بعدما تغيرت جميع الموازين على الساحة بعد تقديم تركيا الدعم لحكومة الوفاق الوطنية في ليبيا، فإن مذاق الوليمة التي تم إعدادها في صمت مطبق؛ بدأت تعافه الأطراف التي قامت بتحضيرها. حيث كانت تسعى تلك الأطراف لاهثة لتقاسم الغنائم فيما بينها، إلا أنها حينما رأت تركيا قد دخلت على الخط وأفسدت عليهم وليمتهم وقعوا في حيرة من أمرهم.
إن تركيا لم تأت إلى ليبيا إلا بدعوة رسمية وشرعية من صاحب المنزل كما يقال، وسرعان ما فضحت انقلابات الطرف الآخر وكشفت أمام الجميع ما ارتكبه من انتهاك لحقوق الإنسان، وجرائم حرب، ومجازر جماعية وغير ذلك من أفاعيل يندى لها جبين الإنسانية. على سبيل المثال، في ترهونة وحدها تم الكشف عن 13 مقبرة جماعية، دُفن فيها العشرات ممن لقوا حتفهم على يد ميليشيات حفتر المدعوم من فرنسا والإمارات. ولذلك يجب على كل من يقدم الدعم لحفتر أن يُحاسب على تلك الجرائم، وعلى رأسهم فرنسا والإمارات، وإن تركيا تفعل جهدها في هذا الصدد.إلا أن الرعب الذي كان يخيم على أجواء تلك الوليمة لم يلبث أن تحول الآن إلى هجوم مضاد ومحاولة استجماع للقوى، لا يقتصر ذلك على الميدان الحربي فحسب، بل وفي مجالات الإعلام والدبلوماسية وغيرها، في محاولة لضمان موطئ قدم لهم هناك. أولئك الذين هم أشبه بالقراصنة الذين يدعمون جميع المنظمات والأطراف القادرة على تحقيق أغراضهم الخسيسة، يقومون باحتلال بلد بأكمله طمعاً في ثرواته وخيراته، ويتشدقون بالحرية وهم يدعمون انقلابيين عمداً ضد الحكومة الشرعية، بل إنهم كذلك يجسدون موقفاً مخالفاً لحلف الناتو الذين هم أعضاء فيه.
ماذا يفعل ليفي في ليبيا؟
على صعيد آخر هناك قصة شديدة الأهمية وهي دخول المفكر الفرنسي برنارد هنري ليفي على الخط وتصريحاته حول دعم حفتر. ليفي الذي يصوّر نفسه على أنه داعم للحرية الفكرية، هو في الواقع ليس سوى مستشرق صهيوني. والهدف الوحيد من زيارة الأخير تلك ليفي هي تجميله لصورة حفتر، مع ما أخذ نصيبه الشخصي من الدعم والترحيب وحفاوة الاستقبال.
لقد قال ليفي خلال زيارته إلى ليبيا ولقائه ببعض الأشخاص هناك، إنه يرى الحرب الدائرة في ليبيا حرب تدور رحاها عبر العالم الإسلامي كافة. وشدد على أن الذين يدعون أن تلك الحرب بين المسلمين والمسيحيين مخطئون، بل إنها حرب بين المسلمين أنفسهم. واعتبر ليفي تركيا التي يقودها أردوغان هي الطرف الراديكالي في هذه الحرب الإسلامية-الإسلامية، مشبّهاً تركيا بحركة طالبان في أفغانستان، وأن الإمارات تمثل التنوير الإسلامي مقابل تركيا.
إن وصف الإمارات براعي التنوير في العالم الإسلامي، وهي التي لا تدع منطقة في العالم الإسلامي تشعر بشيء بسيط من الديمقراطية، إلا وتهرع نحوها وتشعل فيها الانقلابات والإرهاب وترسل الجواسيس، وتدعم أي منظمة وتقيم أي علاقة ولو غير أخلاقية لتحقيق أغراضها؛ هذا الوصف مع هذا الحال لا يصدر إلا عن شخص باع عقله وروحه للشيطان مجاناً. إن زيارة ليفي ولقاءاته تلك ليست سوى جزء من هجوم دبلوماسي واسع أعم تشنها فرنسا مؤخراً على تركيا.
فيل في غرفة الناتو
نشرت بالأمس صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بتوقيع ستيفن إرلانغير، جاء تحت عنوان "العدوان التركي فيلٌ في غرفة الناتو"، يتناول المواجهة بين فرنسا وتركيا في الناتو، وبالطبع يميل المقال لصالح فرنسا ويعتبر تركيا دولة تصنع شقاقاً في حلف الناتو. بيد أنّ ذلك المقال لم يتناول على الإطلاق الدعم الفرنسي لانقلابي ارتكب مذابح جماعية مثل خليفة حفتر، كما أنه لم يعبأ بالاتفاقية الشرعية بين الحكومة الشرعية بين ليبيا وتركيا، وراح يتحدث عن خرق لحظر الأسلحة إلى ليبيا. ويعطي أمثلة من هنا وهناك عن خلافات تركيا مع اليونان في حلف الناتو، وإصرار تركيا على شراء منظومة إس 400 الروسية من موسكو. إن تلك الأمثلة التي ساقها تكشف بطبيعة الحال عن مشاكل أخرى في طريقة عمل الناتو لم يتعرض لها على الإطلاق.
على سبيل المثال، لم يتطرق الكاتب إلى أن دولة عضوة في الناتو تدعم منظمة الـ"بي كا كا" التي تشكل خطراً حقيقياً على دولة عضوة في الناتو (تركيا)، وتدعمها بالمال والسلاح، بل وتعقد معها الصفقات لاستخراج وبيع النفط وما شابه. إن "إرلانغير" لم يسأل فرنسا عن طبيعة عملها في ليبيا ولأي سبب جاءت؟ بل إنه يتحدث وكأن وجود فرنسا وما تقوم به على جميع الأصعدة هو عمل مشروع بديهي، أما تركيا فهو يصوّرها على أنها دخلت اللعبة مؤخراً ولا يحق لها الدخول. وعلى صعيد آخر، لم يتفوّه بكلمة واحدة عما تفعله اليونان وغيرها من الدول في البحر المتوسط ضد تركيا في محاولة لفرض حصار على سواحلها الخاصة.
في النهاية لقد نجحت تركيا في تعطيل جميع الحيل التي تستهدفها حتى من قبل بعض أعضاء الناتو ذاتهم. وعلى الجميع تقبل الأمر، فهذه هي الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.