قالت مجلة Foreign Policy الأمريكية إنه بعد انقضاء ثلاثة أشهر على جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي ، لا تبدو قيادة الأمم المتحدة ولا دولها الأعضاء الرئيسية مستعدةً للقيام بمثل هذا التحقيق، على الرغم مما تسببت فيه الجريمة التي نفذها عملاء للحكومة السعودية، من إطلاق نداءات حول العالم لبدء تحقيقٍ تشرف عليه الأمم المتحدة.
وأوضحت المجلة أن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة والذي يملك سلطة تأسيس تحقيقٍ في القضية، لم يقم بعقدِ ولا حتى اجتماعٍ واحد حول الموضوع، بينما تجاهل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس مطالب القيام بالتحقيق، مشيراً إلى الحاجة لمطلبٍ رسميٍّ من الدول الأعضاء، بما فيها تركيا، ولكن ورغم دعوى أنقرة المتكررة بتحقيقٍ دولي، إلا أنها لم تطالب الأممَ المتحدة رسمياً بالتحقيق.
انشغال أمريكي بقضايا "أهم" ونفوذ سعودي يعيق التحقيق
بينما في واشنطن، تطغى قضايا أخرى على ضغط الكونغرس لمحاسبة المشتبه بتورطهم في الجريمة، بمن فيهم ولي العهد السعودي، قضايا مثل الإغلاق الحكومي، بحسب ما أفاد مصدرٌ في الكونغرس.
وقال المصدر: "التحدي الذي يواجه الكونغرس هو أنه إذا أرادت أمريكا من الأمم المتحدة القيام بأي شيء، فيجب أن تطالب به الإدارة الحالية، لكن الإدارة الحالية تتعامل بحساسيةٍ مفرطة مع تحميل الحكومة السعودية مسؤوليةَ أي شيء".
التردد في التحقيق بشأن جريمة القتل هذه يوضح النفوذ الواسع الذي تتمتع به السعودية التي هددت ذات مرة بانسحاب الدول العربية من الأمم المتحدة بعد أن اتُهمت بقتل أعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال في اليمن (ردت الأمم المتحدة حينها بحذف اسم التحالف الذي تقوده السعودية من القائمة السوداء لأسماء الكيانات التي تقوم بقتل الأطفال).
كما أن هذا التردد يعكس عدم استعداد القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، لتحدي السعودية وتحميلها مسؤولية أي انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان.
إضافة إلى تراجع احترام حقوق الإنسان في العالم
علاوةً على كل هذا، ثمةَ أيضاً تراجعٌ عام في احترام حقوق الإنسان بين الدول، ونفورٌ متنامٍ تجاه التحقيقات في الفظائع والاغتيالات، وهي تحقيقاتٌ غالباً ما تكون مكلفةً ومعقدةً سياسياً. وفي حالة الخاشقجي، شدّد البيت الأبيض على أهمية الحفاظ على الروابط القوية مع ولي العهد السعودي.
بنهاية الحرب الباردة، قادت الولايات المتحدة وحلفائها تأسيس محاكم جرائم الحرب لمحاسبة أولئك الذين قاموا بجرائم إبادة جماعية في البوسنة ورواندا.
وقد سبق للأمم المتحدة أن فتحت تحقيقاتٍ في اغتيال سياسيين مرموقين مثل رفيق الحريري في لبنان وبنازير بوتو في باكستان، ولكن يُنظر الآن إلى تلك التحقيقات على أنها أمثلةٌ تحذيرية لتجاوز القضاء لصلاحياته.
يقول المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية حق حرية الرأي والتعبير، ديفيد كاي: "أنا محبطٌ جداً من حقيقة أن الدول لا تنضم إلى دعوات القيام بتحقيقاتٍ مستقلة".
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قدّم كاي واثنان آخران من مقرري الأمم المتحدة، وهما آغنيس كالامار وبرنارد دهيم، التماساً إلى الأمم المتحدة لإجراء تحقيقٍ في مقتل الخاشقجي.
وقال كاي لمجلة فورين بوليسي: "أجدُ أنه من المنافي للأخلاق أن هذه الحادثة تمثل أكثر الهجمات وقاحةً على صحافي من قبل دولة وألا يتم اتخاذ أي إجراء بشأنها".
ما يعيق أي تحرك من المؤسسات الأمريكية للتحقيق جريمة قتل جمال خاشقجي
أيد أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكان من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تحقيقاً مستقلاً من قبل الأمم المتحدة لكن البيت الأبيض أعاق مساعيهم. وقال النائب الديمقراطي في مجلس الشيوخ، باتريك ليهي، إن "البيت الأبيض متيَّمٌ بولي العهد السعودي، ولا يبدو أن السعوديين ينوون القيام بفعل أي شيء، وهذا يترك لنا خياراتٍ محدودة".
قال ليهي أن لجان مجلسي الشيوخ والنواب يجب أن تدقق في جريمة القتل هذه وتستدعي وزير الخارجية للشهادة أمام الكونغرس "وتفسير سبب قبول هذه الإدارة التغطيةَ على الجريمة واستمرارها في بيع الأسلحة للسعودية".
في النهاية قال ليهي أن "تحقيقاً تجريه الأمم المتحدة قد يمثِّل أفضل أمل في تحقيق العدالة. يجب ألا نتسامح مع جريمة بهذه البشاعة، جريمةٍ دبرها وأخفاها كبار المسؤولين في حكومةٍ حليفةٍ للولايات المتحدة".
أما العضو الديمقراطي الآخر في مجلس الشيوخ الأمريكي، إد ماركي، فيفكر في إرسال رسالةٍ يطالب فيها الأمين العام للأمم المتحدة بإجراء تحقيق.
كما عبّر قادة مجلس النواب، بمن فيهم إليوت أنجل، الرئيس الجديد للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، عبروا عن التزامهم بإجراء مراجعة شاملة للعلاقات الأمريكية السعودية.
وقال مصدر ديمقراطي في الكونغرس: "من المرجح أننا سنشهد صيغةً ما لمشروع قانون يعبر على الأقل عن إحساس الكونغرس بأنه يجب أن يكون ثمة تحقيقٌ دولي من قبل الأمم المتحدة في قضية مقتل الخاشقجي، أو شيء بهذا المعنى".
وحتى الأمم المتحدة عاجزة عن التحرك
حتى الآن، أظهر أعضاء مجلس الأمن الدولي، بمن فيهم الولايات المتحدة، اهتماماً ضئيلاً بالتحقيق في جريمة القتل، لكن المدافعين عن حقوق الإنسان يقولون أنهم ينوون الاستمرار في الضغط.
ويقول لويس شاربونو، رئيس منظمة هيومان رايتس ووتش التابعة للأمم المتحدة: "صحيحٌ أن الخبر لم يعد يحتل عناوين الصحف ومواقع الأخبار، لكننا لن نترك ما حدث يمر بدون مسائلة، وعلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تفعل الشيء نفسه".
وقال شاربونو إن أحد الخيارات سيكون قيام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، والذي سيتابع عمله في آذار/مارس القادم، بفتح تحقيق. وعبّر المفوض السابق لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ميشيل باشيليه، عن دعمه لفتح تحقيقٍ دولي، لكن ليس ثمةَ ضمانٌ أن الدول الأعضاء في المجلس ستوافق على فتح مثل هذا التحقيق. وقال شاربونو إن أفضل الخيارات سيكون أن يبادر الأمين العام للأمم المتحدة بنفسه بفتح تحقيقٍ في الجريمة.
لكن غوتيريس رفض القيام بذلك، إذ قال الناطق الرسمي باسم غوتيريس، ستيفان دوجاريك، إن الأمين العام للأمم المتحدة سيحتاج إلى طلبٍ من دولةٍ عضو في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى تفويض من منظمة تشريعية دولية (مثل مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العمومية للأمم المتحدة) للقيام بفتح تحقيق. فقد قال دوجاريك للصحافيين خلال العام الماضي: "نحتاج إلى تفويض من منظمةٍ تشريعية، وبالطبع إلى طلبٍ من دولةٍ عضوٍ أيضاً".
رغم السلطة التي يملكها الأمين العام لتحريك القضية
لكن المدافعين عن حقوق الإنسان والمستشارين القانونيين السابقين التابعين للأمم المتحدة يقولون إن هذا الكلام ليس صحيحاً. إذ أفادت مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان ومستشارون سابقون تابعون للأمم المتحدة أن الأمين العام للأمم المتحدة يمتلك سلطةً واسعةً فيما يتعلق بإطلاق مهمات الكشف عن الحقائق في مسائل تخص السلام والأمن العالميين، بما فيها مقتل الخاشقجي.
يستمد غوتيريس سلطته من البند 99 في ميثاق الأمم المتحدة، وهو البند الذي يمنح الأمناء العامين للمنظمة الدولية سلطاتٍ قوية، وإن كانت غير محددة، لطرح أي قضيةٍ أمام أعضاء المجلس. وقد استخدم الأمناء العامون السابقون هذه السلطة لإطلاق تحقيقاتٍ حول قصف إسرائيل لمناطق تجمع قوات الأمم المتحدة في لبنان، حول اغتيال بنازير بوتو وحول القتل واسع النطاق للمدنيين في سريلانكا.
كما أطلق أمناء عامون سابقون تحقيقات في أحداثٍ وقعت في توغو، تيمور الشرقية، جورجيا وغينيا بناءً على سطلتهم الشخصية.
لكن ورغم معرفة المستشارين القانونيين التابعين للأمم المتحدة بسلطاتِ أمينها العام للقيام بالتحقيقات، إلا أنهم نصحوا باستخدام هذه السلطات بشكل معتدل. ففي قضية بنازير بوتو مثلاً، نصح المستشارون القانونيون التابعون للأمم المتحدة أمينها العام السابق، بان كي مون أن إطلاق تحقيقٍ في عملية الاغتيال سيكون مجازفةً سياسية كبرى.
فقال لاري جونسون، المستشار القانوني المتقاعد الذي شارك في النقاش حينها، "حسب ما أتذكر، كان موقفنا حينها هو أنه يمتلك السلطة القانونية ولكننا نصحناه بعدم إطلاق تحقيق لأنه لم يكن من الحكمة القيام بذلك بمفرده"، لكنه أضاف أنه لا شك أن غوتيريس لديه السلطة للقيام بفتح تحقيق حسب ميثاق الأمم المتحدة.
أثبت غوتيريس تردده إزاء ممارسة هذه السلطة منذ توليه لمنصبه، رافضاً كل الدعوات المطالبة بفتح تحقيق مستقل حول الفظائع التي ترتكب في الكاميرون وحول مقتل اثنين من موظفي الأمم المتحدة العاملين في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لكنه يبقى "مجازفة كبيرة" بالنسبة للمؤسسة الأممية
بالنسبة للأمم المتحدة، يحمل التحقيق في مقتل الخاشقجي مجازفةً كبرى واحتمالاتِ نجاحٍ ضئيلة. فقد يقرر السعوديون عدم التعاون ويردوا بقطع مئات الملايين من الدولارات التي يقدمونها دعماً لبرامج الإغاثة ومكافحة الإرهاب التي ترعاها الأمم المتحدة. كما قد تكون لبلدانٍ أخرى أيضاً تحفظاتٌ على قيام الأمم المتحدة بالتحقيق في مقتل صحافي.
وقال ستيفن راتنر، البروفيسور في كلية الحقوق في جامعة ميشيغان الأمريكية، والذي قاد تحقيقات الأمم المتحدة في الفظائع التي ارتُكبت في سريلانكا، "أعتقد أن الدول تشعر بالتهديد إزاء قيام الأمم المتحدة بالتحقيق في مقتل الصحافيين"، لكن هذا لا يعني أنه يتوجب على الأمين العام للمنظمة الدولية ألا يقوم بذلك.
وأضاف راتنر: "يمكن لغوتيريس أن يكون شجاعاً حقاً ويقوم بالتحقيق بناءً على سلطته الخاصة. من الناحية الأخلاقية، هذا هو التصرف الصحيح، لكن من الناحية السياسية، قد يصعب عليه القيام بهذه الخطوة".