على الرغم من مرور قرابة 20 عاماً على وفاته، فإنه لا تزال هناك تفاصيل جديدة تتكشَّف عن حافظ الأسد، رئيس سوريا في الفترة من 1970 حتى 2000، آخرها جاء في فيلم وثائقي بعنوان "بيت الأسد: أسرة حاكمة خطيرة" (A Dangerous Dynasty: House of Assad).
كانوا يطعنون الجِراء من أجله
ومنها ما هو صادم، فبحسب الفيلم كان حافظ الأسد يطلب من جنوده الذكور في الاستعراضات العسكرية أن يطعنوا جراءً صغيرة أمامه، وكان يطلب من المجنَّدات الإناث أن يقطعن رؤوس الثعابين وهي حية بأسنانهن. وكان هذا على ما يبدو لإظهار الولاء إليه، وربما ليمنح الابن الأكبر دفعة من نوع ما.
يبدو الأمر "غير قابل للتصديق"، بمعنى أنه يبدو كما لو كان حملة دعائية للموساد أو وكالة الاستخبارات المركزية.
أو كما لو أنها "أخبار زائفة" مثلما نقول في هذه الأيام.
ولكن بحسب هذا الوثائقي، الذي اعتمد على مجموعة رائعة من الأفلام المحلية، والمقابلات، ومواد الأرشيف، وجد مخرجو الفيلم الوثائقي أنها على ما تبدو مشاهد حقيقية، وإن كانت اللقطات مشوشة قليلاً، لهذه الأحداث المقززة.
حافظ الأسد.. شخصية سادية
لذا فإن القسوة مع الحيوانات كانت واحدة من العديد من السمات الشخصية السادية لحافظ الأسد.
أجل، كانت السادية إحدى سماته الشخصية، حسب ما ذكر صحيفة The Independent البريطانية.
غير أنه حظي بالمكر الفطري أيضاً، الذي مكَّنه من الإبقاء على قبضته على الحكم حتى وفاته، وهو أمر ينبغي أن يُحسب إنجازاً من نوع ما؛ ففي النهاية، قليل من الديكتاتوريين يتمكنون من الموت في سلام.
وكان كذلك قادراً على تدبير استخلاف ابنه الثاني بشار لمنصب الرئاسة، حسبما يفسر أحد خبراء الشرق الأوسط، تعتبر الخلافة بين أفراد الأسرة أمراً ضرورياً للعائلة الحاكمة، من أجل تجنُّب التعرُّض لمحاكمات على جرائمها، ومواصلة الاستمتاع بالسلطة، والحفاظ على ثروتها.
ومن خلال سلسلة من المقابلات مع السوريين المنفيين، والخبراء والدبلوماسيين الغربيين، تشكَّلت صورة لأسرة الوحوش هذه، وبكل ما فيها من عيوب.
ليس بشار الأسد الوحيد المضطرب نفسياً
لم يكن بشار الأسد على كل حال الشخص الوحيد المضطرب نفسياً بين أفراد العائلة، بل إن أمه الراحلة، أنيسة مخلوف، كانت على سبيل المثال أشد قسوة من رجال العائلة، وكانت نصيحتها لبشار أنه من أجل أن يستقر وضعه ويكون مهاباً سيكلفه ذلك أرواح العديد من السوريين.
يأتي بعد ذلك مجد الأسد، أخو بشار المتوفى، الذي كان يتعاطى المخدرات ويعاني من مشاكل تتعلق بصحته العقلية. كان ماهر الأسد الابن الثالث لحافظ الأسد، والمفضل لأنيسة، لكنه كان يُرى مندفعاً ومتهوراً حتى بالنسبة لآل الأسد أنفسهم.
خيارات مستبعدة أوصلت الحكم لبشار
ولعل بشرى، الأخت الوحيدة لبشار الأسد كانت الخيار الأول لخلافة والدها على رأس العائلة ولقيادة البلاد، غير أنها استُبعدت تلقائياً لاعتبارات تتعلق بنوعها الاجتماعي. ويأتي بعد ذلك الأخ الثاني للرئيس حافظ الأسد وعم الرئيس الحالي، رفعت الأسد، الذي كان مساعداً مخلصاً لأخيه الأكبر للعديد من السنوات.
ينحدر الشقيقان من أسرة تتكون من 11 شخصاً، نشأوا في فقر مدقع، واستخدموا الجيش ليكون مطيتهم من أجل الحراك الاجتماعي والتخطيط للانقلابات واغتيال الخصوم طوال طريقهم. ثم حاول رفعت الاستيلاء على السلطة من خلال انقلاب نفَّذه بنفسه أثناء استشفاء حافظ من أزمة قلبية. ومراعاة له، كان رفعت محظوظاً بأن يتم إبعاده من خلال بقائه في المنفى وحسب.
كان الخيار الواضح لخلافة حافظ موجهاً صوب الابن الأكبر، الشاب الوسيم باسل الأسد، وهو فارس جيد وشخصية حيوية جرى إعدادها جيداً من أجل هذا الدور منذ أن كان صغيراً. غير أن هذا الشاب المدلل كان مدمن قيادة السيارات السريعة، وتوفي في حادث سير حقيقي (وغير مدبر، على عكس المعتاد) في طريقه إلى المطار عام 1994، بينما كان يقود سيارته المرسيدس قيادة متهورة في الضباب.
كانت أولى الكلمات التي قالها حافظ بعد أن أخبروه بوفاة ابنه: "هل هذا انقلاب؟"
وهو ما يعني أن الخلافة سوف تذهب إلى الشخصية المستبعدة في بيت الأسد؛ بشار الأسد. كان خجولاً، وذا مظهر جسدي غير جذاب، وقامة طويلة ذات رقبة ممتدة بشكل غريب.
وكان منهمكاً -بغموضٍ لطيف- في عمله جراحاً بمستشفى Western London Eye Hospital.
بشار: من طبيب إلى مفجّر البراميل
يبدأ الفيلم الوثائقي بلقطات جوية تصوّر مدينة لندن في التسعينيات، بينما يُسمع في الخلفية مقطعٌ موسيقيٌّ يُعزَف بانسيابية لأغنية In the Air Tonight، للمغني البريطاني فيل كولنز. وعلى ما يبدو، كانت أغنية No Jacket Required (ليس هناك حاجة لأي معطف) الخيار المفضل من ألبوم فيل كولنز لجزار سوريا المستقبلي من أجل الاسترخاء بعد يوم شاق في غرفة العمليات.
ومع تطورات الأحداث آنذاك، كان على موعد مع الحصول على دورة تعليمية حول كيف يكون ديكتاتوراً في الشرق الأوسط: سيتطلب الأمر على وجه التحديد مِعطفاً (على عكس كلمات الأغنية) وهيئة عسكرية كاملة.
هل كان طالباً نجيباً؟ لقد شقَّ طريقه ليتحول من شخصية طبيب لطيف إلى مفجّر براميل في حوالي عقدين من الزمان، ولا يزال متشبثاً بالسلطة في دمشق، ومن ثم تكون الإجابة: أجل كان طالباً نجيباً.
كيف حدث إذاً هذا التحول؟
سعى صناع الفيلم الوثائقي للحصول على المعلومات من الخبراء النفسيين الذين استعانت بهم وكالة الاستخبارات المركزية لتحليل شخصية بشار، واستنتجوا أن من قاد بشار هو "أبوه الذي وضع المسؤولية على كاهله"، بل دفعه كذلك إلى مزيد من القسوة والوحشية، بما في ذلك -حسبما نعرف- استخدام الأسلحة الكيميائية.
صِيغ التباين بين الأب والابن عن طريق شخص يعرف كليهما. كان حافظ "زعيماً وحشياً هادئاً ومعتدلاً… وكان براغماتياً وكثير التفكير في طريقة تكريس جهوده. أما بشار فيتصرّف حسب اندفاعاته".
أسماء الأسد.. شخصية محيرة أيضاً
ثمة إغواء لذكر زوجة بشار الأسد، أسماء الأخرس. نشأت أسماء في عائلة سورية تعيش في أكتون بمدينة لندن. حرصت أمها، التي كانت تعمل في السفارة السورية في لندن، على أن تلفت أسماء الجميلة الذكية نظرَ ابن الرئيس.
وقد واجهت أسماء -على ما يبدو- بعض المشاكل مع حماتها بعد الزواج، غير أن ماهية النفوذ الذي امتلكته أسماء -التي كانت تعمل قبل الزواج في الاستثمار المصرفي- على بشار الأسد لا يزال، وتُعد زوجته شخصيةً محيِّرة مثله؛ إذ كانت أسماء الأسد، التي وُلدت في المملكة المتحدة ونشأت بمنطقة أكتون غربي مدينة لندن، على وشك الذهاب إلى جامعة هارفارد لدراسة الماجستير عندما غيَّرت رأيها وقررت الزواج بالأسد، الذي ورث حكمه عن أبيه بعد مقتل أخيه الأكبر في حادث سيارة.
وفضلاً عن حضورها الفاتن وقدرتها على التعبير ببلاغة، بدا أن السيدة الأولى الجديدة ذات عقليةٍ إصلاحية. وكانت أسماء حريصةً أيضاً على الترويج للجانب اللطيف من شخصية زوجها، إذ قالت عنه سابقاً: "إحدى أفضل صفاته هي أن الحديث معه سهلٌ للغاية". وفي ظل الأحداث الحالية، تبدو كلماتها المُسكِّنة مشؤومة.
تمثل شخصية أسماء لغزاً. صحيحٌ أنَّ الأسد فشل بالتأكيد في اختبار الإنسانية، لكن ماذا عنها؟ هل يمكن أن تؤيد أفعال النظام السوري؟ هل كان لديها خيار؟
تُظهر رسائل إلكترونية حصلت عليها صحيفة The Guardian البريطانية في 2012، أنها كانت، في واقع الأمر، تطلب العديد من الأشياء من متجر Harrods ببريطانيا. وكلما ظهرت أسماء في المناسبات العامة، كانت تُعلن ولاءها للنظام بلا كلل.
الفيلم مختلف كثيراً عن أفلام المستبدين الآخرين
غير واضح حتى الآن، وحتى في ظل الفحص المكثف الذي تعرضت له حياتها في الجزء الأول من أصل 3 أجزاء يتكون منها الفيلم الوثائقي، الذي يضع أسرة الأسد تحت مجهر تحليل نفسي.
بإمكان هذا العمل الوثائقي أن يحصل بكل سهولة، على موقع له بين اسكتشات الحكام المستبدين في التاريخ، على شاكلة أعمال قناة History Channel، إذ يكون محتواها بغيضاً في تفاصيل الأعمال الوحشية، لكنه يقدم القليل من الرؤية الواقعية.
كان النهج هنا على النقيض من ذلك؛ فقد عُرضت جرائمهم على المُشاهد، غير أن ذلك صاحبته محاولة استيعاب العوامل السياسية والاجتماعية والشخصية التي تتصرف على أساسها عائلة الأسد.
هل سيستمر نظام بشار الأسد مدة تكفي لتوريث الحكم لابنه، حافظ (الذي حمل اسم جده)؟ ربما! فإننا في واقع الأمر، لا نريد حقاً أن نعرف الجواب على ذلك السؤال.
بدأت الحلقة الثالثة والأخيرة من الفيلم الوثائقي A Dangerous Dynasty: House of Assad أو "سلالة خطرة: آل الأسد" الذي عُرض على قناة BBC Two، بحوارٍ مع طبيب سوري يُدعى زهير سحلول. كان سحلول طالباً في كلية الطب مع الرئيس السوري بشار الأسد وكان على معرفة به آنذاك. ويقول سحلول: "إنه أمرٌ مثيرٌ جداً للسخرية. كنَّا زملاء في الصف الدراسي نفسه، وأصبح أحدنا يقصف المستشفيات والآخر يعالج ضحايا هذا القصف".
يُلخِّص هذا التصريح السؤال، الذي تسعى حلقات الفيلم الوثائقي الرائع المُروِّع للإجابة عنه: كيف أصبح طبيب عيون خجول أخرق يسعى لإرضاء الآخرين مستبداً قاتلاً؟! كيف ينتهى المطاف بشخصٍ تدَّرب على علاج المرضى ليقتل أكثر من نصف مليون سوري؟!
الثورة السورية وخيار الوحشية بدل الإصلاح
غطَّت الحلقة الثالثة من الوثائقي جذور الحرب الحالية. يُذكَر أنَّ مجلة Vogue الأميركية قد أجرت حواراً صحافياً مع أسماء في توقيت غير ملائم تماماً، إذ كان في اليوم نفسه الذي شهد إضرام بائع فاكهة متجول يدعى محمد بوعزيزي، النار في نفسه بتونس احتجاجاً على فساد الحكومة في نهاية عام 2010، وهي الحادثة التي أشعلت الربيع العربي. وفي نفس وقت نشر عدد مجلة Vogue الذي يحوي مقالاً بعنوان "أسماء.. وردة الصحراء"، بأكشاك بيع الصحف، كانت موجات الاضطرابات تضرب الحدود السورية.
وفي محافظة درعا السورية، رسم بعض الأطفال رسمةً جدارية على حائط أمام مدرستهم، كتبوا تحتها: "أيها الطبيب، دورك هو التالي". وبدأت التظاهرات الأولى رداً على اعتقال هؤلاء الأطفال وتعذيبهم.
في هذه الأيام الأولى للانتفاضة السورية، كان هناك بعض الأمل في أن يتجنب الأسد الكارثة بأن يختار الإصلاح بدلاً من القمع، إذ كتب أحد وزرائه له آنذاك: "وصل حصان الثورة الجامح إلى درعا دون فارس. آمل أن تكون أنت هذا الفارس". لكنَّ الأسد لم يختر القمع فقط، بل الوحشية الصاعقة.
الشكل يختلف عن المضمون
لا يوحي شكل الأسد بأنه وحشٌ على الإطلاق، لدرجةٍ يصعب التصديق بأنه مسؤولٌ بالكامل عن كل ما يحدث.
تُظهر معلومات استخباراتية أن أمه تضغط عليه باستمرار ليتبنى نهجاً قاسياً، ومن الممكن أن أخاه الأصغر، ماهر، قد عُهِد إليه بمسؤولية تنفيذ بعض المذابح. لكنَّ فكرة أن الأسد يُمثل الوجه المعتدل لنظامٍ وحشي يحكمه أفرادٌ آخرون من العائلة مضلّلةٌ، إذ تُظهر وثائق مُسرَّبة من سوريا أنَّ الأسد عرف كل شيء حدث في البلاد ووقَّع عليه.
وبعد أن شرع الأسد في شنّ حربٍ على شعبه، أصبحت جرائمه تتجاوز قدرة الفيلم الوثائقي على تسجيلها، إذ قُتل متظاهرون بالمئات، ودُمِّرت أحياءٌ بأكملها تحت وطأة قصف النظام إياها، وانتُهكت الحدود الأخلاقية واحداً تلو الآخر.
واستُهدفت الصحافية ماري كولفين باستخدام إشارة شبكة هاتفها المحمول وقُتلت. وأظهر استخدام غاز السارين بوضوحٍ، أن النظام قادر على فعل أي شيء. لم تُظهر السلالة الحاكمة الخطرة أي بوادر على التردد أو الخوف، في حين شعرتُ بالقلق مراراً مما تفعله هذه الأسرة.
قرار الحرب الأهلية كان خطأً.. ولكن
وأخيراً، يُذكِّرنا الفيلم بأنَّ قرار الأسد دفع سوريا في حربٍ أهلية كان خطأً فادحاً في الحسابات، إذ كان يخسر كل شيء. ففي مرحلةٍ ما خلال الحرب، كان الأسد يُسيطر على أقل من 20% من البلاد. ولو لم تأتِ روسيا لنجدته، كان سيرحل عن حكم البلاد.
إذا لم تشاهد الحلقتين الأوليَين من الفيلم فبادر من الآن؛ فهما جديرتان بالمشاهدة، لتتابع درساً مرعباً للغاية يتحدث عن كيف آل بنا المطاف إلى هنا.