عندما دخل جمال خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يدرك أنه كان يسير إلى حيث مصرعه. إذ أنه أصبح الهدف الرئيسي في حرب المعلومات في القرن الحادي والعشرين -الحرب التي تضمَّنَت القرصنة والاختطاف والقتل في نهاية المطاف- التي شنَّها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وحاشيته على المعارضين.
يقول ديفيد إغناتيوس، الروائي والكاتب الأميركي بصحيفة The Washington Post الأميركية في مقالة له حول تفاصيل ذلك: تحوَّلت معركة الأفكار، التي أثارتها مقالات خاشقجي الصريحة في صحيفة Washington Post، إلى معركةٍ مميتة، هذا هو اللغز الأساسي في قضية وفاة كاتب مقالات الرأي. وجزءٌ من حلِّ هذا اللغز هو أن الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والدول الأخرى التي دعمت السياسات السعودية لمكافحة التطرُّف ساعدت على شحذ أدوات التجسُّس الإلكتروني، التي هي سلاحٌ ذو حدَّين، والتي دفعت الصراع نحو خاتمته الكارثية في إسطنبول.
من أين بدأت الحكاية؟
يقول إغناتيوس، كانت نقطة انطلاق هذا الصراع من مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الرياض، الذي يديره سعود القحطاني، وهو موظفٌ طموح في الديوان الملكي، لعب دور المستشار "الخبيث" لرئيسه العنيد الذي تنتابه حالة من "جنون الارتياب" في بعض الأحيان.
عمل القحطاني وزملاؤه على الإنترنت في البداية مع شركة إيطالية تدعى Hacking Team، ثم سعوا إلى شراء منتجات شركتين إسرائيليتين -وهما شركتا NSO Group و Q Cyber Technologies التابعة لها- وشركة إماراتية تُدعى DarkMatter، وفقاً لمصادر كثيرة مطلعة، طلبت عدم الكشف عن هويتها لمناقشة المسائل الاستخباراتية الحساسة.
ويضيف الصحافي الأميركي، هنا، تمكَّن القحطاني تدريجياً من بناء شبكة من المراقبة والتلاعب بحسابات الشبكات الاجتماعية تهدف إلى النهوض بأجندة محمد بن سلمان وقمع أعدائه.
القصة تمتد لعشر سنوات
بدأ السعوديون في بناء حاميتهم الإلكترونية منذ حوالي عشر سنوات، عندما كان القحطاني يعمل تحت إمرة الملك السابق، عبد الله. كان لدى السعوديين حينذاك أسباب مفهومة لتسليح أنفسهم في الفضاء الإلكتروني. إذ ذكرت تقارير أن إيران أطلقت فيروس "شمون" في منتصف عام 2012، مما أدى إلى شلِّ عشرات الآلاف من الحواسيب السعودية التي استغرق إصلاحها ما يقرب من نصف عام. وواجهت المملكة كذلك تهديدات إرهابية قاتلة، خاصة بعد أن انفجرت قنبلة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق عام 2014.
وبالنسبة للسعوديين، مثلما هو الحال بالنسبة لقراصنة الإنترنت الروس في هجومهم على الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، أصبح فضاء المعلومات ساحة حرب. وأصبحت أسلحة الدفاع والهجوم تحمل نفس المعنى، مثلما أخبرني مسؤول استخباراتي أوروبي بسخرية محملة بالمرارة: "إن الأدوات التي تحتاجها لمكافحة الإرهاب هي نفس الأدوات التي تحتاجها لقمع المعارضة". لقد عمل السعوديون بجد على هذا القمع المزدوج.
يقول ديفيد إغناتيوس في مقالته: حدَّثَني السيناتور مارك وارنر، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فرجينيا، وهو ديمقراطي بارز في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، عن مخاطر هذا السلاح الإلكتروني ذي الوجهين قائلاً: "إن كلَّ أداة مراقبة جديدة تنطوي على احتمال إساءة استخدامها. لهذا السبب، لدينا في هذا البلد نظام قانوني قوي بل ومحكمة خاصة للإشراف على كيفية استخدامها. ولكن في الأماكن التي تقل فيها الحماية القانونية للأفراد وتنعدم الرقابة الحقيقية من الأجهزة الحكومية الأخرى، يمكن إساءة استخدام هذه الأدوات بسهولة، وهذا أمرٌ ينبغي أن يقلقنا جميعاً".
هوس القيادة السعودية بالشبكات الاجتماعية
إن هوس القيادة السعودية بالشبكات الاجتماعية يعود تاريخه إلى الربيع العربي وموجة الانتفاضات التي اجتاحت تونس وبدأت في أواخر عام 2010، ثم مصر وليبيا والبحرين وسوريا عام 2011. وخشي الديوان الملكي في الرياض من أن يكون النظام الملكي السعودي المحافظ هو الهدف التالي لما أسماه مارك لينش، الخبير في السياسة العربية بجامعة جورج واشنطن الأميركية، "احتجاجات الهاشتاغ".
دأبت أجهزة الاستخبارات العربية على مراقبة اتصالات مواطنيها وأنشطتهم السياسية الأخرى عن كثب؛ إذ وفرت وسائل الإعلام الرقمية فرصاً جديدة للنشاط السياسي والقمع على حد سواء. وسعت الاستخبارات السعودية عام 2013 إلى الحصول على أدوات من شركة Hacking Team الإيطالية بإمكانها اختراق أجهزة iPhone وiPad، وعام 2015، أرادت أدوات مماثلة تساعدها على اختراق هواتف Android، وفقاً لسجلات الشركة التي كشف عنها موقع WikiLeaks عام 2015.
وتسبَّب اعتلاء الملك سلمان لعرش السعودية، في يناير/كانون الثاني عام 2015، في زيادةٍ جديدة في النشاط الإلكتروني في الديوان الملكي. وأراد القحطاني، وهو محام وعضو سابق في القوات الجوية وعمل في الديوان الملكي منذ أكثر من عقد من الزمان، أن يثبت ولاءه للابن المُفضَّل للملك الجديد، محمد بن سلمان. لقد جعل القحطاني من نفسه شخصاً لا غنى عنه ولكنه أصبح شخصيةً متزايدة الخطورة في الدائرة الداخلية التي تحيط بمحمد بن سلمان.
ووصف أحد السعوديين المُطَّلِعين الذي يعرفون سعود القحطاني بقوله: "إنه يُخرِّب الأمور"، وبرعاية محمد بن سلمان "كان لديه الكثير من الجزر، والكثير من العصيّ".
شراكة استراتيجية مع شركات القرصنة
بعد أن أصبح محمد بن سلمان ولياً لولي العهد في أبريل/نيسان عام 2015، دفع القحطاني باتجاه تعزيز العمليات الإلكترونية. وفي 29 يونيو/حزيران عام 2015، كتب إلى مدير شركة Hacking Team وطلب "قائمة كاملة بالخدمات التي تقدمها شركتكم الموقرة" واقترح إقامة "شراكة طويلة واستراتيجية" بينهما.
وتصف شركة Hacking Team نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها "برامج القرصنة للاستخدام الحكومي في اعتراض الأجهزة" ومصدر "للتكنولوجيا الهجومية الفعالة وسهلة الاستخدام". وقد شملت قائمة عملاء الشركة بحلول عام 2013 حوالي 40 حكومة، وفقاً للملف الشخصي لعام 2016 لمؤسس الشركة في مجلة Foreign Policy الأميركية.
وأصبحت العلاقة بين شركة Hacking Team والسعودية وطيدة لدرجة أنه عندما واجهت الشركة الإيطالية صعوبات مالية بعد تسريب موقع WikiLeaks لسجلاتها عام 2015، تدخل المستثمرون السعوديون بوضوح. إذ حصلت شركة مقرها في قبرص تُدعى Tablem Limited، يرأسها رجل أعمال من عائلة القحطاني، على حصة قدرها 20% من الشركة في منتصف عام 2016، وفقاً لمقال نُشر في يناير/كانون الثاني عام 2018، في مجلة Motherboard الكندية-الأميركية.
وفي اجتماع عُقد في ميلانو بشمال إيطاليا في مايو/أيار عام 2016، مثَّل المستثمرين الجدد محامٍ سعودي بارز يدعى خالد الثبيتي، حسب ما أوردته مجلة Motherboard. وقال مؤسس شركة Hacking Team لمجلة Motherboard إنه لم يكن متأكداً من هوية القحطاني والثبيتي. وقال: "إن الحكومة السعودية كانت غامضة حتى بالنسبة لي".
وقد استحوذ الديوان الملكي الذي يهيمن عليه محمد بن سلمان على أدوات القرصنة التي قدَّمَتها الشركة الإيطالية، لكن مصادر أميركية وسعودية تقول إن ولي العهد سعى إلى الحصول على قدرات أكبر. وقال مسؤولان أميركيان سابقان إن محمد بن سلمان تطلَّع إلى التقدُّم السريع الذي حقَّقته الشركةٌ الإلكترونية الإماراتية DarkMatter، وأراد أن تواصل المملكة مواكبته، وقال هذان المصدران إن شركة DarkMatter كان بإمكانها توفير التدريب والمعدات، لكن محمد بن سلمان أراد امتلاك أجهزة حديثة خاصة به.
وقال مسؤولٌ أميركي سابق عمل مع المملكة في مكافحة الإرهاب إن "محمد بن سلمان أراد امتلاك أجهزة مماثلة لتلك التي كان يملكها الإماراتيون".
انضمَّت السعودية إلى مجالٍ مزدحم، إذ كان انتشار الأسلحة الإلكترونية يتسارع في جميع أنحاء العالم، ويرجع ذلك جزئياً إلى تحمُّس الولايات المتحدة لأيِّ شيءٍ يمكن وصفه بأنه أداةٌ لـ"مكافحة التطرُّف العنيف".
ويوضح أحد المسؤولين الأميركيين السابقين الذين عملوا مع الديوان الملكي حول المسائل الإلكترونية قائلاً: "كان السعوديون يعتقدون أنهم طالما ضيَّقوا الخناق على التطرُّف، فإن لديهم شيكاً على بياض لملاحقة الناس في بلادهم أيضاً. لم نكن ننوي فعل أي شيء".
أحدث أجهزة المراقبة في خدمة الأمير الشاب
شهدت لمحة عن شغف السعودية بتكنولوجيا المراقبة الرقمية خلال زيارتين للمملكة في أبريل/نيسان عام 2017 ومارس/آذار عام 2018. وفي كلتا الزيارتين، دُعِيت لرؤية مركزٍ جديد لمكافحة الإرهاب داخل الديوان الملكي، والذي أطلق عليه السعوديون مركز المراقبة الرقمية للتطرُّف. كان منشأةً حديثة للغاية، تضم عشرات الفنيين الذين يجلسون أمام شاشات الكمبيوتر لمراقبة موقع تويتر باللغة العربية وغيرها من منصات الشبكات الاجتماعية.
وأوضح السعوديون أنهم يقاتلون داعش وكذلك الجماعات الشيعية المدعومة من إيران. وأعطاني مدير المركز العديد من الكتيبات المُعقَّدة. توضح إحداها كيف راقب المركز أكثر من 1.2 مليون تغريدة وإعادة للتغريدة عن داعش خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2016، وقدرة أدواته البرمجية على تمييز "الدعم المُقدَّم لداعش بمعدلات عالية الدقة". وتحدَّث كتيبٌ ثانٍ عن أدوات برمجية متطورة لتحليل وتصوير شبكات الحسابات على الشبكات الاجتماعية لمؤيدي كل من داعش والميليشيات الشيعية.
وأصر المسؤولون السعوديون على قول إن العدو هو التطرُّف، مُردِّدين الرسالة التي بعث بها محمد بن سلمان إلى المسؤولين الأميركيين والأوروبيين.
وتفاخر كتيبٌ واحد بأن مركز القحطاني "يدمج تطوير البرمجيات بأحدث تقنيات التحليل الكمي والنوعي لدعم.. معظم المتطلبات الحالية للمعلومات الاستخباراتية عن الأنشطة المُتطرِّفة على الإنترنت" ولم يفهم معظم المراقبين، بمن فيهم أنا، مدى سرعة تكيُّف هذه الأدوات لمحاربة الأصوات السعودية المعارضة مثل خاشقجي.
الولع بالمخاطرة والسعي من أجل السيطرة
يقول أحد كبار المسؤولين السابقين في الاستخبارات الأميركية والذي عمل على نطاقٍ واسع مع ولي العهد: "يتناسب الفضاء الإلكتروني مع الطابع المتحيز لمحمد بن سلمان. إذ إنه يُفضِّل الاستراتيجيات شديدة الخطورة. وهو يُقلِّل من خطورة الآثار الرجعية، ولا يفكر في العواقب الوخيمة". ربما كانت هذه القدرات الإلكترونية المتقدمة لتكون أقل خطورة إذا كان يشرف عليها متخصصون في أجهزة الاستخبارات السعودية، لكنها بدلاً من ذلك أصبحت أدوات سياسية تُستَخدَم لصالح محمد بن سلمان ورجله القوي، سعود القحطاني.
كان القحطاني رائداً ميدانياً عنيفاً في الفضاء السيبرانيِّ. إذ حثَّ السعوديين على تقديم أسماءٍ للمشتبه بهم في تدعيم قطر ولمعارضين آخرين من خلال هاشتاغ "القائمة السوداء" على موقع تويتر. ودافع عن هذه التعبئة على شبكة التواصل الاجتماعيِّ في تغريدةٍ نشرها في أغسطس/آب 2017 ما معناه: "أتظنونني أتَّخذ قراراتي من دون توجيه؟ أنا موظف ومنفذ أمين لأوامر سيدي الملك وسمو سيدي ولي العهد الأمين".
وقد صارت الحملة ضد قطر مذبحةً رقميةً. إذ شعر السعوديون والإماراتيون بأنهم جاؤوا متأخرين على حروب المعلومات، ولقرابة العقد من الزمان كانوا يتذمَّرون من شبكة القنوات الفضائية المدعومة من قطر "الجزيرة"، ودعمها للمعارضين العرب. والآن، كانوا يردُّون الصاع صاعين. ومع اشتداد النزاع مع قطر، صار الأمر شبيهاً بحرب خنادق بين القراصنة، إذ كانت بعض رسائل البريد الإلكتروني المسروقة والمُسرَّبة تجد طريقها إلى وسائل الإعلام الأميركية.
وفي أعقاب ذلك زعمت قطر أن دولة الإمارات قد اخترقت حساب وكالة الأنباء القطرية على تويتر في مايو/أيار 2017، وعَمَدت إلى نشر أخبارٍ زائفةٍ. وبعد بضعة أشهرٍ، سُرِّبَت للصحافيين رسائل البريد الإلكتروني المسروقة من حساب يوسف العتيبة، السفير الإماراتي إلى واشنطن. وفي مايو/أيار، خرج رجل أعمالٍ أميركيٌّ تشير التقارير إلى أن شركته كانت تعمل لحساب دولة الإمارات بتصريحاتٍ يزعم فيها أن رجال استخباراتٍ أميركيين وبريطانيين سابقين مُجَنَّدين لصالح قطر قد اخترقوا مراسلاته.
صفقة مع الشيطان.. إسرائيل في خدمة ولي العهد
مع حلول عام 2018، كان مركز الدراسات والشؤون الإعلامية التابع للقحطاني يقاتل في حربٍ على عدَّة جبهاتٍ ضد أعداءٍ حقيقيين ومُصطَنَعين. واستمر السعوديون في البحث عن أسلحةٍ جديدةٍ. وكانت شركة DarkMatter قد استعرضت قدراتها في مؤتمرات "القبعة السوداء" للقراصنة في لاس فيغاس عام 2016 و2017 و2018.
ومن بين الابتكارات التي عرضتها DarkMatter كانت هواتف "كاتم"، التي تستطيع التصدي للقراصنة الآخرين بواسطة إغلاق الكاميرا والميكروفون والتدمير الذاتي التلقائي لبيانات الجهاز في حال اختراقه من طرف مستخدمٍ غير مصرَّحٍ به. ولم يُجِب مقر DarkMatter في أبوظبي يوم الخميس 6 ديسمبر/كانون الثاني على اتصالاتنا، وقال مصدرٌ قريبٌ من الشركة إنها لن تستجيب.
عَلِمَ السعوديون أن إسرائيل، تملك أكثر الأدوات السيبرانية تقدُّماً. ووفقاً لمصادر أميركية وأوروبية وسعودية، كثَّفت السعودية من جهودها الساعية إلى شراء التكنولوجيا من شركاتٍ سيبرانيةٍ إسرائيليةٍ.
ونتيجةً لذلك تشكَّل أحد أكثر التحالفات الاستخباراتية إثارةً للاهتمام في تاريخ الشرق الأوسط، إذ بدأت الشركات الإسرائيلية مشاركة بعضٍ من أسرارها السيبرانية مع السعوديين.
وكانت بمثابة صفقةٍ مع الشيطان: إذ اكتسبت إسرائيل حليفاً سُنِّياً سرياً ضد إيران (وكذلك فرصة لجمع المعلومات عن المملكة من خلال التعاون السيبراني)، بينما حصل محمد بن سلمان على أدواتٍ جديدةٍ لمكافحة أعدائه في الداخل.
يقول ثلاثة مسؤولين أميركيين سابقين إن السعوديين قد سَعَوا بالتحديد إلى شراء نظامٍ متقدِّمٍ لاختراق الهواتف يحمل اسم Pegasus، وهو نظامٌ اخترعته شركةٌ إسرائيليةٌ اسمها NSO Group Technologies.
وقد لخَّصت منظمة Citizen Lab الكندية لبحوث الإنترنت القدرات المخيفة لنظام Pegasus في تقريرٍ نشرته شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018: "فور اختراق الهاتف، يستطيع العميل الوصول إلى كامل ملفات الضحية، كالمحادثات ورسائل البريد الإلكتروني والصور. ويمكن له أيضاً استعمال ميكروفونات الهاتف وكاميراته خِفيَةً للتنصُّت على أهدافه".
ويقول مصدران إن السعوديين كانوا يعملون جزئياً من خلال شريكةٍ لشركة NSO تُدعَى Q Cuber Technologies من لوكسمبورغ، وذلك لأجل إجراء بعضٍ من معاملاتها مع الشركة الإسرائيلية. ويقدِّم الموقع الرسمي للشركة تفاصيل جديدةً عن أعمالها ولكنه يعرض كذلك دعايةً مشرقةً لخدماتها السيبرانية: "نساعد على جعل العالم مكاناً أكثر أماناً".
وقد أخبرني مصدَران بأن Q Cuber كانت تتعامل بصورةٍ مباشرةٍ مع السعوديين، وتعينهم على حل المشاكل التي ظهرت في أنظمة المراقبة السيبرانية. وقد وعدت Q Cuber بأنها تستطيع الوصول إلى أهدافٍ في نصف دزينة من دول الشرق الأوسط، إلى جانب بعض أكبر الدول في أوروبا.
وكان بعض الإسرائيليين متخوِّفين من مشاركة هذه القدرات فائقة السرية مع دولةٍ عربيةٍ رائدةٍ، ولكن مسؤولَين أميركيَّين على درايةٍ بالأمر قد أخبراني بأن الحكومة الإسرائيلية أعطت موافقتها على الصفقة السعودية.
وحين سُئل محامٍ ممثِّل عن NSO غروب وشريكتها Q Cuber عن الصفقات المذكورة في التقارير مع المملكة السعودية، أبَى نفيَ أيٍّ من عملاء الشركة أو إثباتَهم. وأدلى بهذا التعليق المُبهَم عن NSO ومبيعات أدوات مراقبة Pegasus: "إنهم مورِّدون لأحد المنتجات. ويقدِّم العميل ضماناتٍ باستخدام المنتج بطريقةٍ قانونيةٍ في تلك الدولة. بالطبع، تقع أحياناً بعض حالات إساءة الاستخدام".
ووفقاً لمستشارٍ سيبرانيٍّ بريطانيٍّ عَمِل في السابق مع القحطاني، فإن "القحطاني كان يملك مساحةً مهولةً للتصرُّف" في التحصُّل على هذه الأنظمة، من خارج القنوات الاستخباراتية الاعتيادية. وكذلك، جاء وصفٌ للقحطاني من شخصٍ أميركيٍّ كان يتعامل معه في المسائل السيبرانية بأنه "ذو اهتمامٍ كبيرٍ بالتفاصيل، ولكنه متسلِّطٌ للغاية" في محاولة إبرام الصفقات مع المصادر الاستخباراتية الغربية بطرقٍ تساعد محمد بن سلمان سياسياً.
الفصل الأخير: ذباب ونحل.. أين خاشقجي من هذه المعركة؟
خاشقجي، بصفته أحد أشهر الصحافيين السعوديين وأكثرهم "تأثيراً"، قد تورَّط رغماً عنه في هذا الصراع. فلمَّا استدعى القحطاني "جيشه من الذباب" لأجل محاربة قطر على تويتر، أراد أصدقاء خاشقجي إيجاد حضورٍ إعلاميٍّ بديل.
عمر عبدالعزيز، معارضٌ سعوديٌّ شابٌّ يعيش في كندا، شجَّع خاشقجي في يونيو/حزيران ويوليو/تمور من هذا العام على مساعدته في تجنيد جيشٍ مضادٍّ من "النحل الإلكتروني" لأجل ردع الاكتساح السعودي على الإنترنت، وفقاً لقضيةٍ مرفوعةٍ يوم الأحد الماضي الموافق1 ديسمبر/كانون الأول في العاصمة الإسرائيلية تل أبيب.
ولم يُدرِك خاشجقي ولا عبدالعزيز أن السعوديين كانوا قادرين على التجسُّس على رسائلهما، بفضل أدوات رقابة Pegasus المستورَدَة من إسرائيل، طبقاً لملف القضية. وتزعم الدعوى أن اثنين من إخوة عبد العزيز قد قُبِضَ عليهما في السعودية أواخر الصيف الماضي، وأحد الأخوين المعتَقَلين، نتيجةً لضغوط معتقِليه، "توسَّل إلى (عبدالعزيز) لكي يتوقف عن عمله على الأنشطة السياسية التي كان مشاركاً بها". وتزعم الدعوى كذلك أن نظام رقابة Pegasus قد منح السعوديين معلوماتٍ "أسهمت بنسبةٍ كبيرةٍ في قرار قتل.. خاشقجي".
وقد أنكر متحدثٌ باسم NSO المزاعم المذكورة في القضية. إذ أدلى بتصريحٍ قال فيه: "بينما -لدواعٍ أمنيةٍ- لن نناقش إذا كانت حكومةٌ ما قد استجازت تكنولوجيتنا، فإن هذه القضية لا أساس لها من الصحة على الإطلاق.
فهي لم تأتِ بدليلٍ واحدٍ على استخدام تكنولوجيا الشركة ويبدو أنها مبنيةٌ على مجموعةٍ من التقارير والمقالات المزعومة التي كُتِبَت بغرض تصدُّر عناوين الصحف لا غير، وهي لا تعكس حقيقة عمل NSO". وتابع قائلاً: "نحن نتبع بروتوكولاً صارماً بشدَّةٍ في استجازة منتجاتنا، التي لا نقدِّمها إلى أحدٍ إلا بعد عملية تدقيقٍ كاملةٍ كما ترخِّصُه الحكومة الإسرائيلية".
بالنسبة إلى القحطاني، كانت الحملة ضد خاشقجي أمراً شخصياً. فقد أخبرني مسؤولٌ سعوديٌّ بأن القحطاني شعر بأنه قد خَذَل زعيمه، محمد بن سلمان، بالسماح لخاشقجي بمغادرة السعودية في 2017. وحينما فرَّ خاشقجي إلى الولايات المتحدة في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العام وشرع يكتب الأعمدة الصحفية لصالح Washington Post التي انتقد فيها سياسات المملكة، اعتبره القحطاني عدواً مارقاً في مجال المعلومات الذي سعى إلى السيطرة عليه.
وقُبَيل بدء خاشقجي الكتابة لصالح Washington Post، عرض عليه بعض المسؤولين السعوديين كتابة عمودٍ في صحيفة الحياة الموالية للحكومة السعودية، على حدِّ قول مسؤولَين سعوديَّين كانا على درايةٍ بذلك الاقتراح. ولكن سرعان ما راح خاشقجي يكتب أعمدته في Washington Post، جاهراً بصوته على شبكات التواصل الاجتماعي. مما دفع السعوديين إلى الضغط عليه عن طريق منع نجله صلاح من السفر إلى خارج المملكة، الأمر الذي أثار حفيظة خاشقجي بشدَّةٍ، ولكن ذلك لم يؤثر في كتاباته ولا في استقلاله.
ووفقاً لمسؤولٍ أميركيٍّ، في يوليو/تموز الماضي، كان القحطاني قد أقنع محمد بن سلمان بأن خاشقجي كان تهديداً على محاولات المملكة للسيطرة على المعلومات، وبعث وليُّ العهد برسالةٍ ذلك الشهر يأمر فيها بإعادة الصحافيِّ المتمرِّد إلى المملكة، بالقوة إذا تطلَّب الأمر. ولم يعلم المسؤولون الأميركيون بهذه الرسالة إلا بعد فوات الأوان.
وأصبح خاشقجي هدفاً سهلاً بعد زيارته القنصلية السعودية في إسطنبول خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي لأجل استخراج أوراقٍ لخطيبته. فطلبوا منه العودة في الأسبوع التالي لإتمام أوراقه. وفي تلك الأثناء، طبقاً لكلام مسؤولَين سعوديَّين، أسهم القحطاني في تشكيل فريقٍ من العملاء العسكريين والاستخباراتيين الذين يثق بهم الديوان الملكي.
وكان قائد الفريق المبعوث إلى إسطنبول هو ماهر المطرب، وهو عقيدٌ يزاول الأعمال الاستخباراتية كان على مقربةٍ من الديوان الملكي ومسؤولاً عن المراسلات الأمنية لمحمد بن سلمان أثناء تواجده بالخارج.
لقد عُزِل القحطاني في أكتوبر من منصبه في الديوان الملكي، وهو واحدٌ من 17 سعودياً طبَّقت عليهم وزارة المالية عقوباتٍ نظير دورهم في مقتل خاشقجي. وأفادت الوزارة في البيان الذي أعلنت فيه عن العقوبات أن القحطاني "كان جزءاً من تخطيط وتنفيذ العملية" التي أسفرت عن مقتل الصحافيِّ التابع لجريدة Washington Post، وأن المطرب هو من "نظَّمها ونفَّذها".
هذه قصة جريمة قتلٍ شنيعةٍ، ولكن كما هي الحال في أية قضيةٍ مُعقَّدة، نبحث عن دلائل عن كيفية وقوع الجريمة وسببها. وكان الدافع لدى هذا القاتل هو السيطرة على المعلومات.