نشر لنكوسي زويليفيليلي مانديلا، وهو حفيد الزعيم الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا، مقالة في موقع "الجزيرة نت" (18/7) أجرى فيها مقاربة بين كفاح الجنوب أفريقيين وكفاح الفلسطينيين، قال فيها: "إن محاولات دعاة إسرائيل لتصوير جدي كليبرالي مسالم، هو تشويه لإرثه"، وذلك في محاولة منه لتفنيد السؤال المراوغ: "أين مانديلا الفلسطيني؟ أين النسخة الفلسطينية من مانديلا، الذي – في خيالهم – كان يعشق مضطهده لدرجة أنه كان مستعداً لمسامحته والتصالح معه دون قيد أو شرط؟ وبرأي الحفيد فإن أنصار إسرائيل يركزون بشكل حصري على رسالته للحوار والمصالحة، في حين أن قضية مانديلا "كانت العدالة والتحرير.
المصالحة والغفران لم تأت إلا بعد تحقيق التحرير. قبل ذلك، اعتبر نيلسون مانديلا أن أي نوع من "المصالحة" مع الظالم هو خضوع، وسلاح شريك لإضعاف حركة التحرير." ويؤكد الكاتب أن مانديلا كان له شروط أساسية يجب الوفاء بها قبل أن يبدأ المفاوضات، تشمل "إنهاء نزع الملكية والعنف الذي ترعاه الدولة ضد السود في جنوب إفريقيا، والإفراج عن السجناء السياسيين، وعودة المنفيين." ويتابع: في تصورهم، كان نيلسون مانديلا – خلافاً لياسر عرفات – سيوافق على الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش والبناء الاستيطاني غير المشروع وسبع سنوات من التفاوض غير المجدي.
مانديلا الذي اختلقوه ما كان ليرفض على الإطلاق "صفقة العمر" لدولة فلسطينية مقطعة الأوصال منزوعة السلاح وسيطرة إسرائيلية على الحركة بين قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى المجال الجوي الفلسطيني، والاقتصاد والسياسة الخارجية وموارد المياه والحدود. مانديلا الموجود في عقول أنصار إسرائيل كان على استعداد دائم للتنازل عن العدالة والكرامة. لكن مانديلا الحقيقي رفض عدة "عروض سخية" من حكومة الفصل العنصري بما في ذلك الإفراج المبكر، إذا تخلى عن الكفاح المسلح وسلم حقوق شعبه وحصر نفسه في بانتوستان. … خلال المفاوضات، اختار هو ورفاقه – مثل الفلسطينيين – عدم الموافقة على أي اتفاقية لا تفي بشروط الحد الأدنى المتعلقة بالكرامة وحقوق الإنسان… أعظم درس هو أن السلام والتسامح والمصالحة لن تتحقق إلا عندما يتمتع جميع الناس بالعدل والحرية والكرامة. (الترجمة لـ د. غانية ملحس في موقع ملتقى فلسطين )
يثير هذا النص نقاشاً مهماً ينبغ من إغراء المقاربة بين التجربتين الجنوب إفريقية والتجربة الوطنية الفلسطينية، سيما أن الطرفين واجها استعماراً استيطانياً، مع الفارق أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي اتسم بالطبيعة الإجلائية (لأهل الأرض الأصليين) والإحلالية لليهود المهاجرين ـ المستوطنين، كما اتسم بالطابع الأيديولوجي ـ الديني. كما تنبع أهمية النقاش هنا في المفاضلة بين شكلي الكفاح المسلح، والشعبي، سواء على الطريقة الهندية (تجربة غاندي) أو الجنوب إفريقية (تجربة مانديلا).
في هذا الصدد يبدو الكفاح السلمي في الصراع ضد استعمار استيطاني إجلائي عنصري، كما يتمثل في إسرائيل، غير مقنع البتة، إذ لا يمكن لدولة هكذا طبيعتها وقامت بوسائل القوة، أن تقتنع بالحقوق المشروعة للفلسطينيين بوسائل الحوار، وبالكفاح السلمي، حتى لو تعلق الأمر فقط بالحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة.
وفي الحقيقة فإن "السلمية" هنا تبدو مجرد اعتقاد أيديولوجي آخر، لا علاقة له بمعرفة إسرائيل، ولا بالعقلانية ولا بالواقع.
أولاً، لأن إسرائيل لم تقم بالوسائل السلمية والديمقراطية أصلاً، ونحن لسنا إزاء دولة عادية نشأت بفضل تطور المجتمع اليهودي في فلسطين، وإنما إزاء دولة استعمارية أنشأتها حركة سياسية ظهرت في أوروبا، وجلبت مجتمعها بوسائل الاستيطان، وفرضت نفسها في البلاد بواسطة السلطة الاستعمارية (بريطانيا)، وبوسائل القوة العسكرية.
ثانياً، لأننا إزاء دولة استيطانية، ذات طابع اقتلاعي (للسكان الأصليين) وإحلالي (لليهود المهاجرين)، أي أنها تختلف حتى عن النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري (الأبارثايد)، الذي كان سائداً في جنوب إفريقيا، والذي لم يطرد السكان الأصليين، ولا حاول مصادرة تاريخهم وحرمانهم هويتهم. ولعل هذا يفسّر أن إسرائيل ترى علاقتها الصراعية مع الفلسطينيين ذات طابع صفري، أي من طبيعة الصراع الوجودي، الذي يتضمن عمليات الإزاحة والنفي والمحو من الزمان والمكان، في المعنى والمبنى، أي أنها ليست علاقة إخضاع وتهميش واستغلال فقط.
ثالثاً، لأن إسرائيل هي دولة ذات طابع أيديولوجي – ديني، ودول كهذه حتى لو كانت تشتغل وفق القواعد الديمقراطية، فإنها تشتغل، أيضاً، وفق قواعد النظم الشمولية، التي تتأسس على الهيمنة على المجتمع، وتنميطه وفق مفهوم ثقافي وهوياتي أحادي وتعسفي. ولا شك في أن هذه القواعد تشتغل بنجاعة في المجتمع الإسرائيلي، بحكم أنه مجتمع مهاجرين – مستوطنين، تجمعهم الفكرة الصهيونية، القومية والدينية. فهؤلاء من جهتهم في حاجة إلى خدمات الدولة وامتيازاتها. وفي المقابل فإن أجهزة الدولة (الجيش ووسائل الإعلام ومؤسسات التعليم والقطاع العام والضمان الاجتماعي…) تضطلع بدور ماكينة الصهر، التي تشتغل على خلق مجتمع مؤدلج، يعي ذاته، والآخرين، وفق المحددات التي رسمتها.
هذا هو الوضع الذي يقف إزاءه الفلسطينيون منذ أكثر من ستة عقود، في واقع دولي وإقليمي وعربي بدا مواتياً لقيام إسرائيل، ولتطورها، وتفوقها، في حين أنه كان عاملاً كابحاً لكفاحهم، وحتى لكينونتهم كشعب.
القصد أن دولة هذه مواصفاتها لا يمكن أن تتخلّى عما سلبته من شعب آخر، بوسائل القوة والغلبة، وضمنه تشريدهم من أرضهم، وأن تعيد لهم كل ذلك، أو بعضه، بوسائل الإقناع، والنضال السلمي. ومشكلة الكفاح السلمي لا تقع على عاتق الفلسطينيين فقط، وإنما تقع على عاتق إسرائيل أساساً، بحكم طبيعتها، ورؤيتها لذاتها. فحتى لو ذهب الفلسطينيون في هذا الاتجاه وتبنوا "الغاندية"، فإنها لن تثمر، مع الحالة الاستعمارية التي تمثلها إسرائيل.
ولعل معنى كهذا يمكن استنتاجه من هنه أرندت، أيضاً، في قولها: "لو أن استراتيجية غاندي الناجحة والقومية، التي قامت على مبدأ المقاومة اللاعنفية، وجدت نفسها، مضطرة لمجابهة عدو آخر – روسيا ستالين، مثلاً، أو ألمانيا الهتلرية، أو يابان ما قبل الحرب، بدلاً من إنجلترا – فمن المؤكد أن النتيجة ما كان أبداً من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل مجزرة وخضوع عامّان".
في المقابل، ثمة أيضاً سذاجة وافتقاد للواقعية والعقلانية، في الاعتقاد بأن الكفاح المسلح فقط، على نحو ما جرّبه الفلسطينيون، طوال العقود الماضية، يمكن أن يحرر فلسطين، أو يستعيد حقوق شعبها. هذا ينطبق، أيضاً، على الاعتقاد بأن الفلسطينيين وحدهم، بكفاحهم المسلح وبغيره، يمكن أن يهزموا إسرائيل، أو أن يحرروا الضفة الغربية، مثلاً.
ربما يجدر لفت الانتباه إلى إننا نتحدث اليوم عن تجربة بات عمرها خمسة عقود، وفي غضون تلك الفترة، مع أثمانها الباهظة، ليس فقط لم تتغيّر معادلات الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما تعرض مجتمعهم، ووجودهم، في الداخل والخارج للانكسار، والتهشيم، في حين تواصل إسرائيل تطورها وتفوقها في هذه المنطقة.
ما ينبغي إدراكه هنا أن إسرائيل تمتلك، في المربع العسكري، تفوقاً هائلاً، من حيث قوتها العسكرية، ونمط تسليحها، ومستوى إدارتها، وإضافة إلى ذلك فهي تمتلك قوة مضافة تتمثل بضمان الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، لأمنها ولتفوقها. وفوق قوتها العسكرية ودعم الدول الكبرى، تمتلك إسرائيل القوة النووية أو ما تسميه سلاح "يوم القيامة".
ما الحل إذا؟ القصد من ذلك النقاش القول، أولاً، إن الكفاح المسلح وحده، أي من دون أشكال المقاومة الشعبية، والعمل السياسي، لا معنى له كغاية في ذاته، إذ في هذه الحال لا يمكن تثميره، لا داخلياً في بناء المجتمع الفلسطيني، ولا خارجياً في إثارة التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، أو في جلب التعاطف الدولي. ثانياً، أن الكفاح الفلسطيني وحـده، أي المسلح والشعبي والسياسي، يحتــــاج كي يثمر، أو حتى يحدث انكساراً في إسرائيل، إلـى متغيرات عدة، يأتي في مقدمها: تغيّرات في المعادلات الدولية، وتغيّرات في البيئة العربية المحيطة، وتغيّرات ثقافيّة وسياسيّة في إسرائيل ذاتها، أو أقلّه، يحتاج إلى واحد من هذه التغيرات. وثالثاً، إن الفكرة الأساسية هنا تتعلق بضرورة إدراك الفلسطينيين أهمية ترشيد أشكال كفاحهم، وضمنه الاقتصاد في تصريف طاقتهم، والمـــوازنة في نشاطاتهم، بين حاجتهم لبناء كياناتهم ومؤسساتهم السياسية والمجتمعية، وبين كفاحهم ضد عدوهم، وأيضاً بين أشكال كفاحهم، ومستوياتها، وبين الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، حتى لا تتبدّد تضحياتهم، وكي يستطيعوا المراكمة على منجزاتهم.
قصارى القول، المشكلة لا تكمن في انتهاج المقاومة السلمية أو المقاومة المسلّحة، بقدر ما تكمن في المزاجيّة، والتخبّط، وعدم إخضاع الخيارات والتجارب للدراسة والتفكير والمراجعة، والقياس على إمكانيات الشعب الفلسطيني والظروف المحيطة. على ذلك فإن أية مقاربة مع أية تجربة ثورية أخرى، سواء الهندية أو الجنوب إفريقية أو الجزائرية أو الفيتنامية يفترض أن تأخذ الظروف الخاصة بالكفاح الفلسطيني، والمعطيات العربية والدولية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.