إذا أردتم رؤية مثال ممتاز على الجمع بين الشيء ونقيضه في الساحة الدولية، فلا تنظروا بعيداً عن الاتفاق بين إسرائيل والإمارات على تطبيع العلاقات بين البلدين.
إنه اتفاق تاريخي، لكنه يبرز كذلك قدرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إعادة تدوير السياسة المتلاشية المتعلقة بضم أجزاء من الضفة الغربية، وتحويلها إلى انتصار سيغير إلى الأبد ديناميات السلطة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، ثمة كلمة حاسمة في الاتفاق الجديد.
يأتي تطبيع العلاقات مقابل "تعليق" خطط نتنياهو بضم الأراضي في الضفة الغربية المحتلة. أشارت الإمارات إلى أن هذا "التعليق" سيستمر لبعض الوقت، مع أن نتنياهو قال إنه لا يزال ملتزماً بالفكرة. ثمة شيئان متناقضان، ونستطيع توقع أن يحاول نتنياهو الجمع بين كلا النقيضين.
لم تنعم المنطقة منذ وقت طويل بتغييرٍ يسيرُ في اتجاه إيجابي. ويستحق الرئيس دونالد ترامب، الذي توسطت إدارته في هذا الاتفاق، أن يُكال له المديح على تحقيق نصر نادر على صعيد السياسة الخارجية.
يجب على كل من نتنياهو وترامب أن يكونا ممتنين لولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد لبسط يده إلى كلا القائدين مما ساعد في إخراجهما من تحت أنقاض حطام سياسي محلي. إذ يواجه كلاهما مشكلات داخلية في بلده، وكان كلاهما في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدفعة السياسية.
كانت الإمارات هي الأخرى فائزة. إذ إن هذا الاتفاق هو أكبر ضربة تحققها الدولة الخليجية في تاريخها على صعيد العلاقات العامة في واشنطن. وبغض النظر عن اسم الرئيس التالي، صار محمد بن زايد أنور السادات الجديد بالنسبة للمنطقة. إذ إن تحركات السادات لصنع السلام مع إسرائيل جلبت له المديح بين الإنجيليين الأمريكيين. وسوف تستطيع الإمارات على الأرجح أن تصل إلى المعدات العسكرية الأمريكية المتطورة التي كانت محظورة من قبل، فضلاً عن الهيبة غير المسبوقة التي ستحظى بها بين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء.
ولعل هذا الاتفاق سوف يهيئ الظروف للإمارات لأن تحظى بموطئ قدم لها على طاولة أي اتفاق نووي جديد مع إيران، بعد تهميشها كلياً عن طريق إدارة أوباما خلال مفاوضات 2015.
يتوقع أن يقدم الاتفاق دفعة هائلة إلى الإمام لصالح الطموح الإقليمي للإمارات. والأرجح أن الإماراتيين سوف يكونون وسيطاً مقبولاً بالنسبة للإسرائيليين عند وجود أي محادثات سلام مستقبلية. وعلى المدى البعيد، إذا خلَف شخصٌ مثل محمد دحلان -الذي عاش في الإمارات منذ 2011- من بعد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فربما حينها نرى القيادة الفلسطينية تقبلهم هي الأخرى.
وإذا استمر بلا انقطاع دفء العلاقات الذي تطور مؤخراً بين الإمارات وإيران، فقد تصير الإمارات الوسيط الجديد بين إيران والولايات المتحدة (وهو دور طالما اضطلعت به سلطنة عمان)، إضافة إلى الاضطلاع بدور الوسيط في التوصل إلى اتفاق مشابه مع السعودية، وهو ما يمثل أقصى أماني إسرائيل.
ولكن هل يعني كل هذا أن هناك احتمال تحقيق سلام حقيقي من أجل المنطقة؟ كلا.
ليس من المرجح أن يستثير هذا الاتفاق تحولاً دراماتيكياً في الوضع الراهن. كانت العلاقات الدبلوماسية والتطبيع الكامل مع إسرائيل دائماً مشروطة، في ألباب وأفئدة غالبية المواطنين العرب، بالتوصل إلى اتفاق نهائي حول دولة فلسطين وليس مع الإمارات، التي لم تخوض أي حرب مع إسرائيل.
فهل يتعرض البيان المشترك، الذي يعلن عن التوصل إلى الاتفاقية الجديدة، لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى قراهم ومدنهم أو لقرارات الأمم المتحدة المرتبطة بهذا الشأن؟ كلا.
بعد إعلان البيت الأبيض، أصدرت نانسي بيلوسي، رئيس مجلس النواب الأمريكي، بياناً تطالب فيه إنهاء خطط الضم والتأكيد على الحاجة للتوصل إلى حل الدولتين. وغرد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قائلاً: "يعد تعليق الضم خطوة إيجابية، يجب الآن التخلي عن الخطط كلها. يأمل الاتحاد الأوروبي مواصلة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية حول حل الدولتين استناداً إلى المعايير الدولية المتفق عليها".
فهل أتيا على ذكرٍ لحل الدولتين، على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين؟ كلا.
هل البيان حول الاتفاق تضمن أي التزام قانوني يُلزم إسرائيل بوعدها الرامي إلى منع ضم أجزاء من الضفة الغربية؟ كلا.
لذا فأنا لا أرى "سلاماً" في هذه الاتفاقية. بل على النقيض، قد تؤدي إلى العكس تماماً.
قد تحمل الاتفاقية الجديدة احتمالية تمكين -وليس عزل- المتطرفين في إيران، وأن تجعل تركيا داعمة للفلسطينيين.
كانت اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1978، وكذلك اتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، وهما اتفاقيات التطبيع الوحيدة السابقة بين إسرائيل وبلاد العالم العربي، مثل الاتفاقية الجديدة. فلا يمكن القول إن كلتا الاتفاقيتين قللت بدرجة كبيرة أعداد الجماعات المتطرفة التي تدعم الفلسطينيين.
بجانب أن التوصل إلى اتفاقية مع إسرائيل من شأنه أن يُفضي في النهاية إلى زيادة عزلة الفلسطينيين، والتغاضي عن حقوقهم، ومكافأة الاحتلال الإسرائيلي -غير القانوني بموجب القانون الدولي- ولن يؤدي إلا إلى زيادة الأمور سوءاً.
يتوقع أن تتبع دول عربية أخرى نفس المسار وتوقع على اتفاقات مماثلة مع إسرائيل. ومع أن الإمارات استشعرت ضرورة أن يشمل الاتفاق تعليق الضم ليكون باعثاً على تجنب النقد من جميع أنحاء المنطقة (وهو ما جاء على أي حال من بعض الدوائر)، قد لا يستشعر آخرون ضرورة البحث عن أي مبررات.
نقل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس -ليعطي نتنياهو نصراً سياسياً- ولم يحدث شيء. ثم أخطأ عندما سعى لإعادة إطلاق محادثات السلام عن طريق إجبار الفلسطينيين على قبول خطته للسلام، ومرة أخرى لم يكن هناك ردة فعل قوية بخلاف حالة الغضب الأولية.
وينصب التأكيد في البلاد العربية، التي توشك أن تتوصل إلى اتفاقيات بالتطبيع مع إسرائيل، على أن الاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت المدن العربية خلال الانتفاضة والحروب الإسرائيلية المتعاقبة على قطاع غزة لن تُرى مرة أخرى في أي وقت قريب.
لكن هذا قد يكون سوء تقدير. إذ إن ردة الفعل الهادئة نسبياً من شباب وشابات المنطقة في مواجهة هذه الاتفاقية، تأتي -حسب اعتقادي- بفضل تغيير لحظيّ في قائمة أولوياتهم، نظراً إلى أن عديداً من البلاد تواجه أزماتها الخاصة في اللحظة الراهنة. لكن هذا يجب ألا يؤخذ على أنه تحولٌ عميقٌ في مزاج الشباب العربي، أو على أنهم فقدوا الإيمان بالقضية الفلسطينية.
ويعتقد كثير منهم، ممن تحدثت معهم، أن اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل نتيجة ثانوية لبؤس المنطقة، وليس سلاماً وازدهاراً مثلما تروج له إدارة ترامب. ومثلما غرد ميخائيل حنا، الباحث البارز لدى مؤسسة القرن: "لا يمكنك بناء علاقات حقيقية بين شعبين على أساس مثل هذا الاستخفاف".
التطبيع الثقافي هو الأساس. يجب أن يكون العرب قادرين على زيارة إسرائيل، وأن يكون المواطنون الإسرائيليون قادرين على السير في شوارع جميع المدن العربية واستيعاب الثقافة العربية. لكن هذا يجب أن يتبع نيل الفلسطينيين حريتهم في أن يعيشوا في مدنهم وقراهم داخل وطنهم بدون الحاجة إلى القلق من نقاط التفتيش، أو التهديد بالاعتقال التعسفي، أو فوق كل هذا التهديد بضم أراضيهم.
لا يوجد أي شيء أكيد حول هذه الاتفاقية، بخلاف أن المبدأ التاريخي القائل بأن إسرائيل دولة صغيرة معزولة ومحاطة ببلاد معادية، قد انتهى. ولكن ما هو الثمن المُحمَّل على كاهل الفلسطينيين؟
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.