موسم المضاربة على الجنيه المصري

عدد القراءات
1,755
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/08 الساعة 11:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/08 الساعة 13:15 بتوقيت غرينتش

تجمعت عدة أسباب لتضعف قيمة الجنيه المصري في الأيام الأخيرة، ولتعيد للأذهان الفترات الصعبة التي شهدت فيها العملة المحلية اضطرابات شديدة، ومضاربات محمومة من قِبل تجار العملة، وتراجعات حادة مقابل العملات الرئيسيّة وفِي مقدمتها الدولار، وانتهت الفترة بقرار التعويم المدوي، وتحرير سعر الصرف الذي اتخذته الحكومة المصرية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016 كشرط للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار وعلى فترة 3 سنوات.

من بين تلك العوامل التي ضغطت بشدة على الجنيه المصري خلال الفترة الأخيرة وأدت إلى تراجعه لأقل من 16.22 جنيه للدولار يوم اليوم الخميس 8 يونيو/حزيران هروب الأموال الساخنة من البلاد، وسداد مصر التزامات مستحقة على ديون خارجية من أقساط وأسعار فائدة، والأخطر تراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي عقب تفشّي وباء كورونا، وهو ما أدى إلى فقدان احتياطي النقد الأجنبي 8.5 مليار دولار من قيمته خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين، ليصل إلى 37.037 مليار دولار في نهاية أبريل/نيسان الماضي ‏مقابل 45.5 مليار دولار في نهاية فبراير/شباط.‏

وعلى الرغم من حصول مصر على قروض بالنقد الأجنبي بلغت قيمتها 3.77 مليار دولار في شهر مايو/أيار، وطرح سندات دولية بقيمة 5 مليارات دولار، فإن احتياطي البنك المركزي تراجع بقيمة مليار دولار خلال هذا الشهر ليصل إلى نحو 36 مليار دولار.

الأموال الساخنة

يعد هروب أموال واستثمارات الأجانب الساخنة المستثمرة في أدوات الدين المصرية مثل أذون الخزانة والسندات من أبرز الأسباب التي ضغطت بشدة على العملة المصرية خلال الأيام الماضية وأدت إلى تراجعها مقابل الدولار، وحسب أرقام رسمية صدرت عن البنك المركزي فقد هرب من مصر 21.6 مليار دولار خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين في أكبر موجة خروج للاستثمارات منذ 6 سنوات، علماً بأن عملية هروب تلك الأموال بدأت مع الاضطرابات التي شهدتها أسواق العالم منذ بداية العام الجاري عقب الكشف عن جائحة كورونا في الصين وانتقالها بعد ذلك لإيران ودوّل جنوب شرق آسيا وأوروبا، ثم الولايات المتحدة وبقية دول العالم.

وقبل الكشف عن أرقام البنك المركزي المتعلقة بهروب 21.6 مليار دولار من البلاد خلال شهرين، كشف محمد معيط، وزير المالية، بداية شهر أبريل/نيسان الماضي أن استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية سواء كانت سندات أو أذون خزانة تراجعت من 28 مليار دولار إلى نحو 14 مليار دولار، أي إلى النصف، متأثرة بالصدمة الاقتصادية لفيروس كورونا. وهو ما يعني أن المبلغ الذي سحبه الأجانب يزيد على 25 مليار دولار منذ بداية العام.

وأدى هروب الأموال الساخنة، التي سبق أن حذر منها كثير من خبراء الاقتصاد لأضرارها الكثيرة، إلى حدوث طلب شديد على الدولار في مصر، وضغط كبير على سوق الصرف وأصول البنوك من العملات الأجنبية، والأخطر هنا أنه واكب عملية الهروب تلك بدء تأثر موارد مصر الستة من النقد الأجنبي نتيجة تراجعات شديدة في حركة السياحة والسفر والطيران والتصدير والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغتربين وإيرادات البترول والغاز وقناة السويس.

السياحة

كان قطاع السياحة المصري هو الأكثر تأثراً بأزمة كورونا، ولَم تتوقف الأضرار التي لحقت به على العمالة به والتي تقدر بنحو 10 ملايين ما بين مباشرة وغير مباشرة، بل امتدت التأثيرات إلى سوق صرف والعملة المحلية، حيث فقدت البلاد مصدراً مهماً من السيولة الدولارية اليومية ومغذياً كبيراً للبنوك وشركات الصرافة، وحسب تصريحات وزير المالية محمد معيط، فقد تهاوت إيرادات قطاع السياحة عقب تفشِّي وباء كورونا بعد أن جذب القطاع 12.6 مليار دولار في العام 2019، وحسب قول الوزير في أحد البرامج التلفزيونية: "لدينا قطاعات مثل السياحة والطيران إيراداتها حالياً صفر بسبب أزمة فيروس كورونا".

بل إن معهد التخطيط قدَّر خسائر السياحة المصرية بأنها قد تتراوح بين 75 % و100% في التسعة شهور المقبلة، وأشار المعهد إلى أن السيناريو الأسوأ يفترض استمرار تفشي فيروس كورونا حتى نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهذا يعني انخفاض الحركة السياحية 100%.

تحويلات المغتربين

تعد تحويلات المصريين العاملين في الخارج المصدر الأول للنقد الأجنبي في البلاد، وحسب أرقام رسمية، فإن التحويلات تجاوزت قيمتها 26 مليار دولار في العام الماضي 2019، لكن مع تفشي وباء كورونا وتهاوي أسعار النفط واهتزاز الاقتصاديات والموازنات الخليجية بسبب تراجع الطلب على الخام الأسود، تأثرت تحويلات المصريين المغتربين بشدة، خاصة من دول الخليج التي قامت بتسريح قطاع كبير من العمالة الوافدة ومنها المصرية، أو خفض رواتبها.

وأدت هذه التطورات إلى مغادرة عشرات الآلاف من المصريين منطقة الخليج، وهو ما أدى إلى حدوث تراجع ملحوظ في تحويلات المصريين العاملين بها، وكان المصريون العاملون في الكويت أصحاب النصيب الأكبر من هذه التسريحات، تبعهم المصريون في السعودية والإمارات ثم قطر وسلطنة عمان، وإذا ما أقرت الكويت مشروع قانون يقضي بالاستغناء عن 85% من العمالة الوافدة وبما يعادل 2.8 مليون وافد، فإن الجالية المصرية، ثاني أكبر جالية في الكويت بعد الهندية، ستتراجع بشدة، وهو ما سيؤثر سلباً على تحويلات المغتربين، ويمثل ضغوطاً على الجنيه المصري.

وخطورة تراجع تحويلات المغتربين لا تقتصر فقط على تأثيراتها على الجنيه المصري وسوق الصرف، بل ستمتد التأثيرات للقطاع المصرفي وشركات تحويل الأموال التي تربح عشرات الملايين من الدولارات من العمالة المغتربة في شكل رسوم تحويل وتغيير عملة وغيرها.

إيرادات قناة السويس

على الرغم من النفي الرسمي لتأثر إيرادات قناة السويس بتراجع حركة التجارة العالمية عقب تفشي كورونا وتهاوي أسعار النفط والحرب النفطية الشرسة التي قادتها السعودية ضد روسيا، فإن السلطات عادت بعد ذلك وأقرت بتراجع إيرادات القناة، وحسب تصريحات أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، يوم 3 يونيو/حزيران الماضي، فقد تراجعت إيرادات القناة 9.6٪ في شهر مايو/أيار الماضي مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي، بفعل تأثير تفشي فيروس كورونا على حركة التجارة العالمية. وتعد القناة أحد أبرز موارد البلاد من النقد الأجنبي ومغذياً رئيسياً لسوق الصرف الأجنبي، خاصة أن إيراداتها تصب مباشرة في البنوك، وتوجّه لتمويل واردات مصر من القمح والسلع التموينية والبنزين والسولار، كما تعد إيرادات القناة إحدى أبرز مواد احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي.

الصادرات

لا تتوافر أرقام تعكس مدى تأثر الصادرات المصرية بتفشي وباء كورونا حول العالم وحدوث تراجع كبير في حركة التجارة الدولية، لكن بشكل عام، فإن كل صادرات العالم تأثرت بشدة بالوباء، خاصة مع إغلاق الحدود وتوقف المصانع ومنشآت الإنتاج، مثلاً الصادرات الأمريكية تراجعت في شهر مارس/آذار الماضي لأدنى مستوى لها في 10 سنوات، وبلغت نسبة التراجع 9.6٪، وهي نسبة كبيرة. ومع تراجع حركة التجارة الدولية وتهاوي الطلب على الطاقة حول العالم، فقد تأثرت صادرات مصر من البترول والغاز، وهو ما ساهم في الضغط على الجنيه المصري، خاصة أن الصادرات غير البترولية تعد ثاني أهم مورد للنقد الأجنبي بعد تحويلات المغتربين، إذ بلغت حصيلتها 25.4 مليار دولار في عام 2019.

الاستثمارات الأجنبية

هناك تراجع للاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة على مصر والتي تمثل مورداً مهماً لسوق الصرف الأجنبي وتدعم الجنيه، وهذا التراجع سابق على أزمة تفشي كورونا، وحسب أرقام البنك المركزي المصري في بداية شهر مارس/آذار الماضي، فقد تراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر خلال الربع الثاني من العام المالي الجاري بنحو 163.4 مليون دولار بنسبة 5.9% مقارنة بنفس الفترة من عام 2018-2019. وسجل صافي الاستثمار الأجنبي المباشر نحو 2.6 مليار دولار خلال الربع الثاني من عام 2019-2020 مقابل نحو 2.8 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، ومع تفشّي وباء كورونا هربت الاستثمارات الأجنبية من الأسواق الناشئة متجهةً نحو الأسواق المتقدمة، وهو ما يؤثر سلباً على عملات الدول النامية.

وفورات مالية

أمام هذا المشهد والتراجع الحاد في إيرادات مصر من النقد الأجنبي، خاصة من قطاعات مهمة مثل السياحة والتحويلات شهد سعر صرف الدولار زيادات ملحوظة أمام الجنيه المصري خلال الأيام الماضية، ومن المتوقع أن تستمر الزيادة بعض الوقت، لكن في مقابل التراجع حدثت بعض الوفورات المالية لمصر من النقد الأجنبي بسبب تراجع فاتورة الوقود والأغذية، فحسب البيانات فقد تهاوت أسعار النفط لتخسر نحو 70% من قيمتها خلال الربع الأول من العام الجاري، كما كشفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) يوم 4 يونيو/حزيران الماضي أن أسعار الغذاء العالمية انخفضت بنسبة 1.9% في مايو/أيار الماضي لرابع شهر على التوالي، إذ تضررت بفعل التداعيات الاقتصادية جائحة فيروس كورونا التي حدت من الطلب. علماً بأن مصر أكبر مستورد للقمح والزيوت في العالم.

سيناريوهات المستقبل

في ظل هذه المؤشرات، فإن السؤال المطروح هو: هل من المتوقع استمرار تراجع الجنيه المصري مقابل الدولار، وبالتالي عودة المضاربات المحمومة على العملة المصرية كما جرى قبل التعويم، وبالتالي زيادة حيازة الدولار وتنامي ظاهرة "الدولرة" من قِبل المتعاملين في السوق مقابل التخلص من العملة المحلية وتراجع الادخار بها؟

هذا الأمر يتوقف على ثلاثة أمور رئيسية هي:

1- الوقت الذي يحتاجه الاقتصاد المصري لاستعادة عافيته، وبالتالي إعادة النشاط للقطاعات الست المدرة للنقد الأجنبي، فإذا عاد النشاط بسرعة وقوة لأنشطة حيوية مثل السياحة وتحويلات المغتربين والصادرات، فإن ظاهرة المضاربة على الدولار وزيادة سعره مقابل الجنيه قد تنحسر، ساعاتها قد يشهد سعر الدولار بعض التذبذب وليس الصعود المتواصل كما كان يحدث قبل تعويم الجنيه، لكن هذا السيناريو مستبعد في الأجل القصير، خاصة أن إعادة نشاط مثل التحويلات الخارجية تتوقف على تعافي أسعار النفط وانتعاش الاقتصاديات الخليجية، كما أن إعادة النشاط لقطاع السياحة تحتاج إلى شهور، ومن المستبعد عودة الأموال الساخنة إلى البلدان النامية في المستقبل القريب في ظل الاضطرابات العنيفة في أسواق المال الدولية.

2- حجم القروض قصيرة الأجل التي تحصل عليها الحكومة لتعويض النقص من الأنشطة التقليدية، علماً بأن الحكومة حصلت على قروض تبلغ 8.77 مليار دولار، كما كشف صندوق النقد الدولي يوم الجمعة 5 يونيو/حزيران عن تفاوض مصر على قرض جديد بقيمة 5.2 مليار دولار ولمدة عام، وهناك مفاوضات للحصول على قروض من مؤسسات مالية وإقليمية أخرى، منها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، وهذه القروض تغذي احتياطي مصر من النقد الأجنبي، وهو ما يعطي رسالة ردع للمضاربين والسوق السوداء الراغبة في أن تطل برأسها من جديد مستغلة حال الارتباك التي تسود مصادر مصر الدولارية.

لكن في المقابل، فإن توقف الأنشطة الاقتصادية المدرة للنقد الأجنبي قد تبتلع حصيلة القروض الخارجية، وبالتالي يواصل الاحتياطي الأجنبي تراجعه، وهو ما يضغط على سعر الجنيه المصري مقابل الدولار.

3- كما يتوقف الأمر على مدى حرص البنك المركزي المصري على تطبيق سياسة الدفاع عن الجنيه، كما حدث قبل تعويمه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أم سيتركه للعرض والطب حسب قرار التعويم الذي ينص على تحرير سوق الصرف، علماً بأن الإشارات الصادرة عن البنك المركزي من وقت لآخر هي ترك سعر الجنيه للطلب والعرض، لكن يقابل ذلك تدخل غير مباشر من قِبَل "المركزي" عبر بنوك القطاع العام الحكومية، وفي مقدمتها الأهلي المصري ومصر والقاهرة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مصطفى عبد السلام
كاتب متخصص في الشأن الاقتصادي
تحميل المزيد