اعتبرت صحيفة The Guardian البريطانية، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يُفصح عن كل ما لديه من معلومات بشأن مقتل جمال خاشقجي في الوقت الراهن، لأنه يريد ممارسة مزيد من الضغط على الرياض من أجل الإطاحة بولي العهد السعودي، أو على الأقل تحجيم نفوذه.
وقالت الصحيفة البريطانية، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد وصف خطابه أمام البرلمان التركي بأنَّه اللحظة التي سيكشف فيها "الحقيقة الكاملة" بشأن مقتل جمال خاشقجي، لكن بدلاً من ذلك، ظلَّت ظروف وملابسات الحادث طيَّ الكتمان جزئياً حتى الآن.
لم يُقدم الرئيس التركي سوى قليلٍ من التفاصيل الجديدة، بشأن التحقيقات في وفاة الكاتب الصحافي السعودي. ولم تظهر مقاطع التسجيلات الصوتية لواقعة اغتيال خاشقجي التي تحدث الإعلام عنها كثيراً، اليوم الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول.
تركيا لا تريد الإفصاح عن مصادر التسجيلات
وبحسب الصحيفة البريطانية، يبدو أنَّ تركيا، التي تدرك البروتوكول الدبلوماسي والسيادة والحصانة المُفترضة للأراضي الواقعة عليها أي سفارة بلد أجنبية، تشعر بالقلق من الإشارة مباشرةً إلى أي دليلٍ جُمع عن طريق عملية تنصُّت وتسجيل غير قانونية على القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث شوهد خاشقجي آخر مرة في 2 أكتوبر/تشرين الأول.
نُشرت الأدلة بدلاً من ذلك عبر سلسلة من التسريبات إلى وسائل إعلام موالية للحكومة، بما في ذلك الادعاء الأخير بأنَّ سعود القحطاني، أحد كبار مساعدي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كان يعطي الأوامر عبر تطبيق Skype لفريق الاغتيال السعودي الموجود بقنصلية إسطنبول يوم مقتل خاشقجي.
لا يُمكن أن يظهر أردوغان علناً بأنَّه يسعد بوضع المملكة العربية السعودية في موقفٍ مزعج. ويُجري الأتراك تحقيقاً مُعقَّداً بشكلٍ لا يصدق ستترتب عليه تداعياتٌ سياسية ودبلوماسية يمكن أن تستمر لسنوات، لذلك تحرَّك أردوغان بحذر وعناية حتى الآن.
قال أردوغان بشكلٍ واضح في الخطاب الذي ألقاه أمام أعضاء حزبه العدالة والتنمية، اليوم الثلاثاء، إنَّه سيعرض فقط الأدلة التي هو متيقنٌ من صحتها، وبدت نغمة خطابه أقل ترويعاً من اللغة استخدمها في كثيرٍ من الأحيان في تجمعات الحزب.
وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن قائمة التساؤلات التي طرحها أردوغان، مثل مكان وجود جثة خاشقجي وهوية المتعاون المحلي المزعوم الذي تخلص منها، لم تُصمَّم لإحداث تأثيرٍ خطابي. إنَّها الأسئلة الدقيقة التي يتوقع الرئيس التركي من الملك سلمان بن عبدالعزيز أن يطرحها على ابنه ولي العهد، وتُطرح تساؤلاتٌ مماثلة في العواصم الغربية.
كانت هذه التساؤلات تكشف أنَّ أردوغان شدَّد على اعتقاده بأنَّ الملك سلمان كان صادقاً ومتعاوناً مع التحقيقات، لكنَّه لم يشر إطلاقاً إلى محمد بن سلمان، القائد الفعلي للمملكة العربية السعودية.
لائحة اتهام لولي العهد السعودي
في الواقع، يُعد هذا الخطاب عند قراءته بعناية لائحة اتهام يجري إعدادها لإلقاء المسؤولية على ولي العهد السعودي.
إذ قال أردوغان إنَّ "المخابرات والمؤسسات الأمنية لديها أدلة تُثبت أنَّ جريمة القتل كانت مُخطَّطة. وتعليق مسؤولية مثل هذه القضية على مجموعة من رجال الأمن والاستخبارات لن يرضينا أو يرضي المجتمع الدولي". وأضاف: "يجب محاسبة جميع المتورطين، بدءاً من الشخص الذي أصدر الأمر إلى الشخص الذي نفَّذ".
ويبدو أنَّ الهدف هو إقناع العاهل السعودي بأنَّ السبيل الوحيد لإنقاذ سمعة المملكة العربية السعودية هو إما عن طريق إقصاء ولي العهد أو على الأقل تقييد سلطاته، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأميركية.
وبالنسبة لكثيرين، أثبت محمد بن سلمان أنَّه شخص متهور ومستبد، إذ أحجم عن حل المشاكل في اليمن وقطر ولبنان، وجعلها أكثر استعصاءً، بحسب الصحيفة البريطانية.
وجدير بالذكر أنَّ وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت، ردَّ على خطاب أردوغان بتسليط الضوء على تأكيد الرئيس التركي على أنَّ القتل كان متعمداً. إذ شدَّد هنت خلال بيانٍ أمام مجلس العموم البريطاني أيضاً على أنَّ الأنظمة الاستبدادية كانت أقل استقراراً، ملمحاً إلى نوع الإصلاح السياسي الذي ترغب المملكة المتحدة في رؤيته ينبثق من تلك الأزمة.
في الواقع، لا شيء في السياسة الداخلية يعيق بريطانيا عن الضغط على هذا المسار. فقد تخلَّى أقرب أصدقاء السعودية الموجودين على مقاعد المحافظين مثل السير نيكولاس سواميس عن محمد بن سلمان، قائلين إنَّ التعليمات الخاصة بتنفيذ هذه الجريمة البشعة يجب أن تأتي من القمة، وهو افتراض يطرحه كثيرون، لكنَّهم لا يستطيعون إثباته بعد. وكما ذكر توم توغندهات، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، فالمملكة السعودية قد تحوَّلت من "ملكية استشارية إلى حكم استبدادي أحادي القطب في عهد ولي العهد".
وعلى الرغم من أنَّ بعض دول الاتحاد الأوروبي تدفع باتجاه فرض حظرٍ على مبيعات الأسلحة للسعودية، تبدو حكومة المملكة المتحدة والبيت الأبيض، وهما أكبر مُصدرين للأسلحة، عازمين على مقاومة ذلك، ويفضّلان بدلاً من ذلك الضغط من أجل الإصلاح السياسي داخل المملكة، وفرض عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد أفراد. وفي النهاية، من المرجح أنَّ أردوغان والأدلة التي يكتشفها محققو الشرطة التركية هي التي ستحدد كثيراً من مصير ولي العهد. وقد يُثبت خطاب اليوم الثلاثاء أنَّه مجرد شرارة البداية.
إلحاق أكبر ضرر بولي العهد السعودي
وعن خطاب أردوغان، قالت أماندا سلوت، الزميلة البارزة في معهد بروكينغز في واشنطن، والمسؤولة السابقة بوزارة الخارجية الأميركية: "الهدف النهائي لأردوغان هو إلحاق أقصى ضرر بمحمد بن سلمان، وهذا يستلزم إما إزالته من منصبه تماماً، أو على الأقل الحد من سيطرته على السياسة الخارجية".
وأضافت: "بما أنَّ هناك حدوداً لما يمكن أن تحققه تركيا بمفردها، فإنَّ أنقرة على ما يبدو تأمل في أن يقوم الرئيس الأميركي دونالد ترمب و/أو الملك السعودي باتخاذ إجراء ما".
وأغدق أردوغان في كلمته أمام المُشرّعين بأنقرة عبارات الاحترام على الملك سلمان، البالغ من العمر 82 عاماً، مشيراً إليه بأنَّه حامي أقدس المواقع الإسلامية، وأنَّه يثق في صدق الملك سلمان في كشف حقيقة القضية.
وقال مسؤول تركي إنَّ تجاهل أردوغان لذكر ولي العهد كان مؤشراً على أنَّه لا يرى الأمير البالغ من العمر 33 عاماً على قدم المساواة سياسياً معه.
وتشير التسريبات إلى أنَّ تركيا تمتلك تسجيلاتٍ تستخدمها لانتزاع تنازلاتٍ من السعوديين، وكذلك لتقويض ادّعاء المملكة بأنَّها شريك موثوق للغرب.
وبعض المؤيدين النافذين الذين كانوا يدعمون في السابق محمد بن سلمان، بما في ذلك السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام، يدعون الآن صراحةً إلى عزل ولي العهد من السلطة. وفي الوقت نفسه، يقول مؤيدو الأمير في السعودية إنَّه يُسيطر على السلطة بقوة.
وفيما يتعلق بهذا الأمر، سيعتمد الكثير على نهج ترمب، الذي بدأ يتراجع عن اتجاهه الأوَّلي نحو قبول الرواية السعودية التي فقدت مصداقيتها الآن. وأوفد ترمب مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جينا هاسبل، أمس الإثنين 22 أكتوبر/تشرين الأول، إلى تركيا، لتقييم معلومات تركيا في تحقيق خاشقجي. وحذَّر الأتراك سراً من أنَّ واشنطن تُخاطر بتعريض نفسها للإحراج إذا نُظر إليها على أنَّها في عهد ترمب تحاول المساعدة في التغطية على الظروف المحيطة بمقتل خاشقجي وإخفاء الحقيقة.
ومن جانبه، قال سنان أولجن، الباحث في مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية بإسطنبول، إنَّ هذا أحد الأسباب التي تفسر لماذا خطا أردوغان بحذر في خطابه.
وأضاف: "من خلال عدم كشف أوراقه كاملة، يُراكم أردوغان رأس مال سياسياً يُمكن أن يساعده في الفوز بدعم ترمب".