كشفت صحيفة Haaretz، الجمعة 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، عن تفاصيل الخطاب السري الذي يتضمن خطة تل أبيب لطرد العرب من مدنهم عقب 1948.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية، إن هذه الوثيقة تُعد مهمةً لـ3 أسباب. أولاً، بسبب محتواها؛ وثانياً، لأنَّها سريةٌ؛ وثالثاً، بسبب العلاقة بين السببين الأول والثاني، والتي تقدم درساً بشأن العلاقة التبادلية بين الإفراج عن الوثائق التاريخية من الأرشيف والاعتراف بالتاريخ.
تفاصيل الخطاب
ويعود تاريخ الخطاب "السري" إلى 4 ديسمبر/كانون الأول 1949. وكان كاتب الخطاب هو والتر إيتان، أول مدير عام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان الخطاب موجهاً إلى وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه شاريت، الذي كان في مدينة نيويورك حينها.
وبحسب الصحيفة الإسرائيلية، كان إيتان يبلغ رئيسه تفاصيل خطة لـ "طرد السكان العرب من مناطق كثيرة" في الجليل ومناطق أخرى شمال البلاد. وأدرج إيتان قائمة القرى المُراد إجلاء السكان العرب منها، وهي: فسوطة، وترشيحا، والجش (وهي البلدة التي قصدها معظم السكان الذين طُرِدوا من قرية بيرم قبلها بعامٍ)، وحرفيش، وريحانة، ومجدل، وزكريا. وأشار إلى أنَّ الخطة تهدف إلى طرد أكثر من 10 آلاف عربي، معظمهم من المسيحيين، لكنَّ بعضهم دروز (في حرفيش)، أو شركس (في ريحانة). وكان الطرد سيُنفَّذ "لأسبابٍ أمنية". ولم تُحدَّد وجهة المُرَحَّلين.
وكتب إيتان في الخطاب، أنَّ ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، قد وافق بالفعل على نقل السكان "بالقوة إلى مناطق أخرى"، لكنَّه أراد أن يحصل على موافقة شاريت، ووزير المالية إليعازر كابلان، لأن تكلفة العملية تبلغ نحو مليون ليرة إسرائيلية (وضمن ذلك إعادة توطين السكان المُبعدين عن مناطقهم)، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
واطَّلع إيتان على تفاصيل الخطة عن طريق زلمان ليف، وهو خبير في شؤون الأراضي والحدود وكان مستشاراً لـ "بن غوريون" في هذه الملفات. وأشار ليف إلى إمكانية تطبيق هذه الخطة "دون اللجوء إلى وحشيةٍ غير ضرورية". أكَّد إيتان لشاريت أنَّ موافقة وزير الخارجية ضرورية لإقرار الخطة، وأدلى برأيه. فكتب لشاريت: "عبَّرتُ عن رد فعلٍ سلبي حاد لأسباب سياسية. اعتقدتُ أنَّه من الصواب أن تعرف بالخطة الآن، حتى لو لم يكن سيُبَتُّ في مصيرها على الفور". وفي هذه الفترة، كان بن غوريون وزملاؤه يتعمَّدون إخفاء المعلومات عن شاريت، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
محاولات الطرد تمت بعضها
وفي السنوات التالية للخطاب، نُفِّذت عدة محاولات لنقل عشرات الآلاف من المسيحيين العرب من الجليل إلى خارج البلاد للأرجنتين والبرازيل (وُصِفَت الفكرة بأنَّها نقلٌ بالاتفاق بعلامات الاقتباس أو من دونها). وسُميت إحدى هذه الخطط "عملية يوحنان" (تيمناً بيوحنان من بلدة جوش حلف -الذي يُعرَف بـ "جون من جيسكالا"- وهو أحد قادة ثورة اليهود ضد الرومان في القرن الأول الميلادي)، وفكَّرت القيادة الإسرائيلية في هذه الخطة فترة قصيرة بين عامي 1952-1953، قبل أن تتخلّى عنها، لعدم جدواها.
وفي السنوات التالية للحرب، كان هناك نزاع حاد بين القيادة الإسرائيلية بشأن "هجرة" العرب من البلاد. على سبيل المثال، كان موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي، يعتقد أنَّه "ينبغي أن يكون البلد متجانساً"، وأيَّد مقترح إبعاد العرب من أراضيهم بالقوة، كما تقول هآرتس.
ولا أحد يعلم لماذا لم تنفَّذ الخطة التي ذُكِرَت في الخطاب، لكن كان هذا غالباً "للأسباب السياسية" التي ذكرها إيتان في الخطاب. على كل حال، كان المقترح يستلزم طرد السكان بعد شهور عديدة من انتهاء الحرب. وبالمناسبة، دُمِج بعد سنوات قليلة، كلٌ من الدروز (سنة 1956) والشركس (سنة 1958) في الجيش الإسرائيلي باعتبارهم مجندين نظاميين. (عملياً، كان العديد منهم قد تطوع للخدمة بالجيش الإسرائيلي بالفعل في أثناء حرب 1948 وبعدها).
وتكشف حقيقة إصرار بن غوريون على الحصول على موافقة شاريت على الخطة شيئاً عن العلاقة بين هذين القائدين، إذ بلغ الخلاف السياسي بين الرمزين البارزين في حزب الماباي، وهو الحزب الحاكم حينها ويمثل باكورة حزب العمل الإسرائيلي الحالي، مداه لدرجة أنَّه حدَّد مستقبل الشعبين اللذين يتشاركان الأرض والديناميات بين إسرائيل والعالم العربي.
ففي حين حثَّ شاريت على الاعتراف رسمياً بالعرب، الذين بقوا في إسرائيل، ومنحهم الجنسية وحقوقاً متساوية مع بقية السكان -كما تقول الصحيفة الإسرائيلية- كان بن غوريون معارضاً للفكرة، ودعا لاعتبار العرب طابوراً خامساً، ووصف أي شخص يعتقد غير هذا بالساذج. لهذا السبب ولأسبابٍ أخرى، عارض بن غوريون إلغاء سيطرة الحكومة العسكرية على السكان العرب في عام 1966، إبّان فترة حكومة رئيس الوزراء ليفي أشكول، إذ كان يعتقد أنَّ وجودها ضرورياً، على النقيض من رأي شاريت وغيره من القادة البارزين. كان شاريت غالباً يشارك إيتان اعتراضه على خطه طرد السكان العرب.
الخطاب بقي سرياً ربع قرن
وتابعت الصحيفة الإسرائيلية أن خطاب إيتان كان محفوظاً حتى وقتٍ قريب في أرشيف إسرائيل تحت عنوان "أقليات: شؤون التنظيم والدين والسياسية تجاه الأقليات" (ملف رقم:2402/29). وظل الخطاب سرياً أكثر من 25 عاماً، حتى 6 أشهر مضت عندما أصبحت الوثيقة متاحة للاطلاع العام. ويُرسِل طاقم عمل الأرشيف نسخةً مصورة رقمياً من الوثيقة إلى أي شخصٍ يطلبها عبر البريد الإلكتروني. (في هذه الحالة، أُرسِلت الوثيقة إلى معهد آيفوت لأبحاث النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، والذي تتضمن أجندته كذلك إزالة العقبات التي تضعها الدولة في سبيل الباحثين الراغبين في الكشف عن الوثائق التاريخية). لكن حالياً، أُزيل الخطاب (بالإضافة إلى خطابٍ آخر مكون من 8 صفحات كَتَبَه بخور شالوم شيطريت، أول وآخر وزير إسرائيلي للأقليات) من الملف ولم يعد كلاهما متاحاً.
ولا يُفسِّر الأرشيف، على النقيض من الالتزامات المنوطة به، في الملف أسباب إزالة الوثيقتين، بل تُترَك صفحةٌ فارغة مكتوب عليها كلمة واحدة فقط وهي "سري". ويذكر خطاب شيطريت المحجوب تقرير ريفتين، الذي كان محور مقالٍ كَتَبَه عوفر أديرت بصحيفة Haaretz، في وقتٍ مبكر من العالم الجاري (2018)، بعنوان "لِمَ تستمر إسرائيل في التغطية على الإعدامات خارج نطاق القضاء التي نفَّذتها ميليشيا يهودية في عام 1948؟". ويشير خطاب شيطريت، المُعنون بـ "الأقليات في إسرائيل"، إلى موضوع الخطاب. ويُحذِّر الخطاب من "نهب ممتلكات العرب على يد الجيش والمدنيين… وخرق اتفاقات الاستسلام المتعلقة بالحفاظ على الممتلكات، (ويضيف أنَّ) شهوة السرقة أصابت جنود الجيش"، إلى جانب تحذيره من أمور أخرى.
وتساءلت الصحيفة: "لماذا حُجِبَت وثيقتان فجأةً بعد أن كانتا متاحتين للجمهور سنواتٍ؟ ليست هناك إجابات واضحة عن هذا السؤال. قبل أشهر قليلة، كُتب مقال بعنوان (ما الذي تخفيه إسرائيل عن برنامجها النووي في الخمسينيات؟)، ذلك أنَّ ممثلي الدولة المسؤولين عن الإفراج عن الوثائق التاريخية (وهو في هذه الحالة رئيس الرقابة على الإعلام والصحافة) لا يُميِّزون في كثيرٍ من الحالات، بين الوثائق التي قد تؤثر على أمن الدول وسياستها الخارجية سلباً، وتلك التي قد تتسبَّب في مجرد إحراج الدولة".
إنَّ حقيقة أنَّ بن غوريون فكَّر في طرد آلاف العرب من منازلهم بعد نصف عام من انتهاء حرب 1948، ليست أمراً مثيراً للإعجاب (غالباً لأنَّهم عرب مسيحيون، في الغالب سيكون الإضرار بسلامهم أكثر وطأةً على الرأي العام العالمي). وفي حين قد تكون دراسة التاريخ متأثرة بعوامل أخرى (بدرجة معينة)، فلا ينبغي أن يتأثر الكشف عن الوثائق التاريخية بالاعتبارات السياسية، ويجب ألا يصبح هذا الحق هبةًَ في أي ديمقراطية، أو متأثراً باعتبارات لا علاقة لها مباشرةً بأمن البلاد.