وأنا مالي، ما علاقتي بهذا الأمر، لا توجد لي أي علاقة مباشرة بمثل هذه الأمور السياسية والاقتصادية، إنها مسؤولية الدولة أو الحكومة، فهي من تقترض، وهي من تتفاوض على شروط القروض وموعد السداد، وهي من تسدد، وهي من تحدد أوجه الإنفاق، وهي من تقرر ما إذا كان القرض سيوجه لتمويل واردات القمح والأغذية والمشتقات البترولية، أو لسداد أعباء وفوائد ديون، أو حتى لشراء سلاح، وبالتالي لا علاقة لي بالأمر من قريب أو بعيد.
ربما يصدر هذا التعليق عن مواطن مصري بسيط رداً على أنباء سمعها أو قرأها حول إجراء حكومة بلاده مفاوضات "ماراثونية" للحصول على قروض خارجية جديدة منها 5.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وأن المجلس التنفيذي للصندوق سيبت في الطلب المصري يوم الجمعة القادم 26 يونيو/حزيران، أو التفاوض للحصول على قروض ما تعادل هذا الرقم من مؤسسات مالية إقليمية أخرى، منها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية وبنوك إماراتية وغيرها.
تعليق هذا المواطن ليس الأول من نوعه، بل قد يتردد على لسان ملايين المصريين الذين لا يعنيهم ملف القروض الخارجية من قريب أو بعيد، فهمهم الأول لقمة العيش، وتدبير احتياجاتهم اليومية حتى ولو جاءت أيضاً عبر القروض والاستدانة كما تفعل الحكومة.
بل وينظر هؤلاء إلى قضية الاقتراض ومخاطره الشديدة على الوطن والاقتصاد من زاوية أن هذه قضايا "النخبة" والمثقفين وخبراء الاقتصاد، ولا شأن للمواطن العادي بها رغم أن حال ذلك المواطن لا يختلف كثيراً عن حال الحكومة في قصة الاقتراض؛ وإن كانت النتيجة النهائية للسلف قد تكون، من وجهة نظر الفرد العادي، أقسى وأشد وطأة إذا غرق في وحل الديون، سواء من البنوك أو عبر بطاقات الائتمان، أو عبر الاستدانة ممن حوله، هنا يمكن أن يتحول المواطن إلى شخص ضائع، تائه مشتت الذهن، تتحول حياته إلى دمار وشلل، لا يحدد أولوياته بسهولة، وربما يقوده التعثر المالي في النهاية إلى غياهب السجون.
لكن العكس هو الصحيح، فقروض الحكومات والدول ربما تكون نتائجها أسوأ كثيراً من قروض الأفراد، ذلك لأن الحكومة تقترض وتغرق الاقتصاد والبلاد والمواطن نفسه وأولاده وأحفاده في وحل الديون، وبعدها ترحل تاركة عبء سداد الديون للأجيال الحالية أو المستقبلية بدلاً من أن تترك لهم ثروات وأصولاً ومصانع ومشروعات وبنية تحتية قوية ومدارس وجامعات ومستشفيات حديثة وشبكة طرق حديثة.
وربما تتسبب الحكومات في حال التوسع المفرط في الاقتراض في رهن القرار السياسي والاقتصادي والمالي للبلاد لسنوات طويلة، وربما تصل إلى مرحلة يكون فيها المواطن والاقتصاد أجراء عند كبار الدائنين وفي المقدمة صندوق النقد الدولي الذي اقترضت منه الحكومة المصرية ما يقرب من 15 مليار دولار في فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات ونصف السنة، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم لأكثر من 20 مليار دولار خلال أيام.
دوامة القروض
والأخطر من كل ذلك دخول الدولة مرحلة "دوامة القروض"، وهي اقتراض الحكومة لسداد قروض مستحقة، وهو ما أكده وزير المالية المصري، محمد معيط، حينما اعترف أكثر من مرة بأن الحكومة باتت تستدين لتسديد أعباء الديون القائمة سواء الخارجية أو المحلية.
لا يتوقف الخطر عند هذا الحد، بل باتت الدولة توجه كل إيراداتها من ضرائب وإيرادات سيادية ودخل قناة السويس وغيرها من إيرادات الخزينة العامة للدولة لسداد بند واحد هو الديون المستحقة على الدولة.
والدليل ما كشفته بيانات وزارة المالية المصرية قبل أيام أن الحكومة مطالبة بسداد أقساط قروض وفوائد مستحقة في العام المالي 2020/ 2021 الذي يبدأ العمل به بداية شهر يوليو/تموز المقبل، أي بعد أيام، بقيمة 1.121 تريليون جنيه منها سداد أقساط قروض مستحقة قدرها 566 مليار جنيه، وفوائد على أصل القروض بقيمة 555.5 مليار جنيه.
وهذا المبلغ المطلوب سداده يوازي تقريباً إجمالي إيرادات الدولة المتوقع أن تكون بحدود 1.128 تريليون جنيه، في الموازنة الجديدة، وبالتالي فإن فوائد الديون والأقساط المستحقة تلتهم 100% من الإيرادات العامة للدولة خلال العام المالي الجاري، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الموازنات المصرية، بعد أن تسببت عمليات الاقتراض الواسعة خلال السنوات الأخيرة في الوصول بالدين العام إلى ما يقرب من أربعة أضعاف ما كان عليه قبل سنوات قليلة.
علاقة المواطن بالقروض
لكن ما علاقة المواطن المصري العادي بالقروض الخارجية، أو حتى الداخلية التي تتم من البنوك المصرية؟
المواطن، وليس الحكومات، له علاقة مباشرة بملف الاقتراض لأنه هو المسؤول الأول والأخير عن سداد فاتورة تلك الديون وفوائدها وأصلها ومن جيبه وضرائبه مباشرة، وحصيلة سداد تلك الديون تكون عبر:
1- حصيلة الضرائب والرسوم الحكومية، وهنا تكون الضرائب المصدر الأول لسداد الديون العامة سواء الخارجية أو الداخلية، وبعضنا يذكر التصريح الشهير لوزير المالية المصري محمد معيط يوم 18 مايو/أيار الماضي والذي قال فيه إن الضرائب تمثل منذ سنوات ما يتراوح بين 75% إلى 80% من إيرادات الدولة.
ومع زيادة الديون المطلوب سدادها فإن الحكومة ترفع الضرائب على المواطنين، أحدث مثال على ذلك ما أعلنته وزارة المالية من أنها تستهدف زيادة الإيرادات الضريبية خلال العام المالي الجديد 2020-2021 بنحو 12.6% لتصل إلى 964.777 مليار جنيه.
2- خفض الدعم الحكومي المقدم للسلع الرئيسيّة كالبنزين والسولار والغاز، أو خفض الدعم المقدم للخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه، وربما تتوقف الحكومة عن تقديم الدعم أصلاً كما هو الحال مع بعض أنواع الوقود لتدبير قيمة الدين المستحق للدائنين.
3- خفض المخصصات الحكومية الموجهة لأنشطة وخدمات رئيسية مثل التعليم والصحة والبحث العلمي.
4- بيع أصول الدولة من مصانع وأراض وغيرها لسداد مستحقات الدائنين، وفي حال التوقف عن السداد يتم الحجز على أصول الدولة في الخارج.
5- تجميد زيادة الرواتب بحجة وجود التزامات مالية على الدولة يجب سدادها، وإلا تتعرض البلاد لمخاطر اقتصادية ومالية.
ومع التوسع في الاقتراض الخارجي والداخلي قد تصل الحكومة إلى مرحلة يتم تخيير المواطن فيها بين سداد الديون أو زيادة الرواتب، دعم رغيف الخبز والمواصلات العامة، أم سداد أقساط الديون، بناء فصول مدارس ومستشفيات، أم سداد الديون الخارجية والحفاظ على صورة البلاد أمام العالم الخارجي عبر سداد الالتزامات المستحقة.
الآن، هل لا زلتَ مصراً على رأيك القائل بأنك لا علاقة لك بملف القروض من قريب أو بعيد، وأن هذا شأن حكومي بحت؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.