15 مارس/آذار 2019.
وقال كين: "ما حدث، ما رأوه في ذلك اليوم ليس هو ما يريد أي شخص رؤيته على الإطلاق"، مضيفاً: "سوف يعيشون به بقية حياتهم، كما لا نزال نفعل".