قال موقع Stratfor، إن الدول "الصغرى" في مجلس التعاون الخليجي ممثلة في قطر والكويت وسلطنة عُمان، عانت خلال السنوات الأخيرة، ضغوطاً من السعودية والإمارات ، اللتين هددتا "استقلالية" تلك الدول.
وأوضح الموقع الأميركي أن سياسة الرياض وأبوظبي فشلت في دفع الدول الثلاث لتبني سياستهما بالمنطقة وخارجها، من خلال الاعتماد على "حيل" لاستمالة القوى الخارجية الكبرى، والحفاظ على استقلاليتها.
على مدار عقود، حَمت الولايات المتحدة الأميركية الدول الصغرى في الخليج من سلسلةٍ من التهديدات: السوفييت، والثورة الإيرانية، والرئيس العراقي صدام حسين. لكن بعد الربيع العربي، برز تحدٍّ جديد لاستقلال تلك الدول: جيرانهم السعوديون والإماراتيون.
الحفاظ على الاستقلالية بمساعدة خارجية
يقول تقرير الموقع الأميركي، إن السعودية والإمارات مُستغلّتَين غطاء استراتيجية واشنطن المعادية لإيران، تهدفان إلى دفع بقية دول مجلس التعاون الخليجي لتبنّي خطهما.
انضمت البحرين قبل زمنٍ طويل إلى جانبهما، لكنَّ قطر لم تفعل الشيء نفسه بكل تأكيد، وهي حقيقة أدَّت إلى فرض حصارٍ على الدوحة، على خلفية رفضها اتخاذ إجراءات صارمة بحق المعارضين الذين يُهدِّدون السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب أسباب أخرى.
وفي الوقت نفسه، تضع أكبر قوتين في المنطقة وفي مجلس التعاون الخليجي نصب عينيهما أيضاً الكويت وسلطنة عُمان، مُعتبرتين أنَّ استقلال هاتين البلدين يفرض تهديداً على استقرارهما هما.
لكنَّ مفتاح نجاح تلك الاستراتيجية يكمن في ضامِنة أمن المنطقة: الولايات المتحدة.
بدا لفترة وجيزة أنَّ السعودية والإمارات أقنعوا الرئيس الأميركي بالوقوف إلى جانبهم حين دَعَمَ دونالد ترمب مؤقتاً حصارهم قطر صيف العام الماضي (2017).
لكنَّ هذا الإجراء لم يؤدِّ إلا إلى تشجيع الدوحة على تذكير واشنطن، بقوةٍ، بقيمتها كشريكٍ استراتيجي لها، في حين فتحت الكويت ومسقط أيضاً طريقاً مع البيت الأبيض؛ خشية أن تصطدما مع الرياض وأبوظبي.
وكل هذه الإجراءات جزءٌ من استراتيجية القوى الخليجية الصغرى أعضاء مجلس التعاون الخليجي القائمة منذ زمنٍ طويل: اعتمِد على قوة خارجية –لديها مصلحة محدودة في تبديل الظروف السياسية الإقليمية- كي تحافظ على شعور بالتوازن؛ ومن ثم ضمان بقاء الدول الأصغر في مواجهة العدوان من القوى الأكبر بالمنطقة.
وهي استراتيجية مُجرَّبة ومُختبَرة، وبالنسبة للكويت وقطر وعُمان، تنجح هذه الاستراتيجية مجدداً.
اعتماد مجلس التعاون الخليجي على "الحماية الأجنبية" لم يكن وليد اليوم
طيلة الجزء الأكبر من التاريخ، كثيراً ما أغفلت القوى الإقليمية أو تجاهلت الحافة الشرقية لشبه الجزيرة العربية، إذ لم ترَ منافع تُذكَر في السيطرة على مراكز الصيد وجمع اللؤلؤ المتناثرة تلك على السواحل.
وناورت القوى الإقليمية بإيران وبلاد ما بين النهرين والأناضول في بعض الأحيان لمد سيطرتها إلى المنطقة، لكن سرعان ما كانت تلك الطموحات تصطدم بطرفٍ آخر في المنطقة يكبحها.
استمرت تلك العملية قروناً، بدايةً من الأخمينية في بلاد فارس، وصولاً إلى الحروب الكثيرة التي وقعت بين العثمانيين والصفويين.
لكنَّ توازن القوى انتهى عام 1820، حين دخل البريطانيون الخليج لتأمين طرق التجارة المربحة في المنطقة وخارجها، بهدف السيطرة على دُرَّة تاج الإمبراطورية البريطانية في الهند.
تبنَّت المملكة المتحدة استراتيجيةً مختلفة في إدارة دول مجلس التعاون الخليجي ، فأقامت محميات بدل تأسيس مستعمرات، ومنحت النخب المحلية المجال لإنشاء مؤسساتهم وتبنّي تقليد الاعتماد على القوى الخارجية، للحفاظ على أمنهم.
وقبل وقتٍ ليس بطويل من بداية القرن العشرين، زالت الإمبراطوريتان العثمانية والصفوية، ما سمح للمملكة العربية السعودية الجديدة بالظهور وبسط سيطرتها على معظم شبه الجزيرة العربية.
من دون التدخُّل الخارجي، كانت تلك القوة المتنامية -على الأرجح- ستبتلع جيرانها الصغار: الكويت، وقطر، والإمارات المُتصالحة، وعُمان. لكنَّ حُكَّام الحافة الشرقية لشبه الجزيرة العربية اقتربوا أكثر من بريطانيا العظمى، للحفاظ على استقلالهم.
بل إنه حتى حليف الرياض القوي في الخليج لجأ إليها لوقف التهديد السعودي
ظهرت فائدة قوة الحماية هذه في أثناء أزمة البريمي عام 1952، حين حاولت السعودية انتزاع السيطرة على ما تُعرَف الآن بمدينة العين، من قبضة الإمارات المتصالحة. أثارت أبوظبي وعُمان شبح تدخُّلٍ عسكري بريطاني محتمل، لإقناع السعوديين بالانسحاب قبل بدء الأعمال العدائية، الأمر الذي أدَّى إلى بقاء العين جزءاً مما بات الآن يُعرَف بالإمارات العربية المتحدة.
استمرت تلك الاستراتيجية بعد انسحاب المملكة المتحدة من المنطقة عام 1971، لترث موقعها الولاياتُ المتحدة الأميركية، التي كانت ترغب في الحفاظ على إمدادات الطاقة وإبقاء الاتحاد السوفييتي بعيداً عن الخليج.
ومنذ وصول الولايات المتحدة إلى المنطقة، أظهرت كلٌّ من قطر والكويت وعُمان قيمتها لواشنطن عن طريق تحوُّل تلك البلدان إلى شركاء دبلوماسيين واقتصاديين وسياسيين لها.
فتوسَّطت الكويت إبان حرب اليمن والخلافات البينية داخل مجلس التعاون الخليجي ، في حين أظهرت قطر ثقلها الاقتصادي بغزة، وعملت مع الولايات المتحدة لإطاحة مُعمَّر القذافي في ليبيا، ودعمت المعارضة المناهضة للحكومة بسوريا.
واستضافت عُمان المفاوضات الإيرانية-الأميركية، التي أسفرت في النهاية عن "خطة العمل الشاملة المشتركة" (الاتفاق النووي)، حتى لو كان الاتفاق الآن في حالة يُرثى لها.
لكن بعد بدء الحصار على الدوحة في 2017، أدركت كلٌّ من الكويت وعُمان –فضلاً عن قطر- أنَّ جيرانها الأكثر حزماً، وكذلك الولايات المتحدة، يمكن أن يُهدِّدوا استقلاليتها. ونتيجة لذلك، تحرَّك الثلاثي لإيجاد سبلٍ، ليُظهِروا بها من جديدٍ قدراتهم الفريدة التي تتناسب مع المصالح الأميركية، ويحافظوا على استقلاليتهم.
قبل أن تتحد السعودية والإمارات معاً لإخضاع مجلس التعاون الخليجي
لكن بدلاً من التوسُّع الإقليمي، تسعى الرياض وأبوظبي في نهاية المطاف، إلى تحقيق الأمن السياسي، خوفاً من إمكانية أن تضر حركات المعارضة الموجودة في البلدان المجاورة بالسعودية والإمارات.
ومن ثَمَّ، وضع البَلدان الإخوان المسلمين في الخليج نصب أعينهما، وسعياً في الوقت نفسه لجعل مجلس التعاون الخليجي أكثر اتحاداً وتماسكاً.
لكن فور فرض الحصار على قطر، ضغطت الدوحة على إدارة ترامب لتقويض الادعاءات السعودية-الإماراتية بأنَّها تدعم الإرهاب. وفي هذا الصدد، كانت ارتباطات قطر العسكرية والدبلوماسية مع الولايات المتحدة، والمتمثلة في آلاف الجنود الأميركيين المتمركزين في قاعدة العديد الجوية بالبلاد، مفيدة.
لكنَّ قطر أيضاً أمضت عامي 2017 و2018 وهي تضع نفسها في موضع المُوزِّع المفيد للمساعدات بمناطق لم تعُد الولايات المتحدة ترغب في تحمُّل عبئها المالي.
فبعد اندلاع الاحتجاجات في الأردن، وهو بلدٌ حليفٌ استراتيجي للولايات المتحدة، بسبب مشروع قانون ضرائب الدخل، الذي ظهر نتيجة الاتجاه نحو التقشُّف، تقدَّمت قطر سريعاً باستثمارات، للمساعدة في استقرار الموازنة الأردنية.
وقدَّمت المال بلا تردد إلى غزة، للحيلولة دون دفع الوضع الاقتصادي هناك لـ"حماس" إلى الذهاب للحرب مع إسرائيل. وفي كلتا الحالتين، عزَّز المال القطري في الأخير المصالح الأميركية.
ولم تكن قطر الهدف الوحيد من الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات
ومثَّل الحصار ضغطاً مباشراً بدرجة أقل على الكويت، لكن لا تزال البلاد تواجه اتهامات سعودية وإماراتية بأنَّ برلمانها يسمح بمجالِ مناورةٍ أكبر من اللازم لـ "الإخوان المسلمين".
والرياض، من جانبها، لم تكترث كثيراً بأنَّ أمير الكويت لا سلطة له تسمح بتضييق الخناق على الإسلام السياسي، بسبب دستور البلاد والبرلمان، أو تكترث بأنَّه غير قادر على قطع كل علاقاته مع طهران، بسبب الصلات بين الكثير من النخب الشيعية الكويتية وإيران.
وكانت السعودية، التي تكرَّر سوءُ فهمها الأنظمة السياسية للبلدان الأخرى، وضمن ذلك لبنان وكندا والولايات المتحدة، مستعدةً لإجبار الكويت على سَن تغييراتٍ سياسية مستحيلة إلى حدٍّ كبير.
ومباشرةً بعد فشل السعودية والكويت في تسوية خلافٍ قديم حول حقول نفطية بالمنطقة المحايدة بين البلدين العضوين في مجلس التعاون الخليجي ، شنَّت الرياض حملة قصيرة على تستهدف تويتر ضد جارتها الأصغر، مُطلِقةً تحذيراً بأنَّ المملكة قد تحاول تقويض برلمان الكويت.
لكن على غرار قطر، فتحت الكويت أيضاً كيس نقودها من أجل الأردن في أثناء أزمته الاقتصادية التي مرَّ بها الصيف الماضي، مُستعرِضةً قدراتها في مجال المساعدات، لتذكير واشنطن بأنَّها هي أيضاً حليفٌ قوي في تخفيف الأعباء الأميركية الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، قدَّمت الكويت كذلك الدعم للسعودية حين وجدت الدولةُ ذات الثقل الإقليمي نفسها في موضع المساءلة نتيجة مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي بإسطنبول.
وحتى لو كنت محايداً فإن ذلك يقلق الرياض وأبوظبي
بدأت سلطنة عُمان هي الأخرى ترى جهوداً سعودية وإماراتية للحد من استقلاليتها، لا سيما بعدما بدأت أبوظبي، شريكة عُمان التجارية الرئيسية، تُحكِم رقابة الحدود ومضايقة الشركات العُمانية العاملة بالإمارات.
تفتقر مسقط إلى أموال قطر والكويت، التي تمكِّنها من إثارة إعجاب الأميركيين بالمساعدات، فلعبت بدلاً من ذلك بورقتها الدبلوماسية الكبيرة الشهر الماضي (أكتوبر/تشرين الأول 2018)، بدعوتها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى السلطنة، لمناقشة مباحثات السلام الفلسطينية.
ربما لم تسفر المناقشات عن تقدم دبلوماسي كبير، لكنَّها أظهرت بالفعل السلطان علناً، وفي وسائل الإعلام العُمانية، مع رئيس وزراء إسرائيلي مُقرَّب من البيت الأبيض الحالي.
الأكثر من ذلك أنَّ عُمان عضو مجلس التعاون الخليجي أعلنت كذلك أنَّها ستستضيف قاعدة عسكرية بريطانية جديدة –هي الأولى منذ 1971- في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2018، مُظهِرةً مجدداً قيمتها الاستراتيجية لولاياتٍ متحدة تريد من حلفائها تخفيف مسؤولياتها الأمنية.
أثبتت عُمان ملاءمتها باعتبارها موقعاً دبلوماسياً ومركزاً عسكرياً للولايات المتحدة وحلفائها، وهو سببٌ كافٍ لأميركا كي ترغب في استمرار استقلالية عُمان.
ما جعل الولايات المتحدة تتبنى "نهجاً ثنائياً" مع دول الخليج
فمن ناحية، ستطلب الدعم من المحور السعودي-الإماراتي الحازم لمعارضة إيران. وستجذب تلك الدول الثلاث معاً الدعم من إسرائيل، التي تستغل التهديد الإيراني للتقارب أكثر مع السعودية والإمارات.
لكن مع سعي السعوديين والإماراتيين لتحقيق أهدافهم الإقليمية ضد بلدان قطر والكويت وعُمان السُّنّية الرفيقة في مجلس التعاون الخليجي ، سيعمل هذا الثلاثي على إظهار قوته الناعمة في مناطق توجد فيها مصالح أميركية، لكن في الوقت نفسه لا تمارس الولايات المتحدة نفوذها فيها، أو لا تستطيع ممارسة هذا النفوذ.
من ثَمَّ، قد تعهَد الولايات المتحدة بالإدارة التفصيلية في بعض القضايا الثانوية إلى هذا المحور الخليجي غير الرسمي.
فعلى سبيل المثال، يُمثِّل لبنان –وهو بلد يواجه اقتصاده أزمة ديون وقد يعاني آثار عقوبات واشنطن المضادة لحزب الله- نقطة اشتعال بإمكان المال الكويتي أو القطري أن يكون مفيداً فيها. ويُمثِّل الأردن، حيث ستعود الأزمة الاقتصادية بصورة شبه مؤكدة، نقطة أخرى كذلك.
لأن لكل دوره في خدمة مصالح الولايات المتحدة
وهناك دور للكويت وقطر وعُمان بالأراضي الفلسطينية، وذلك في ظل سعي الولايات المتحدة إلى منع نشوب حرب بين "حماس" وإسرائيل، وإبقاء اقتصاد غزة واقفاً على قدميه، وضخ بعض الحياة إلى عملية السلام المحتضرة.
وقد تستفيد مناطق أخرى، مثل إعادة إعمار العراق، وكذلك اليمن الذي مزَّقته الحرب (خصوصاً مع اكتساب الأزمة الإنسانية هناك أهمية سياسية داخل الكونغرس الأميركي)، ببعض المساعدة من الدول الثلاث.
وأخيراً، قد تبرز الدول الثلاث لتكون موقعاً لمباحثاتٍ إيرانية-أميركية إذا ما حدثت تلك الانفراجة الدبلوماسية، حتى لو كانت رؤية هذه النتيجة تبدو مستبعدة للغاية في ظل الإدارة الأميركية الحالية.
تبذل الأطراف الفاعلة الكبرى في الخليج قصارى جهدها لدفع الجيران الأكثر استقلالية في تفكيرهم إلى تبنّي خطهم. لكن برغم الصغر الذي قد تكون عليه الكويت وقطر وعُمان، فإنَّ استراتيجية تلك الدول المتكررة، المتمثلة في تقديم خدمة لا تُقدَّر بثمن للقوى الخارجية، ستفيدها كثيراً في مساعيها لإيجاد دور إقليمي مستقل. وفي النهاية، ستتصدى دول الخليج العربي المحايدة -على الأرجح- للتدخُّل السعودي والإماراتي مجدداً.