يبدو أن الأمور تزداد توتراً بشكل كبير هذه المرة بين حكومة طهران وإقليم كردستان العراق، في ظل تهديدات إيرانية كبيرة غير معهودة.
فقد أعلن عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في الأيام الماضية، رفضهم إيواء حكومة إقليم كردستان العراق، شبه المستقلة، الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة، قائلين إن الوضع الحالي لن يستمر طويلاً، وسيكون رد الجمهورية الإسلامية حاسماً هذه المرة.
وحذر قائد القوات البرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، الجنرال محمد باكبور حكومة إقليم كردستان من رد حاسم ضد المقاتلين الأكراد الإيرانيين، الذين يتخذون من مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، مقراً لهم، قائلاً إنه "لن يتم السماح باستخدام الإقليم الشمالي من العراق لاستهداف الأراضي الإيرانية".
وفي إشارة إلى ما يمكن اعتباره هجوماً موسعاً مرتقباً، دعا الجنرال باكبور السكان المحليين في هذه المناطق إلى المغادرة حفاظاً على سلامتهم.
فما الذي حدث لتتبنى إيران مثل تلك النبرة الغاضبة؟
هجمات إيرانية متواصلة
بعد التهديدات العديدة من قادة الحرس الثوري الإيراني، قامت القوات الأمنية الإيرانية بشن هجمات موسعة بواسطة طائرات بدون طيار، استهدفت مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، داخل العاصمة الكردية العراقية أربيل.
يذكر أن مجموعات من الأكراد الإيرانيين الانفصاليين الذين حملوا السلاح ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منذ عام 1979، بعد الثورة الإيرانية، يتخذون من مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، ملاذاً آمناً لهم، كما توفر لهم حكومة الإقليم، العديد من الأمور، من بينها المعونات المادية.
في الآونة الأخيرة قامت إيران بشن هجمات صاروخية على معسكرات المعارضة الكردية الإيرانية داخل إقليم كردستان العراق، ووصل الأمر إلى حد اغتيال موسى باباخاني، العضو البارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، الذي وجد مقتولاً داخل غرفة بفندق بمدينة أربيل، إذ اتهم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني الحكومة الإيرانية باغتيال المسؤول البارز، بينما نفت إيران الأمر.
يقول مصدر أمني إيراني مطلع، لـ"عربي بوست"، إنه "لا علاقة لنا بمقتل موسى باباخاني، الرجل قتل في خلاف داخل الحزب، أما عن الهجمات التي نفذتها قوات الحرس الثوري فكانت ضرورية لإنهاء الوضع الحالي الذي ترفضه إيران".
بالإشارة إلى الوضع الحالي الذي ترفضه الجمهورية الإسلامية قال المصدر ذاته "في الآونة الأخيرة قام الإرهابيون (في إشارة إلى المعارضين الأكراد الإيرانيين) باستهداف قواتنا على الحدود، أكثر من مرة، وهذا أمر لم يعد مقبولاً، وسيتم إنهاؤه قريباً".
مقتل ضباط بالحرس الثوري
وتناولت عدة تقارير إعلامية إيرانية في الأيام الأخيرة مقتل عدد محدود من جنود قوات حرس الحدود، مع إقليم كردستان العراق، على يد مقاتلي المعارضة الكردية الإيرانية، لكن المصدر الأمني الإيراني الذي تحدث لـ"عربي بوست"، تحدث عن مقتل العشرات ومن بينهم ضباط بارزون من الحرس الثوري الإيراني، وهذا هو السبب في الغضب الكبير من جانب الحكومة الإيرانية.
على الحدود الجبلية الوعرة بين إيران وإقليم كردستان تعمل قوات المعارضة الكردية الإيرانية على تسهيل عمل المهربين، وتفرض عليهم الضرائب لتسهيل دخولهم وخروجهم من إيران، وعادة ما تشتبك القوات الأمنية الإيرانية مع هؤلاء المهربين ومسلحي المعارضة الكردية الإيرانية.
يقول مسؤول أمني بارز في قوات البيشمركة الكردية، التابعة لحكومة إقليم كردستان لـ"عربي بوست"، إن حكومة إقليم كردستان كانت قد أمرت قوات المعارضة الكردية الإيرانية بعدم استهداف الأراضي الإيرانية، مقابل توفير الملاذ الآمن لهم داخل أربيل.
وأضاف "في حقيقة الأمر، منذ سنوات لم تخالف المعارضة الكردية هذا الأمر، ولا أعلم لماذا يقوم قادة الحرس الثوري الآن بتصعيد الأمور"، على حد تعبيره.
الأكراد والمعارضة المسلحة
منذ أربعينات القرن الماضي حلمت الأقلية الكردية الإيرانية بالاستقلال والانفصال عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن لم يتمكنوا من تحقيق هذا الحلم.
وبعد الثورة الإيرانية عام 1979، وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قررت جماعات المعارضة الكردية الإيرانية حمل السلاح ضد الجمهورية الوليدة، وجرت الاشتباكات بين القوات الأمنية والمعارضة الكردية، وقامت إيران باغتيال قادة المعارضة الكردية في الخارج، ثم بدأت الأمور في التهدئة بمرور السنوات، وأصبحت قوات المعارضة الكردية الإيرانية أقل تصادماً مع القوات الأمنية الإيرانية، ولجأوا فقط إلى عمليات استهداف للجنود الإيرانيين على الحدود العراقية الإيرانية من حين لآخر.
في المقابل، من فترة لأخرى، نفّذ الحرس الثوري الإيراني هجمات صاروخية استهدفت معسكرات المعارضة الكردية في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، كان أعنفها عام 2018، حين أمطر الحرس الثوري المعارضة الكردية الإيرانية بوابل من الصواريخ.
لكن ما يحدث الآن يتعدى مسألة استهداف الجنود على الحدود، أو قذف معسكرات المعارضة داخل أربيل، بحسب المسؤول الأمني في قوات البيشمركة الكردية، فيقول لـ"عربي بوست"، إن "التهديدات القادمة من الحرس الثوري الإيراني لم يسبق لها مثيل، والهجمات الأخيرة بالطائرات بدون طيار، واغتيال موسى باباخاني، تنذر بالسوء، ويجب أخذ هذه التهديدات على محمل الجد من قِبلنا".
إخلاء قاعدة الحرير
في خضم التهديدات التي صرح بها قادة الحرس الثوري الإيراني، أشار اللواء محمد باقري، قائد القوات المسلحة الإيرانية، إلى أن جماعات المعارضة الكردية الإيرانية التي وصفها بالإرهابيين، تعمل لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض الدول العربية في الخليج، قائلاً إنه تم رصد اجتماعات بين قادة المعارضة الكردية الإيرانية ومسؤولين أمنيين أمريكيين في قاعدة الحرير، التي تقع على بعد 70 كيلومتراً شمال مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق.
يقول مصدر مقرب من الحرس الثوري الإيراني لـ"عربي بوست"، "في الآونة الأخيرة زادت اجتماعات قادة المعارضة الكردية الإيرانية، مع الأمريكان في قاعدة الحرير، وعلمت المخابرات الإيرانية أنه يتم التخطيط لاستهداف كبير داخل الأراضي الإيرانية، لذلك طلبت إيران من حكومة إقليم كردستان العراق إخلاء قاعدة الحرير من الأمريكان".
مسؤول كردي بارز في الحكومة، تحدث لـ"عربي بوست"، معلقاً على هذا الأمر، فيقول "نادراً ما يتم الاجتماع بين المعارضة الكردية الإيرانية والأمريكان، والحديث من الجانب الإيراني عن اجتماعهم مؤخراً في قاعدة الحرير صحيح، لكنه كان لمناقشة مصير المعارضة الكردية الإيرانية، بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل من العراق"، على حد تعبيره.
ومن المفترض أن تقوم الولايات المتحدة بسحب قواتها من العراق، بنهاية العام الحالي، لكن مسألة الانسحاب مازالت غير مؤكدة، وتفاصيلها غامضة. يقول المسؤول الكردي العراقي الحكومي لـ"عربي بوست"، إن "الأكراد الإيرانيين يخشون انسحاب الأمريكان من العراق، خوفاً من أن يلقوا مصير جماعة مجاهدي خلق الإيرانية".
تجدر الإشارة هنا إلى أنه في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، اتخذت جماعة مجاهدي خلق، وهي جماعة معارضة إيرانية مسلحة، من العراق ملاذاً لهم، وبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، ساعد رئيس الوزراء العراقي حينها نوري المالكي، الإيرانيين على مهاجمة أكبر معسكر لجماعة مجاهدي خلق الإيرانية (معسكر أشرف)، الذي أصبح الآن واحداً من مقرات الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، وتم طرد كافة مقاتلي مجاهدي خلق من العراق.
ويخشى قادة المعارضة الكردية الإيرانية، الذين يتخذون من مدينة أربيل الكردية العراقية مقراً لهم، أن يحدث معهم ما حدث سابقاً مع جماعة مجاهدي خلق إذا انسحبت القوات الأمريكية بالفعل من العراق، على غرار انسحابها من أفغانستان.
يقول المسؤول الأمني الإيراني، لـ"عربي بوست"، إنه "إذا انسحب الأمريكان من العراق، ومن كردستان العراق تحديداً، ستكون قوات المعارضة الكردية الإيرانية مصدر قلق هائلاً للحكومة الإيرانية، القادة الأمنيون يخشون أن يشجع هذا الانسحاب هؤلاء الإرهابين على إثبات وجودهم في المناطق الحدودية، وشن حملات أكبر ضد إيران"، على حد تعبيره.
وتصر إيران على ضرورة إخلاء قاعدة الحرير التي تستضيف القوات الأمريكية بمدينة أربيل، وتواصل بالفعل عدد من المسؤولين الأمنيين الإيرانيين مع نظرائهم الأكراد العراقيين لحل هذه المسألة.
يقول مسؤول أمني كردي لـ"عربي بوست"، إن "الايرانيين يريدون ضرب عصفورين بحجر واحد، لا يقتصر إخلاء قاعدة الحرير على مسألة المعارضة الكردية الإيرانية، بل إنه يخدم أجندتهم الخاصة بطرد الأمريكان من العراق".
في هذا السياق، عبّر المسؤول الأمني الكردي العراقي عن قلقه من استهداف محتمل لقاعدة الحرير من قبل الفصائل المسلحة الشيعية العراقية المقربة من إيران، فيقول لـ"عربي بوست"، إن هذا الإصرار الإيراني على إخلاء قاعدة الحرير، ينذر بقيام الفصائل المسلحة الشيعية بإعادة استهداف القاعدة، "وهذا أمر لن تقبله حكومة إقليم كردستان".
طرد المعارضة الكردية الإيرانية من العراق
يرى العديد من المسؤولين الأمنيين والسياسيين العراقيين في بغداد، الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، أن التهديدات الإيرانية هذه المرة مختلفة عما سبق، ويجب الاهتمام بها، لأنها ربما تمهد لشيء أكبر من ذلك.
يقول مصدر مقرب من مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، لـ"عربي بوست"، إنه في الأيام الأخيرة كانت هناك اتصالات مكثفة بين المسؤولين الأمنيين الإيرانيين، والسيد الأعرجي، لحل هذه الإشكالية المتعلقة بالمعارضة الكردية الإيرانية.
وأضاف: "أستطيع أن أؤكد أن طهران عازمة هذه المرة على طرد عناصر المعارضة الكردية من كردستان العراق، لكن كيف يتحقق هذا الأمر، هذا ما يثير قلق كل من بغداد وأربيل".
وبحسب المصدر المقرب من قاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي العراقي، فإن الحكومة المركزية في بغداد تحاول تهدئة الأمور بين طهران وكردستان العراق، فيقول لـ"عربي بوست"، "تصر إيران على أن المعارضة الكردية في كردستان العراق تخطط لمهام سرية مع الأمريكان في قاعدة الحرير، وهذه مزاعم تدل على خطورة الخطوة القادمة لطهران، لذلك من المهم والضروري أن تتدخل حكومة بغداد لتسوية هذا النزاع".
لماذا التصعيد الآن؟
بينما يقول القادة الأمنيون الإيرانيون إن المعارضة الكردية الإيرانية التي تؤويها كردستان العراق كثفت استهداف الجنود الإيرانيين عبر الحدود، وبأن طهران لن تسمح باستمرار هذا الوضع، فإنه بالمقابل، وبحسب القادة الأمنيين الأكراد العراقيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، فإن نشاط المعارضة الكردية الإيرانية ضد القوات الأمنية الإيرانية مازال محدوداً، ولا صحة للاتهامات الإيرانية الأخيرة، على حد قولهم.
يقول مصدر أمني في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست"، إن "هناك شكوكاً كبيرة تقترب من اليقين، بأن المعارضة الكردية الإيرانية المتواجدة في أربيل تخطط للقيام بمهام تخريبية داخل الأراضي الإيرانية بمساعدة أمريكية وإسرائيلية، لذلك رأت القيادة الإيرانية أنه آن الأوان للتخلص من هؤلاء الإرهابيين، وعدم السماح لهم بالتواجد على حدود الجمهورية الإسلامية"، على حد قوله.
لكن المسؤولين الأمنيين والأكراد العراقيين يقولون عكس ذلك، في حديثه لـ"عربي بوست"، يقول مسؤول أمني كردي عراقي "الإيرانيون يخشون أن ينسحب الأمريكان من العراق، ولكن يبقون في كردستان العراق، لذلك يريدون التخلص من المعارضة الكردية الإيرانية والأمريكان في نفس الوقت".
وبحسب المسؤول الأمني الكردي العراقي، فإن حكومة إقليم كردستان بلغت قلقها الكبير من التهديدات الإيرانية الأخيرة للإدارة الأمريكية، "الأمريكان حتى الآن لم يتعاملوا بشكل جيد مع هذه التهديدات، أخبرناهم أكثر من مرة أنها تهديدات غير مسبوقة، لكنهم لم يتحركوا إلى الآن".
في نفس الوقت تخشى الحكومة المركزية في بغداد التهديدات الإيرانية أيضاً، يقول المصدر المقرب من مستشار الأمن القومي العراقي "هذه التهديدات تأتي في وقت حساس للغاية، العراق يستعد لانتخابات برلمانية صعبة، وهذه التهديدات الإيرانية من الممكن أن تزعزع أمن البلاد قبيل الانتخابات، لقد طلبنا من الجانب الإيراني التهدئة حتى تمر الانتخابات بسلام".