وصفت صحيفة The Washington Post الأميركية بيان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي بأنه "مثال على أنانية الرئيس الأميركي" في التعامل مع حلفائه المستبدين دون مراعاة لمصلحة القيم الأميركية، في الوقت نفسه اعتبرت أن الموقف الأميركي سيعطي الضوء لمستبدين آخرين للتخلص من معارضيهم.
وقال الكاتب الأميركي جاكسون ديهيل نائب مُحرِّر الصفحة الافتتاحية بالصحيفة في مقال: أحياناً قد تتسبَّب أزمةٌ عادية على صعيد السياسة الخارجية في صدور قرار رئاسي ذي أبعاد أخطر بكثير. ويوضح ذلك جوهر حدس السلطة التنفيذية ويجسده، ومن ثم يرسم خارطة طريق لإدارة الولايات المتحدة الأميركية، يمكن أن تتبعها دول أخرى بعدها. ويعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب التغاضي عن إعطاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الأمر بقتل أحد مواطنيه وتقطيعه أشلاءً واحداً من هذه المنعطفات الحاسمة.
وأضاف بدا تصريح ترامب بأنَّ ولي العهد "ربما كان يعلم (بعملية القتل) وربما لم يكن يعلم"، الذي جاء في جزءٍ من بيانٍ أصدره الثلاثاء الماضي 20 نوفمبر/تشرين الثاني، محاولةً متسرعة عشية عيد الفصح لتخليص نفسه من فوضى مزعجة في جزء من العالم يتمنى لو بإمكانه أن ينساه. بيَّد أنه على غرار تراجع الرئيس السابق باراك أوباما عن الخط الأحمر الذي حدده لسوريا فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية، ستتردَّد أصداء فشل ترامب في المطالبة بمعاقبة المسؤول عن قتل الصحافي جمال خاشقجي متجاوزة منطقة الشرق الأوسط.
ففي حالة أوباما، كان العالم يعرف أنَّ الرئيس الأميركي لا يرغب في تزويد القيادة الأميركية بقوة عسكرية، حتى لو كان ذلك على حساب مصداقيته. وتبعاً لذلك استجابت روسيا والصين بغزو أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي.
قضية خاشقجي كشفت حقائق كثيرة عن ترامب
وبحسب المقال فإنه بالمثل، تبرهن قضية خاشقجي على حقائق أساسية عدة حول ترامب. أولها وأوضحها هي أنَّ مصالحه الأنانية المحدودة وأحياناً الشخصية لها الأولوية عنده على الدفاع عن القيم الأميركية التقليدية، وحتى توقعات المعاملة النزيهة من الحلفاء. وحين ينظر جميع الحكام العرب رفاق ولي العهد السعودي وكذلك الحكام الاستبداديون في أنحاء العالم لهذه القضية، فسينتهون إلى الاستنتاج الآتي: إذا انهلت بسيل من الإطراءات على ترامب، وغازلته بأساليب رفاهية عجيبة، وأمددت شركات عائلته بالمال وتعهدت بشراء منتجات أميركية، فيمكنك حينها أن تفلت بفظائع كانت لتثير فيما سبق انتقادات من واشنطن ويتبعها فرض عقوبات.
وتابع الكاتب الأميركي، لطالما تساهلت الولايات المتحدة مع انتهاكات حقوقية ارتكبها حكام ديكتاتوريون مقرَّبون، إلا أنه كانت هناك حدود لذلك -مثلما تبيَّن أوغستو بينوشيه في تشيلي، وشاه إيران، ومؤخراً حسني مبارك في مصر. لكن بالامتناع عن فرض عقوبات على ولي العهد السعودي، حتى بعدما خلصت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أنَّ الأمير هو المسؤول عن قتل خاشقجي، وضع ترامب معياراً جديداً: ليس هناك خط أحمر للوحشية، ولا حتى تقطيع صحافي معارض أشلاءً بمنشار ثم الكذب بوقاحة حول ذلك على الرئيس ووزير الخارجية الأميركيين.
وما ترتب على ذلك من انطلاق موسم صيد المعارضين والصحفيين والناشطين الحقوقيين من قبل أنظمة حاكمة اعتادت الشعور بالقلق حول رد فعل الولايات المتحدة على ذلك، سيزداد سوءاً بعد رسالة أخرى من ترمب يقول فيها إنَّ ارتكاب عمليات خطف وقتل على أرض أجنبية أصبح الآن مقبولاً.
وكانت الدول الغربية تسعى للتصدي لموجة خطيرة من عمليات الاختطاف والاغتيال الدولية ترتكبها روسيا والصين. إذ صدرت ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقوبات جديدة على خلفية محاولة تسميم جاسوس وعميل سابق لدى الاستخبارات السوفيتية كان يقيم في بريطانيا. غير أنَّ ترامب لم يبدِ أي اهتمام خاص بحقيقة أنَّ خاشقجي قُتِلَ على أرض دولةٍ أجنبية وداخل منشأة دبلوماسية، وهو انتهاك مزدوج للأعراف الدولية، يكاد لم يسبق لوقاحته مثيل. إلى جانب أنه لم يهتم أيضاً بأنَّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن تركيا باعتبارها أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو).
المعارضون المصريون في أميركا قلقون أيضاً
وبحسب المقال من ثم، لا ينبغي أن نندهش إذا اختفى أو قُتِلَ المزيد من المعارضين المنفيين، بما في ذلك المتواجدون في دولٍ غربية. وهناك كثير من المصريين المغتربين في محيط واشنطن، وأخبرني بعضهم أنَّهم تعرَّضوا لمضايقات ومراقبة مثل تلك التي تعرَّض لها خاشقجي قبل مقتله. وفي حال اختفى أحدُهم أو قُتِل، هل سيُعاقَب ترامب حليفَه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؟ الواقع أنَّ قضية خاشقجي تعطي الرئيس المصري ضوءاً أخضر ساطعاً.
وبحسب المقال يترتب على ذلك ما سيكون الإرث الأبشع والأطول عمراً الذي تُخلِّفه قضية خاشقجي، والمتمثل في التأكيد على أنَّ الحقيقة لم تعد مهمة في السياسة الخارجية الأميركية. وكان الرئيسان الأميركيان، اللذان عمل هنري كيسنجر وزيراً للشؤون الخارجية ومستشاراً للأمن القومي في إدارتهما، ليقرَّان بأنَّ ولي العهد السعودي قاتلٌ وحشي، ثم سيجادلان أنَّ الإدارة الأميركية بحاجة للعمل معه بغض النظر عمَّا حدث. غير أن ما استحدثه ترامب في الموقف الأميركي هو القول إنه سواء كان سفاح مُقرَّب هو الذي أصدر أمراً بالقتل أم لا، فالمسألة لا تستحق الوصول للحقيقة، حتى وإن كانت الاستخبارات الأميركية تؤكد يقيناً أنه مذنب.
هل حصل ترامب على منافع سعودية فعلاً؟
وبحسب الكاتب الأميركي فإن الشيء نفسه ينطبق على المنافع الهائلة التي يزعم ترمب أنها تعود على الولايات المتحدة من علاقتها مع السعودية. إذ لا يبدو أنه يهتم بأنَّ الرياض لم تفِ تقريباً بأي من تعهداتها المتعلقة بصفقة شراء أسلحة أميركية بقيمة 110 مليارات دولار، أو أنها خلافاً لما يقوله ترامب تسعى لرفع أسعار البترول وليس خفضها، أو أنها تضر بخطط احتواء إيران بدلاً من المساعدة فيها.
وإذا لم يُعتَد بهذه الحقائق، فإنَّ الولايات المتحدة ستظل مغيبة ما دام يصر ترامب على أنَّ العكس هو ما يحدث. إلى جانب أنه خلال اتخاذ قرارات صارمة حول مصالح الدولة، التي يعجب بها بشدة الواقعيون على ساحة السياسة الخارجية التقليدية، سيُتَّبَع نهجٌ بديل لن تكون فيه أية اعتبارات إلا لمشاعر الرئيس. إذا لم تكن هناك أية حقائق، فلن تجري أية عمليات مقايضة بين محاسبة المجرمين والمصالح الأميركية الأخرى. وستصبح ذريعة "ربما كان يعلم وربما لم يكن يعلم" الغطاء الجديد لأي ديكتاتور، طالما أنه يمنح ترمب سبباً ليقول "أنا أعجبه".