انتهى قبل ساعات اللقاء الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، في قصر الرئاسة في بعبدا، دون أن يتمكن رئيس البلاد من إنجاح هذا اللقاء الذي جاء في ظل الأزمات التي تعصف بلبنان.
حيث غابت معظم القوى السياسية عن اللقاء، وبقي حزب الله وحلفاؤه وحيدين في فوهة المدفع، فيما بدا أن جبران باسيل يحمل وحده كُرة النار مع حزب الله، والذي قد يتخلى عنه حال نجحت طهران في الاتفاق مع الإدارة الأمريكية القادمة، سواء بقي ترامب أو فاز بايدن، وقد يبقى هو وحيداً كنموذج عن الأداء السياسي الذي يؤدي لانهيارات في الاقتصاد والسياسة، فيما يحرص باسيل على جمع القوى السياسية معه في "عمق الأزمة" التي لا أفق لها حتى الآن.
التعويل على بري في جمع النصاب
ليست الأزمات السياسية، ولا الاقتصادية المالية والمعيشية، ما يدفع الرئيس ميشال عون إلى ترتيب لقاءات الصلح والتهدئة، تارة مع بري وتارة مع جنبلاط، بل يسعى الرجل لإنقاذ صهره الوزير السابق جبران باسيل، الذي يريد تجنيبه أي شكل من أشكال الضغوط أو العقوبات الأمريكية، والتي إن أصابت صهره فقد يستحيل عليه الوصول إلى سدة الرئاسة في الانتخابات المزمعة بعد عامين.
وخاصة في ظل الحديث عن حزمة جديدة من العقوبات الأمريكية التي قد تطال شخصيات لبنانية على صلة بنظام الأسد وحزب الله، ويخشى أن تشمل صهر الرئيس الحريص على تغطية الحزب للوصول للرئاسة.
كما أنه قبل 9 أيام على الموعد المحدد للقاء، تَسرّب الحديث عن دعوة ميشال عون إلى مثل هذا اللقاء، وتحديداً موعده بعد مشاورات شملت كلّاً من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة حسان دياب.
وتزامَن الحديث يومها عن طلب عون من بري المساهمة بقوة من خلال علاقاته الشخصية والحزبية النيابية، لإقناع وضمان حضور جميع المدعوين، وخصوصاً ممّن يتوقع مقاطعتهم كرئيس الحكومة السابق سعد الحريري ومعه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
فاستقبلهم الحريري وفرنجية على مدى يومين، لكنهم لم يعطوا بري جواباً واضحاً حول تأكيد مشاركتهم من عدمها، وكان كل من رافق لقاءات بري تحدثوا عن دوره في ترتيب اللقاء بدلاً من رئيس الجمهورية وقدرته على توفير النصاب للقاء بعبدا.
بل تَسرّب عن قصد أو غير قصد أنّ بري، إضافة إلى توليه مهمة توحيد أرقام الخسائر المالية في مصرف لبنان والمصارف اللبنانية في رعاية مجلس النواب، والتي سببت الأزمة مع صندوق النقد الدولي، سيكون هو القادر على توفير النصاب في اللقاء الوطني، وأنه الوحيد القادر على إقناع المقاطعين بالمشاركة فيه بسبب عجز رئاسة الجمهورية عن توفيره.
كما أنّ بري هو من سيوجّه الدعوات إلى رؤساء الكتل النيابية للمشاركة في اللقاء، وأنّ رئاسة الجمهورية هي التي ستوجهها إلى رؤساء الجمهورية والحكومات السابقين.
وأمام كل هذه الروايات والسيناريوهات متعددة الوجوه والتفسيرات حول اللقاء المرتقب تزامنت وإطلالة أمين عام حزب الله حسن نصرالله في خطاب ناري، تحدث فيه عن الوضع الداخلي بطريقة أوحَت بخريطة طريق للحكم والحكومة، في كل الاستحقاقات السياسية والمالية المأزومة، وتلك المقبلة على لبنان والمنطقة.
كما استرسل نصرالله في خطابه المحتد متّهماً الولايات المتحدة الأمريكية وشركاء لها في لبنان بمحاصرة البلاد اقتصادياً ومالياً، ومنع إدخال الدولارات إلى لبنان، وهو ما تسبّب في الأزمة النقدية والاقتصادية الصعبة، وطلب التوجّه شرقاً في اتجاه إيران والصين وسوريا والعراق، في مواجهة تداعيات قانون قيصر على لبنان والمنطقة عشيّة البدء بتطبيقه.
ولمّا لم يكن لبنان قد خرج من تداعيات خطاب نصرالله، جاءت جلسة مجلس الوزراء اللبناني، عصر الخميس الماضي، لتوحي أنّ الحكومة انساقت خلف اقتراحاته في التوجّه شرقاً، عبّر عدد من الوزراء في حكومة حسان دياب عن رفضهم لاقتراحات نصرالله واستحالة اللجوء إليها، وعبر بعض الوزراء بالرفض، لاستحالة القيام بما هو مطروح على قاعدة أنّ دولة مفلسة لا يمكنها التعاون مع مجموعة دول محاصرة ومتعثرة، في وقت لبنان فيه بحاجة لحوار مع صندوق النقد الدولي.
وتداركاً لمخاطر التوتر الذي تجدّد مع بروز الجدل حول ما جرى في جلسة مجلس الوزراء، والتخفيف من الشعور بهَيمنة حزب الله على التحضيرات للقاء الوطني الذي دعا له عون، سارعَت رئاسة الجمهورية إلى سحب الملف الاقتصادي من جدول أعمال اللقاء وتحديد جدول جديد.
كما عبّرت دوائر القصر الجمهوري في تصريحات إعلامية مفصّلة أنّ الهدف من اللقاء ليس الوضع النقدي والأزمة الاقتصادية المستفحلة، بل هو لقاء وطني جامع ليؤكد المدعوون إليه ضرورة التصدي للفتنة المذهبية، وتعزيز السلم الأهلي، والتأكيد على الثوابت الوطنية، ويمكن أن يتطرّق إلى الخطة المالية الإصلاحية إن قادت المناقشات إليه ورغب المدعوون في ذلك.
المقاطعة سيدة الموقف
تقول مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" إن رئيس مجلس النواب نبيه بري حاول إقناع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري كزعيم فعلي للسنة في لبنان، بالإضافة لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الخصم اللدود والمنافس الأهم لجبران باسيل، ومن خلفهم رؤوساء الحكومات السابقون وحزب القوات اللبنانية، بضرورة المشاركة في اللقاء الوطني في بعبدا.
إلا أن الحريري بقي متمسكاً بموقفه بالمقاطعة، حتى إن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط حرص على إقناع الحريري بضرورة المشاركة في اجتماع بعبدا من بوابة نبيه بري، وأنها لن تمنح رئيس الجمهورية أوراقاً إضافية يبحث عنها، بل على العكس، فهي أظهرت عدم قدرته على أن يكون جامعاً وطنياً نتيجة انحيازه لمشاريع صهره باسيل، والأهم أنّها ستعزز موقع الرئيس نبيه بري داخل معادلة الحكم، وستعطيه أوراقاً أفضل لمواجهة الرئيس عون وتركيبته داخل السلطة.
لكن المشكلة بالنسبة للحريري تكمن في المعارضة السنّية الواسعة، والتشدّد الذي يبديه الرئيسان فؤاد السنيورة وتمام سلام، فيما كان الرئيس نجيب ميقاتي يقف في منتصف الطريق قبل اتخاذ قراره بعدم المشاركة، وهذا الواقع يكبّل الحريري ويستبق أي ليونة قد يُظهرها.
ويرى المصدر أن الحريري حريص على تكامل مواقفه مؤخراً مع رؤوساء الحكومات السابقين لعدم استغلال أي خلاف قد ينشب، فيما أعلن تباعاً سليمان فرنجية المقاطعة بعد يوم واحد على زيارته لدارة الحريري في بيروت، ولحقه في الموقف كل من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل، والرئيسين السابقين أمين الجميل وإميل لحود.
فيما قرَّر جنبلاط تخفيض تمثيله في المشاركة بإرسال نجله تيمور، ليكون الحضور هم أهل بيت الحكم وحلفاء حزب الله، فيما العلامة الفارقة كانت مشاركة الرئيس السابق ميشال سليمان، والذي يعارض عهد عون، الحريص على مجابهة صهره باسيل.
اللواء إبراهيم والحريري
بعد عدم استجابة الأطراف لمبادرة بري بالمشاركة، استعان عون بخبرة مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم في فن التفاوض والإقناع، وهو اللاعب الحقيقي على خط حل الأزمات السياسية والمالية والأمنية، ورغم ذلك كانت الصعوبات لا تزال تتحكّم بقرار مشاركة الحريري وفرنجية.
وخلال لقاء الحريري مع اللواء إبراهيم، استفاض الحريري في الحديث عن مرارته من الطريقة التي عومل بها، وخصوصاً من قِبل النائب جبران باسيل. وأضاف متسائلاً: لماذا تريدون مني الحضور والمشاركة في اللقاء، لأساعد عهد العماد عون في خضم الانهيار الذي أصابه، وهل من العدل أن أسعى لإعادة تعويمه وصهره المأزوم، والذي تسبب في انهيار البلد، بسبب حرصه على ابتلاع كل شيء والسيطرة على البلد.
وفي المقابل، شرح اللواء إبراهيم أنّ الاجتماع لا علاقة له بتعويم العهد، بقدر ما هو مخصّص لتعويم وإنقاذ البلد. ونصح الحريري بعدم تكرار خطأ المسيحيين التاريخي في العام 1992، حين انكفأوا عن الدولة، ليصبحوا بعدها خارجها حتى العام 2005، وهو ما تسببت في فقدان التوازن في البلد، لكن الحريري تشبَّث بموقفه، وعزّزه بالرفض، فالشارع السني لم يعُد يريد التنازل لفريق يحاول قضم صلاحيات رئاسة الحكومة.
ويرى مصدر سياسي مقرّب من تيار المستقبل، أن سبب المقاطعة الحقيقي هو إيمان معظم الأطراف أنها لا تريد التورط في خيارات عهد باسيل وحزب الله، في ظل تحديات قانون قيصر والضغوط المستمرة على إيران ومِن خلفه حزب الله.
ويؤكد المصدر أن العهد الحالي بات تحت مرمى الخصومة مع واشنطن، في ظل التعنت المستمر لحزب الله بمقارعة الولايات المتحدة، وهذا ما برز من خلال تمرير التعيينات المالية دون التجديد لمحمد بعاصيري، نائب حاكم المصرف، والذي تدعمه واشنطن، وحاولت فرضه على الحكومة إما نائباً جديداً للحاكم، أو رئيساً للجنة الرقابة على المصارف، لكن حزب الله ومعه عون وباسيل رفضوا الطلب الأمريكي.
ويؤكد المصدر أن اللقاء فشل لكون معظم الأطراف غابت عن اللقاء، وبقي في مشهد السياسة الحالي حلفاء حزب الله، أي لا أحد جاهزاً لمواجهة الإرادة الدولية وتغطية سياسات الوزير جبران باسيل ومشاريعه.
مشادة سليمان والفرزلي
حكم على اللقاء بالفشل قبل انعقاده، لا حضور وازناً لا للسنة ولا للمسيحيين، وجنبلاط خفض تمثيله، والمشادات الكلامية سيطرت على الموقف، خاصة بعد المؤتمر الصحفي لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، قبل يومين من اللقاء، لتُعيد إحياء الأجواء السلبية إزاء الدعوة، ولتزيد من نسبة القلق على مصير اللقاء وإمكان تلبية دعوة رئيس الجمهورية.
افتتح اللقاء اليوم بحضور ضعيف، حاول عون الاستعاضة عن المشاركة السنية بالقول إن دياب رئيس الحكومة هو السني الأول، وإن اللقاء التشاوري السني، أو ما يسمى سنة حزب الله ستتمثل بالنائب فيصل كرامي، ما زاد من تشبث الأطراف المقاطعة بمواقفها، لكن المشادة بين الرئيس السابق ميشال سليمان ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي عكرت صفو اللقاء المشحون.
وبحسب مصادر "عربي بوست" فإن الرئيس سليمان خلال مداخلة له قال إن نقض حزب الله للاتفاقات حال دون تنفيذ تعهدات الدولة، وتسبب في عزلتها القاتلة، وفقدان مصداقيتها وثقة الدول الصديقة وأهلنا في الانتشار والمستثمرين والمودعين والسياح، ما أسهم في تراجع العملة الوطنية.
فيما ردّ كل من نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي ورئيس كلتة حزب الله البرلمانية النائب محمد رعد على المداخلة التي أدلى بها الرئيس ميشال سليمان خلال اللقاء الوطني في بعبدا، وتركّز الرد على الدفاع عن المقاومة وسلاحها، ورفضا محاولات نقل وجهة النظر الأمريكية للجلسة، والتي تناصب المقاومة العداء.
تبعات فشل اللقاء
يرى متابعون أن تبعات فشل لقاء اليوم ببعبدا ستكون نقطة فارقة في عهد عونـ باسيل، وانتكاسة لمحاولات باسيل الخروج من الأزمة بأقل الأضرار، حيث إن الجميع متفق على تحميل تبعات الانهيار وما ينتج عنه للوزير باسيل، لتسببه في هذا الشرخ السياسي، حتى ضمن فريق 8 آذار، وتطلعاته للحكم دون التفكير في المصلحة الوطنية العليا.
فيما يرى أستاذ الاجتماع السياسي في معهد الدوحة، الدكتور سعود المولى، أن اجتماع بعبدا سعى لتعويم شخصيات وقوى كنا قد نسينا عمالتها، فعادت تنظر إلينا بعفة ونظريات أخلاقية في السياسة، ويؤكد المولى أن اللقاء هو إثارة للحرب الأهلية عبر تجاهل الوضع الكارثي للبلد.
ويُشدِّد سعود المولى على أن لقاء بعبدا، وخطاب رئيسه، وبيانه الختامي الذي تلاه الوزير سليم جريصاتي، وتعبيراته البعثية التي تتزامن مع اعتقالات وتوقيفات من البقاع والشمال، إلى فبركة الملفات وتهم العمالة للمعارضين، كلُّها تؤكد أن اللقاء كان فاشلاً في الشكل والمضمون.