سلط تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية الضوء حول عشرات العائلات التي مُسحت من سجل سكان غزة تماماً، إثر القصف العنيف المتواصل منذ أكثر من شهر على القطاع، حيث دُمّرت منازل 1200 عائلة فلسطينية بالكامل، وفق متحدث باسم وزارة الصحة في القطاع.
في غزة، غالباً ما تتشارك العديد من فروع العائلة الواحدة المنزل، ويصير الأجداد والعمات والأعمام بمثابة والدين آخرين للأطفال، وأبناء العمومة مثل الإخوة، ويرعى أفراد الأسرة أطفال بعضهم البعض، ويطعمونهم، ويتأكدون من وصولهم المدرسة وعودتهم منها، وفي لحظات الأزمات وعدم اليقين، يرحلون معاً، ويقلقون معاً، ويحزنون معاً.
في بعض العائلات، نجا فرد أو اثنان، ويجب أن يتعلم من نجا مواصلة العيش بمفرده بعد الخسارة المؤلمة والمفاجئة، وتحدثت الصحيفة مع بعض هؤلاء الناجين خلال الأسبوع الثالث من الحرب.
"وجدت نفسي مغطاة بدماء الآخرين"
رشدية طوطح، تبلغ من العمر 43 عاماً، وهي من مدينة غزة، شمالي القطاع، وتستخدم الكرسي المتحرك، وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول، جلست في ساحة المستشفى الأهلي العربي المعمداني، محاطة بالنازحين الآخرين الذين لجأوا إليه.
وبعد ساعة، أدى قصف الاحتلال للمستشفى إلى مقتل ما يقرب من 500 منهم، وشمل ذلك كل فرد بالغ في عائلة طوطح. وبمجرد أن علمت بمصير أحبائها، لم يكن بوسعها إلا أن تصرخ: "أحتاج إلى الذهاب معهم.. لقد كنا دائماً معاً، لماذا لم نمُت معاً؟".
في وقت سابق من ذلك اليوم، قالت رشيدة إنَّ شقيقها الأكبر نبَّه الأسرة إلى غارات جوية بالقرب من منزلهم، وأصرّ على إجلائهم جميعاً إلى مكان أكثر أماناً.
وتعاني رشيدة وإحدى شقيقاتها من إعاقة حركية؛ ما يعني أنه كان من المستحيل تقريباً بالنسبة لهما الإسراع بالخروج من منزلهما في الوقت المناسب هرباً من ضربة وشيكة، وفي حالة وقوع هجوم مفاجئ، فلن يتمكنوا من إخراج أنفسهم من تحت الأنقاض.
لذا، توجهت العائلة بأكملها، التي يبلغ عدد أفرادها حوالي 40 شخصاً، نحو المستشفى، وقالت رشيدة: "شعرنا بالأمان. فقد كان هناك الآلاف من الناس والأطفال". ونصب أشقاؤها خياماً لكل من في الساحة، واستقروا فيها وهم يستمعون إلى الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلق في سماء المنطقة.
ثم حلّ الرعب، تروي رشيدة: "كنت أشاهد الأطفال يضحكون ويلعبون، بينما أمهاتهم فرحات، ويُعددن الطعام. ثم وجدت نفسي مغطاة بدماء الآخرين في مستشفى الشفاء، إلى حيث أخذني المنقذ والمسعفون".
استُشهد والدا رشيدة وشقيقاها وزوجتاهما وشقيقتها المعاقة، ومن بين أطفال عائلتها، لم ينجُ سوى ابن أخيها، يامن. ونجت رشيدة بأعجوبة، رغم إصابتها بجروح خطيرة.
"أنا محطّمة الآن.. من دون أحلام أو خطط"
كانت ديما اللمداني، البالغة من العمر 18 عاماً، تحلم بأن تصير سيدة أعمال ناجحة أثناء نشأتها في مخيم الشاطئ للاجئين، لكن عندما طالب جيش الاحتلال في 13 أكتوبر/تشرين الأول بضرورة إخلاء الجميع في شمال غزة، ونزوحهم إلى الجنوب، اتصل والد ديما بشقيقه، وقرروا جميعاً، وهم أجيال عديدة من عائلة ممتدة، الفرار من المخيم.
لجأوا مؤقتاً إلى منزل أحد أصدقاء العائلة، حاملين معهم ما يكفي من الوقود لتعبئة المولدات الكهربائية لشحن هواتفهم والمصابيح باعثة الضوء (LED).
وبعد يومين، وبحلول وقت الفجر، جلست ديما مع خالتها تشرب القهوة، غير قادرة على النوم. والشيء التالي الذي تتذكره هو أنها كانت مغطاة بالركام والناس يصرخون من حولها.
كان المبنى السكني يحوي نحو 50 شخصاً؛ من بينهم 17 فرداً من عائلة اللمداني، وانتُشِلت ديما وشقيقها واثنان من أبناء عمومتها الأصغر سناً، من تحت أنقاض المنزل، وهم الناجون الوحيدون.
تروي ديما: "الوقت الذي قضيته في انتظار العثور عليّ كان من أكثر اللحظات رعباً.. كنت على وشك فقدان عقلي".
ثم أُحضِرَت ديما إلى المشرحة، حيث كان عليها التعرف على جثث أحبائها، وتقول ديما: "لم أتمكن من التعرف عليهم، فقد تغيرت ملامح وجوههم. صرخت وتوسلت: من فضلكم لا تتركوني وحدي. لا أستطيع العيش بدونكم!".
قبل أسبوع فقط، كانوا يضعون خططاً لمستقبلها، وتسترجع ديما: "أخبرتهم أنني سأكون شخصية وسيدة أعمال مشهورة، وأنهم جميعاً سيأتون للتسول للعمل معي.. كنت أمزح لأجعلهم يضحكون".
والآن صارت ديما هي المسؤولة عن ابنَي عمومتها الناجيين. وتتساءل كيف ستواصل حياتها: "أنا محطمة من دون أحلام أو آمال أو خطط.. لقد خانتنا القوات الإسرائيلية، فلا يوجد مكان آمن".
"كيف يمكنها العيش من دون والديها؟"
تشعر سماح العديني بالحزن على ابنتها الراحلة، التي تعرّض منزلها في دير البلح وسط قطاع غزة للقصف دون سابق إنذار في غارة جوية إسرائيلية في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ونجت نعيمة، حفيدتها البالغة من العمر 6 سنوات، من الغارة، وهي الآن في رعاية جدتها. وتقول سماح: "كيف يمكن لحفيدتي الصغيرة أن تعيش من دون والديها؟".
وآخر شيء تتذكره نعيمة هو أنَّ جدها دعاها هي وإخوتها ليعطيهم شيئاً ما؛ ربما حلوى. ثم أصابتهم الغارة التي أسفرت عن مقتل والدي نعيمة وأجدادها وإخوتها.
وتريد سماح أن تحصل حفيدتها على العلاج النفسي، لأنها ممتنعة عن الأكل. وقالت: "علينا أن ننتظر حتى تنتهي الحرب لنعالجها، هذا إن نجونا".