أدّت المكاسب العسكرية الأخيرة للحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في ليبيا إلى قلب موازين القوى على الأرض وفتح الباب أمام حقائق سياسية جديدة.
إذ لم تكتفِ قوات حكومة الوفاق الوطني بتحرير العاصمة الليبية طرابلس من قوات خليفة حفتر، بل تتقدّم الآن من أجل السيطرة على منطقة غرب ليبيا بالكامل. ونجحت قوات حكومة الوفاق الوطني في قلب كفة المعركة لصالحها ضد حفتر، مدعومةً بالطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع الجوي التركية.
وتُوفّر هذه المكاسب العسكرية فرصةً ذهبية للمجتمع الدولي حتى يضغط من أجل إنهاء الصراع المُطوّل في ليبيا. كما تخلق فرصةً نادرة لزيادة الضغط الدبلوماسي والسياسي على حفتر حتى يقبل بخطة برلين للسلام التي تدعمها الأمم المتحدة، والتي ربما تكون السبيل الوحيد لإنهاء هذه الحرب الأهلية الدموية والمُفسِدة في ليبيا.
المبادرة المصرية
قُتِلَت المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في ليبيا، التي أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسي يوم السبت السادس من يونيو/حزيران، قبل أن تبدأ لعدة أسباب.
أولها أنّها مبادرةٌ أُحادية لم يُدعَ فيها سوى طرف واحد -الطرف الذي تدعمه مصر- لحضور مؤتمر إعلان المبادرة.
وثانيها أنّ المبادرة هي محاولةٌ لإنهاء زخم مكاسب جيش حكومة الوفاق الوطني، ووقف تقدُّمه إلى المدن الأخرى التي تُسيطر عليها قوات حفتر. وثالثها أنّ المبادرة لم تُحدّد أيّ آلية لكيفية تنفيذها أو الإجراء الذي سيجري اتّخاذه في حال رفضها الطرف الثاني، كما حدث حين رفضت حكومة الوفاق الوطني المبادرة.
وآخرها أنّ مصر فقدت مصداقيتها بوصفها وسيطاً نزيهاً في الصراع الليبي منذ دعمت هجوم حفتر على طرابلس. وبالتالي، فمن المستبعد أن تُترجم المبادرة المصرية إلى عملية سلام تقبلها جميع الأطراف.
أجندات متضاربة
منذ الإطاحة بالدكتاتور الليبي معمر القذافي عام 2011، عاشت ليبيا واحداً من أكثر الصراعات فوضويةً وإفساداً وطولاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى غرار المعارك الإقليمية الأخرى، تحوّل الصراع الليبي إلى حربٍ بالوكالة تقودها أطرافٌ إقليمية وعالمية متنافسة ولها أجنداتها المتضاربة، التي تستهدف خدمة مصالحها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية داخل الدولة الغنية بالنفط على حساب الاستقرار.
ويحظى الجنرال الليبي خليفة حفتر بدعم مصر، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وفرنسا، وروسيا. وعلى الجانب الآخر، تحظى حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة، تحت قيادة فايز السرّاج بدعم تركيا وإيطاليا على الجانب الآخر.
وشارك الجانبان في الحرب الأهلية الدموية على مدار السنوات التسع الماضية، دون أيّ مؤشر على انتهاء تلك المشاركة قريباً. ومنذ عام 2014 سيطرت قوات حفتر، المعروفة باسم الجيش الوطني الليبي، على المنطقتين الشرقي والجنوبية من ليبيا واستولت على مرافق النفط في البلاد.
ولم يكُن الجيش الوطني الليبي ليُحقّق ذلك بدون الدعم العسكري، والسياسي، والدبلوماسي، واللوجستي الكبير من داعمي حفتر الإقليميين والعالميين. إذ تنظر مصر والإمارات والسعودية إلى حفتر باعتباره حصنهم ضدّ التشدُّد، في حين تراه فرنسا وروسيا شريكاً قوياً يستطيع تعزيز مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية في شمال أفريقيا.
ومن الناحية الظاهرية، نجد أنّ تلك الأطراف تلتزم بخطط ومفاوضات السلام التي تقودها وتُسهّلها الأمم المتحدة، لكن سلوكياتهم واستراتيجياتهم على الأرض تُروّج للعكس.
انتهاك حظر السلاح
استثمرت أبوظبي أموالاً هائلة في حفتر وزوّدته بأسلحة متطورة. فوفقاً لأحد تقارير الأمم المتحدة، زوّدت الإمارات حفتر بقوةٍ جوية ومعدات عسكرية متطوّرة، مما ينتهك حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة إبان انتفاضة البلاد عام 2011 وزادت قيوده في عام 2014. وتُشير آخر التقارير إلى أنّ الإمارات زوّدت حفتر كذلك بنظام دفاع جوي إسرائيلي من أجل التصدّي لهجمات الطائرات بدون طيار التركية، التي تدعم قوات حكومة الوفاق الوطني.
ولا يخفى على أحد الدعم المصري لحفتر؛ إذ أيّدت القاهرة هجوم حفتر على طرابلس، ووفّرت لقواته المعونة العسكرية واللوجستية والدبلوماسية. إذ ينظر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى حفتر بوصفه شريكاً أساسياً في الحرب التي أعلنها ضد الإسلامويين، مما يجعل حفتر عنصراً أساسياً في رؤيته للأمن القومي.
وتخشى القاهرة وأبوظبي من الدور الإقليمي لتركيا، خاصةً في أعقاب توقيع أنقرة وحكومة الوفاق الوطني لعقود عسكرية وبحرية العام الماضي، مما يمنح تركيا معقلاً جديداً في منطقة شرقي المتوسط يُوفّر لها أفضليةً استراتيجية ضد منافسيها.
وتزداد المخاطر بالنسبة لروسيا وفرنسا؛ إذ تنظر موسكو إلى ليبيا باعتبارها فرصةً جديدة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب أوروبا. لأنّ دعم حفتر في الاستيلاء على طرابلس ربما يمنح موسكو أفضليةً استراتيجية غير مسبوقة يُمكن استغلالها للتأثير على العلاقات مع الغرب، وخاصةً المنافسين الأوروبيين.
وعلى المنوال نفسه، تتراوح أهداف باريس بين مكافحة التشدُّد والهجرة غير الشرعية من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وبين تأمين المصالح الاقتصادية والنفطية والعسكرية. ورغم اعتراف فرنسا رسمياً بحكومة الوفاق الوطني، لكنّها انحازت إلى صفّ حفتر عن طريق تزويده بالدعم العسكري والاستخباراتي خلال هجومه على طرابلس.
استراتيجيةٌ متعارضة
دخل المسؤولون الأمريكيون والروس مؤخراً في حربٍ كلامية حامية الوطيس حول ليبيا؛ إذ اتّهم الجيش الأمريكي روسيا بنشر طائراتها المقاتلة في ليبيا، لدعم مجموعةٍ من المرتزقة الروس العاملين في البلاد. لكن موسكو نفت المزاعم الأمريكية بشدة ووصفتها بـ"المُضلّلة".
ويُسلّط ذلك الضوء على تعقيد وشدة الصراع في ليبيا، وتَحوُّلِها إلى بقعة نزاع أخرى بين القوى العالمية والإقليمية. وفي الواقع، تبنّت الولايات المتحدة استراتيجيةً غير واضحة ومتعارضة تُجاه ليبيا.
إذ دعم الرئيس دونالد ترامب هجوم حفتر على طرابلس، في حين كشفت تعليقات البنتاغون -على الدعم العسكري الروسي- عن علامات الإحباط والقلق حيال تدخّل موسكو المتزايد.
علاوةً على أنّ السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند أعرب عن دعمه لالتزام حكومة الوفاق الوطني بالسلام، ووبّخ "القوى التي تسعى لفرض نظامٍ سياسي جديد بالأساليب العسكرية أو الإرهاب".
وسيُسفر هذا النوع من الرسائل المتعارضة عن نتائج عكسية، وزيادة قوة موقف منافسي الولايات المتحدة -وخاصةً روسيا- كما شهدنا في سوريا.
– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.