بعد نشر الجزء الأول، إليكم الجزء الثاني من مذكرات الطبيب المصري أحمد شوقي الفنجري "إسرائيل كما عرفتها"
مذبحة خان يونس:
بحدوث العدوان الثلاثي علي مصر، أخلى الجيش المصري غزة تحت تأثير الإنذار البريطاني الفرنسي، وهكذا تُركت غزة دونما دفاع. لم يكن الشعب قد أُعد للدفاع عن نفسه، فقام بعض الضباط قبل انسحابهم بفتح مخازن الذخيرة على مسؤوليتهم، وإعطاء السلاح لهم. وقرر اللواء العجرودي، حاكم خان يونس المصري، أن يرفض تسليم المدينة للصهاينة، وعليه فقد تجمعت فيها بقايا قوات الحرس الوطني محدودة التدريب ومعهم المتطوعون من كل أنحاء غزة، وقاتل الجميع في بطولة نادرة، تمكنوا وهم قلة من إبادة لواء إسرائيلي كامل قبل أن ينفد ما لديهم من سلاح ويأسر اليهود من بقي منهم، الحقد الصهيوني لا سقف له… أخرجوا من كل بيوت خان يونس كل رجل عمره ما بين خمسة عشر وستين عاماً تمكنوا من العثور عليه، وهكذا كلما وصل فوج من هؤلاء الرجال كان يؤمر بأن يحفر حفرة في الساحة الكبيرة للبلدة، وما أن يتم الانتهاء من الحفر حتى تُطلق النار على جميع الرجال وعلى مرأى من النساء والأطفال فيسقطون في القبر الذي حفروه، بلغ عدد من قُتلوا يومها ٤٠٠ رجل، ثم دخل الصهاينة مستشفى خان يونس وقتلوا كل الأطباء والممرضات والجرحى على النقالات، واستشهد بينهم الأطباء الثلاثة الذين أهداهم المؤلف كتابه، أما المؤلف فقد كُتبت له النجاة بسقوط جثة أحد الضباط عليه ودخوله في غيبوبة استيقظ منها ليجد نفسه بين الجثث الغارقة في الدماء.
نقل المؤلف بعد ذلك ليعمل في مخيم جباليا، وهذا المخيم هو أفقر وأكبر مخيمات غزة، ويستفيض المؤلف هنا في الحديث عن محاولات جنود الصهاينة اختطاف واغتصاب نساء المخيم، ويروي قصصاً عن تحدي نساء غزة لجنود الصهاينة وشجاعتهن في الدفاع عن أعراضهن، حتى أن سيدة قُتلت مع زوجها أمام أطفالهما وهما يدافعان جنود الصهاينة.
قامت إسرائيل في أواخر أيام احتلال غزة بتجميع الأسر المصرية المقيمة في غزة في منطقة سكنية أُحيطت بالأسلاك الشائكة لإرغامهم على توقيع طلب بالترحيل إلى مصر، وذلك حتى تجعل إخوانهم الفلسطينيين يظنون أنهم قد تخلوا عنهم وقت المِحنة، وحين اتصل الأطباء المصريون العاملون مع الأُمم المتحدة برئيس الأطباء الهولندي الجنسية معلنين عن رغبتهم في البقاء للعمل مع زملائهم في فلسطين، قال الطبيب الهولندي: (لو أخذكم الإسرائيليون إلى المسلخ وجعلوا منكم لحماً مفروماً فإننا لن نتدخل).
حقد أبداه موظفو الأمم المتحدة تجاه المسلمين في مناطق مختلفة من العالم كفلسطين والبوسنة…
تحريف القرآن والحرب الجرثومية:
يروي المؤلف كيف حاولت إسرائيل توزيع طبعات محرفة من القرآن الكريم وتقريرها في المدارس، وحاولت نشر داء الجدري بين أطفال المدارس عن طريق حقنهم بمصل للوقاية من الجدري مصنوع في إسرائيل، وحين رفض المؤلف الطبيب استعمال هذا المصل قبل إجراء اختبارات عليه، قام كبير أطباء الأمم المتحدة الهولندي الذي سبق ذكره بتجريبه بنفسه على عدد من الأطفال بعد تخفيفه، فظهرت عليهم أعراض التسمم الشديد، ومن ثم اقتنع بفحص هذا المصل لدى مختبرات الأمم المتحدة التي أثبتت أن المصل ملوث، هنا لم يجد الطبيب الهولندي بُداً من الاستقالة.
طوابير الإعدام:
سيق المؤلف مع حوالي ٢٠٠٠ من أبناء قطاع غزة إلى صحراء النقب، بين هؤلاء كان جابر، الفتى ذو الثمانية عشر ربيعاً والذي استبدلت ساقه -التي بُترت بعد تعرضها لقنبلة إسرائيلية- بساق خشبية. كان جابر يتوقع أن يعدموا جميعاً مثلما أعدم أبوه وأعمامه قبل ذلك في دير ياسين. وفي الليل كانت تأتي شاحنات تأخذ كل منها ثلاثين رجلاً ولا يسمع الباقون إلا الصراخ وطلقات الرصاص، وحين أصبح الصباح لم يكن قد بقي من الألفين إلا بضع عشرات منهم المؤلف، ولم يكن ومن معه على يقين من إعدام الآخرين، ورجح البعض أن الصهاينة قد أخذوهم أسرى عند انسحابهم من غزة….. وبعد شهرين هطل مطر غزير ففاض وادي غزة. جرفت السيول معها من صحراء النقب مئات الجثث الآدمية، وخرج كل من فقد أحداً من ذويه من أهالي غزة يتعرفون على الجثث، وخرج المؤلف بوصفه طبيباً للعمل على منع انتشار الأوبئة، كان عدد الجثث يتراوح بين سبعمئة وألف، وكانت أم جابر تبحث عن جابر! عرفته برجله الخشبية التي أودع فيها ما استأمنه عليه جاراتها الفقيرات من حلي رخيصة، فلم يجد جابر مكاناً آمناً أفضل من رجله الخشبية، انتزعت أم جابر الرجْل الخشبية… يا الله…. هذه حلي جاراتها.. ها هو جابر أبى إلا أن يعيدها… أمين حتى وهو ميت!
عاد أهل غزة يحصون شهداءهم.. كانوا طوابير تلك الليلة.. عائلة واحدة عاد لها من الجثث ست وعشرون.. لم يبقوا خلفهم إلا النساء.
نهاية مفتوحة:
يُفرد المؤلف فصلاً للحديث عن فنون المقاومة عند أهل غزة -نساءهم ورجالهم، أطفالهم وشيبانهم، فقراءهم وأغنياءهم- ما كان يستحق توثيقاً أكبر من المؤلف، خاصة أنه ذكر أن الصهاينة لم يكونوا يعلنون عما كان يحدث لهم حفاظاً على الروح المعنوية لجنودهم، كما أن افتقار الأهالي إلى قيادة ووسائل إعلام ساهم في ألا تأخذ هذه الأعمال البطولية حظها من التوثيق.
ويختتم المؤلف ذكرياته بنقل حوار نشرته مجلة تل أبيب الصهيونية مع اثنين من الجنود الصهاينة شاركا في قتل الأسرى المصريين، وقد اعترفا فيه بقتل كتيبة كاملة من الأسرى عدد أفرادها ٤٠٠، لاعتقادهما أن قتل المصريين كان واجباً، واعترفا فيه بأنه كانت هناك مسابقة على قتلهم أعدها موشي ديان، وزير الحرب الصهيوني آنذاك، وهذا يثبت أن هذه المذابح جرت بعلم القيادة العسكرية والسياسية في دولة العدو.
وأخيراً.. هذه جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا تُغتفر مع استمرار المأساة، ولكن الواهمين ما زالوا يبحثون عن السلام.
سيحدثونك يا بني عن السلام
رباه
من يصغي إلى هذا الكلام؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.