لم تنخرط روسيا في الحرب الأهلية الليبية بهدف دعم فريق ضد الآخر فحسب، بل هي لا تخطط للخروج من هناك.
ويكشف لنا سعي موسكو لمحاولة فرض خطوط حمراء على حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة، كل ما نريد معرفته عن نفوذها المتصاعد في ليبيا. لكن على عكس دورها في الحرب الأهلية السورية، لا يكبدها تدخلها في ليبيا سوى تكلفة قليلة.
وقد خسر حليف روسيا، المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، في الحملة العسكرية التي استمرت 14 شهراً للاستيلاء على العاصمة طرابلس. وتمكن خصومه على رأس قوات حكومة الوفاق الوطني، بدعم من الميليشيات المتطرفة، من مطاردة قواته إلى مسافات بعيدة صوب شرقي البلاد.
ويوم الإثنين 8 يونيو/حزيران، توقفت مكاسب قوات حكومة الوفاق العسكرية عند مدينة سرت الساحلية الاستراتيجية وقاعدة الجفرة الجوية، حيث تتمركز 14 طائرة روسية من طرازي "ميغ-29″ و"سو-24" وفقاً للجيش الأمريكي.
ومع ذلك، لم تحظَ حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من تركيا، إلا مؤخراً بمباركة عسكرية كاملة من الولايات المتحدة.
ووضعت المبادرة السياسية لمحادثات السلام، التي أعلنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يوم السبت 6 يونيو/حزيران، بدعم من واشنطن وموسكو ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي، حجر عثرة أمام حكومة الوفاق الوطني، وأدت إلى فتح الشهية للوصول إلى صفقة سلام وأفسحت المجال أمام خروج حفتر. وبعد قلب موازين القوى لصالح حكومة الوفاق الوطني على حساب حفتر؛ بسبب المساعدة العسكرية السخية من تركيا، باتت حكومة الوفاق تواجه طريقاً مسدوداً.
وكان أنصار حفتر، بما في ذلك روسيا ومصر والإمارات، واضحين: أية محاولة من حكومة الوفاق الوطني للزحف بجيشها لما بعد سرت سيأتي بنتائج عكسية. من جانبيهما، ترى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نافذة أمل لعقد مفاوضات يُحتمَل أن تنهي سنوات من الصراع.
وتطرح روسيا رواية بسيطة حول تدخلها: تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والغرب للإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011 دمر ليبيا؛ ومن ثم هي هناك لإصلاحها. ولذلك يريد الرئيس فلاديمير بوتين أن يُبرِز نفسه على أنه الوسيط الوحيد لتحقيق السلام. وهذا سيسمح لروسيا بتوسيع نفوذها على منطقة البحر المتوسط وجناح الناتو الجنوبي. وسيساعد كذلك موسكو على التأثير في صناعة النفط تأثيراً أكبر وتأمين الظفر بعقود البنية التحتية المربحة في ليبيا.
لكن زعيم روسيا يواجه ثلاث معضلات: أولاً، كشفت الانتكاسات الأخيرة عن مخاوف شديدة بشأن تكتيكات حفتر العسكري والقيادي.
ثانياً، تأتي قضية الشرعية. فعلى الرغم من أنَّ الأمم المتحدة تعترف بحكومة الوفاق الوطني والبرلمان في الشرق، الذي يشيد بحفتر، يستند الولاء على الأرض إلى مصالح قبلية وأيديولوجية وسياسية مختلفة وأكثر تعقيداً.
وبالنسبة لمصر والإمارات، يمثل حفتر قوة موحدة ضد ما يسميه السفير الأمريكي المعين حديثاً ريتشارد نورلاند بـ"الميم الثلاثية" -أو three M's- نسبة إلى: الميليشيات وتوزيع الأموال في جميع أنحاء البلاد وجماعة الإخوان المسلمين.
أما بالنسبة لروسيا، فكلما كان الجزء الذي يسيطر عليه حفتر من الأراضي الليبية أكبر، زادت الشرعية التي سيحصل عليها من مؤيديه الأجانب والقبائل المُشَجّعَة. وما دام حفتر يحافظ على سيطرته على موارد الطاقة ومساحة أرض شاسعة، يمكن أن تظفر روسيا بقوة كبيرة في ليبيا.
أما المعضلة الثالثة التي تواجه روسيا فتتمثل في تأخر عملها هناك عن الولايات المتحدة في ليبيا. ويشجع دبلوماسيون أمريكيون وبريطانيون حكومة الوفاق الوطني على إحباط مساعي روسيا لبناء قاعدة عسكرية على ساحل البحر المتوسط الليبي للمرة الأولى منذ تفكيك القواعد السوفييتية في طبرق وطرابلس. وسيسجل تحقيق ذلك انتصاراً استراتيجياً بارزاً في كل من واشنطن ولندن.
وتعني التطورات الأخيرة، يرافقها النهج الدبلوماسي العدواني الذي يتبناه نورلاند، أنَّ روسيا تواجه أكبر اختبار لها حتى الآن. ويأتي ذلك بعد أن أدرك الغرب سريعاً أنَّ مرتزقة شركة فاغنر الروس الذين يدعمون حفتر "ليسوا مقاتلين استثنائيين ولم يحققوا الكثير"، مثلما أخبرني طارق ميغريسي، زميل باحث في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية.
لكن تركز إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حالياً على القضايا المحلية؛ مثل احتجاجات "حياة السود مهمة" الأخيرة، فضلاً عن جائحة فيروس كورونا المستجد وتداعياته الاقتصادية على الولايات المتحدة. لذا، قد يجد نورلاند نفسه مقيداً عندما يتعلق الأمر بمواجهة جهود موسكو.
وهذا يفسر سبب منح تركيا الضوء الأخضر لتمثيل مصالح الناتو في ليبيا.
ويكرر الغرب نفس الأخطاء التي ارتُكِبَت في الحرب بالوكالة ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان خلال الثمانينيات. ففي ذلك الوقت، سمحت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وحلفاؤها لآلاف المقاتلين بدخول أفغانستان ضمن محاولات طرد "الشيوعيين الكافرين". وعندما قرر السوفييت في النهاية التراجع والرحيل، كانت أفغانستان قد امتلأت بالفعل بالمجموعات المتطرفة، من بينها القاعدة، التي ألحقت الخراب بالمجتمعات الغربية في وقت لاحق وساعدت على ولادة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وتغض الولايات المتحدة الطرف بينما يتدفق المقاتلون من سوريا إلى ليبيا. ولا يسع المرء إلا التفكير بأنَّ الولايات المتحدة تخاطر بظهور بؤرة أخرى يعاود فيها "داعش" الانتشار على بعد نحو 200 ميل من ساحل أوروبا. وهذا لا يعني أنَّ المرتزقة السوريين الذين يقاتلون من أجل حفتر ليسوا خطرين على ليبيا والمنطقة. إذ لن يتحقق استقرار ليبيا إلا بطرد جميع المقاتلين الأجانب منها.
ولكي يحدث ذلك، سيتعين على الليبيين أولاً وقف القتال وبدء الحديث؛ ففرص السلام لا تأتي كل يوم في المنطقة.
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.