بين الرياض وواشنطن تحالف بدأ منذ عقود وبقي متماسكاً لم تهزّه الخلاف حول ثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011 ولا الإنقلاب العسكري الذي دعمته السعودية في مصر في 2013 ولا حرب اليمن التي رافقتها المآسي الإنسانية، لكن قضية خاشقجي تهدد بتصدع هذا التحالف.
فإذا توَّجب عليك اختيار عامٍ مُحدد حيث بدت تناقضات العلاقة الأميركية – السعودية أكثر عرضةً لأنَّ تُفضي إلى أزمة على مدى العقد الماضي، فلن يكون عام 2018 هو خيارك الأمثل، حسب تقرير صحيفة The New York Times الأميركية.
رُبما تختار عام 2011، حين أجبرت احتجاجات الربيع العربي الولايات المتحدة على دعم حركات الديمقراطية في الشرق الأوسط، والتي اعتبرتها الحكومة السعودية بمثابة تهديدات مُهلكة. أو رُبما تختار عام 2013، حين دعمت السعودية انقلاباً عسكرياً مصرياً كانت الولايات المتحدة حاولت منع حدوثه، وهو ما كان مؤشراً على نهاية حالة الديمقراطية في المنطقة.
أو ربما حتى ستختار عام 2016، الذي بحلوله أصبحت الحرب التي قادتها السعودية في اليمن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية منذ أعوامٍ، وحربٌ علقت في شباكها فيها الولايات المتحدة نفسها.
لكن، قد تكون مخطئاً. فعوضاً عن ذلك، وصل التحالف غير الرسمي إلى ذروة الأزمة هذا العام، فيما تبدو الظروف والملابسات وكأنَّها تٌشير إلى تعزيزه؛ إذ يتَّفق البلدان بشأن كل قضية سياسيةٍ مهمة، ولاسيما قضية إيران. فزعماء البلدين أقرب إلى بعضهم من أي وقتٍ مضى.
حادثة خاشقجي مثلت صدمة أكثر من ضحايا اليمن
ولعل الأمر الأكثر مفاجأة هو أنَّ تفكُّك التحالف لم يرتكز على الوفيات، ولا سيما الأطفال في اليمن، ولكنَّ سببته بشكلٍ صادم حالة واحدة تمثلت في موت الصحافي السعودي المُعارض جمال خاشقجي.
بين عشيةٍ وضحاها، بات الأميركيون المؤيدون للتحالف منذ وقتٍ طويلٍ يتنصلون منه. وتنسحب الشركات التجارية الأميركية من المملكة. حتى المؤسسات البحثية في واشنطن، وهي ضمن أكثر المؤسسات الأميركية تأييداً للسعودية، تُعيد المال السعودي.
لماذا الآن؟ ولماذا هذا الأمر تحديداً؟ إنَّه شيء باعث على الدهشة، ما يؤكد عدم إمكانية التنبؤ بالعالم المُعاصر. ومع هذا، فإنَّه يكشف أيضاً العديد من الحقائق الأكثر رسوخاً في سياسات التحالف، وعلم نفس الجماعة وتصورات عن الأخلاق.
رغم أنَّ قليلين توقعوا حدوث هذا –لعل أولهم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، المتهم بالتورط في وفاة خاشقجي– فقد يتضح الأمر باستعادة التفكير بما حدث في السابق.
المآسي والإحصاءات
يجدر بكل مراسل عمل على تغطية كارثة إنسانية إدراك ما ذُكر أن ستالين أنَّه قاله لمسؤول زميل له بالاتحاد السوفيتي: موت شخص واحد يعتبر مأساة، لكنَّ وفاة مليون شخص يُعد إحصائية.
لهذا السبب نجد أنَّ التغطية الإخبارية لمجاعةٍ أو فيضانٍ غالباً ما تُسلط الضوء على قصة ضحية واحدة.
أو لماذا، مثلاً، وجَّهت قصة آلان الكردي، الطفل السوري الذي عُثر على جثته على أحد شواطئ تركيا عام 2015، الاهتمام العالمي نحو أزمة اللاجئين الأكبر.
ليس سهلاً محاولة إقناع العقل بآلاف الوفيات. يصبح الأمر تجريداً من الجغرافيا السياسية، والاقتصاد، وديناميات النزاع، ومن الإحصاءات.
لكن حالة موتٍ واحدة يُمكن أن تُدرَك بأكثر العبارات قابليةً للفهم، على سبيل المثال، أبٌ ملكوم أو زوجٌ يائس. أو صحفي مقتول، مثل خاشقجي.
وجد علماء النفس بشكلٍ متكرر أنَّ الناس يختبرون رد فعل عاطفي أكبر لموت شخص واحد مقارنة بالكثير من الأشخاص، حتى لو كانت الظروف مماثلة. حتى أنَّه كلما زاد عدد الضحايا، قلَّ التعاطف الذي يشعر به الناس تجاههم.
يندرج هذا التأثير تحت اسم: انهيار الشعور بالشفقة. لا يعني هذا أنَّه ليس بمقدورنا أن نولي اهتماماً بوقوع مليون حالة وفاة، كما يعتقد علماء النفس. بالأحرى، نحن نخشى أن يُثقَل كاهلنا فنكبح عواطفنا كدفاع وقائي عن النفس.
ربما استفاد القادة السعوديون من هذا التأثير دون درايةٍ لسنوات.
كيف يمكن لأي فردٍ أميركي، حتى شخص واحد في الحكومة، التعامل مع آلاف الحالات المُصابة بالكوليرا من جرَّاء التدابير والإجراءات السعودية في اليمن، لا سيما حين ساعدت الولايات المتحدة فرض هذه التدابير؟ أو كيف كان ينبغي أن يشعر المواطنون في البحرين في عام 2011، حين زحفت الدبابات السعودية إلى داخل البلد للمساعدة في إخماد انتفاضةٍ من تطالب الديمقراطية؟
إنَّ إدراك مثل هذه الأحداث على الصعيد الفكري أمرٌ صعب تماماً. لكنَّ الإدراك على مستوى عاطفي ربما يكون ببساطة شيئاً صعباً للغاية للتعامل معه.
مقتل خاشقجي أمرٌ مختلف للذين يديرون شؤون السياسة الخارجية الأميركية
لكنَّ مقتل خاشقجي أمرٌ مختلف حسب The New York Times. إنَّه مرتبطٌ بشكلٍ خاص بالرجال والنساء الذين يديرون شؤون السياسة الخارجية الأميركية.
فهو صحافيٌ متعلم يجوب العالم، ذلك الشخص الذي يمكن أن يعتبره الكثيرون صديقاً أو زوجاً. جعلته مقالات الرأي التي كتبها في صحيفة Washington Post عضواً بصورةٍ غير رسمي في النخبة المثقفة، وهو ناد يعتبر العديد من كتاب Washington Post أنفسهم أعضاءً فيه.
ربما يكون ولي العهد السعودي نفسه هو من جعل للقصة صدى أكبر؛ إذ كان يميل الزعماء السعوديون السابقون إلى كونهم زاهدين وفي منأى عن الأحداث، يظهرون على أنَّهم طلائع البيروقراطيات الملكية المُبهمة.
أضف إلى هذا أنَّ محمد بن سلمان أنفق كمياتٍ طائلة من المال والطاقة ليُصبح وجهاً مميزاً للمملكة العربية السعودية. وعن طريق شخصنة السُلطة، جاء ولي العهد ليضفي الطابع الشخصي أيضًا على حكومته وشعبه.
ورغم أنَّ الحكومة السعودية سَبَق ولمحت إلى أنَّ خاشقجي قُتل على يد عملاءَ مارقين، فوفاته يُنظر لها باعتبارها قصة شخصيتين تصادميتين. الصحافي الناقد والملك التعسُّفي. البطل والخصم.
إذا كان من الأسهل التعاطف مع المأساة الناجمة عن معاناة فرد، مثلما هو الحال في قصة آلان الكردي، مقارنةً بالمآسي التي تضم أعداداً كبيرة، إذن ربما يمكن لفعلٍ واحد مثير للحنق، مثل قتل خاشقجي، أن يشعل بسهولة شرارة غضب أكثر من سنواتٍ من القمع والتدخلات السعودية.
نقطة تحول
مع ذلك، رُبما لن يحدث رد الفعل العنيف اليوم بدون تلك الأحداث الماضية. ففي حين أنَّ منتقدي التحالف مؤخراً ربما يكونوا قد تساهلوا بشأن تلك الأحداث في وقتها، فالعديد منهم يسترجعها الآن إبان مقتل خاشقجي. إذ يبدو أنَّ موته، الذي هو ربما أكثر من السبب الباطني أو حتى الأساسي لهذا الانهيار، بمثابة نوع من نقطة التحول.
لكن لماذا يُعتبر هذا الأمر نقطة تحول؟ ترجح الأبحاث التي أجراها عالم الاجتماع آري أدوت أنَّ الأمر قد يعود إلى ديناميكة تعرف باسم المعرفة المشتركة: تُصبح المجموعة أكثر احتماليةً للعمل ضد فعلٍ متجاوز حين يعلم كل عضوٍ أنَّ كل أعضاء المجموعة الآخرين على علمٍ بالتجاوز. وهذا يخلق ضغطاً اجتماعياً ملحوظاً لإحداث رد فعلٍ ما.
لعل هذا هو سبب، على سبيل الذكر، توقف المجتمع فجأةً عن النظر في الاتجاه الآخر لسنواتٍ في ما يخص اتهامات الاعتداء الجنسي المُتورط بها الممثل الكوميدي بيل كوسبي. كانت الاتهامات معروفةً، لكنَّ هذا لم يحدث إلا بعد أن تسبَّب عرض كوميدي جرى انتشاره في جعل القضية معلومة معروفة للجميع وبهذا واجه كوسبي العواقب.
لم تكن السلوكيات الماضية للسعودية خفية تماماً، لكن لم يكن هناك أبداً تفاهم مشترك حول كيفية التعامل معها.
ربما كانت السعودية تقوِّض السياسة الأميركية وقيمها، لكنَّها كانت تميل إلى فعل ذلك في القضايا المخصصة لاستقطاب الموضوعات في واشنطن. كان للانقلاب العسكري في مصر مُناصرين أميركيين، أو على الأقل متعاطفين معه. وبينما اعتبر القليلون أنَّ الحرب في اليمن أمرٌ جديرٌ بالثناء، فالبعض، ولا سيما أولئك المترصدين لإيران، اعتبرها على الأقل أمراً يمكن تفهمه.
ونتيجةً لذلك، تميل النقاشات حول التحالف إلى إثارة الاستقطاب.
لكنَّ ليس هناك الكثير للجدال حوله حين يتعلق الأمر بمقتل صحافي. ووضع الاتفاق الواسع النطاق، الذي يمثل خطئاً وانعكاساً لأسلوب زعامة ولي العهد محمد بن سلمان، الممارسات السعودية السابقة في إطار مختلف.
ربما يكون الدافع الأعظم لردة فعل هذا الأسبوع هو الشيء نفسه الذي ابقى الدولتين معاً: الطبيعة الشخصية المتأصلة للتحالف.
في مقالٍ نُشر عام 2016 حول استمرار التحالف السعودي – الأميركي، أشار صانعو القرار والباحثون إلى المال السعودي الذي ينهمر على واشنطن في صورة ممارسة ضغوط، وصفقات أسلحة، ومنح بحثية.
لكن حتى منتقدي التحالف رأوا أنَّ دور المال كان من السهل المغالاة فيه. فالرصيد الحقيقي للسعوديين كان علاقاتهم مع الأميركيين.
سلسلة من الأعداء المشتركين هي ما جمعت الولايات المتحدة والسعودية، مُتمثلةً في: إيران والاتحاد السوفيتي في ثمانينيات القرن العشرين، والعراق في التعسينيات، والجماعات الجهادية في بداية القرن الحادي والعشرين. ظهر جيلٌ كامل من المختصين في الشرق الأوسط لتبادل المعرفة والعمل مع الزملاء السعوديين.
رغم ذلك، فالعلاقات تصحبها توقعات، وتحكمها الثقة. كان هناك شعورٌ بأنَّ السعودية، بموجب قواعد العلاقة بين البلدين، يمكن أن تتحدى الولايات المتحدة داخل حدود المملكة أو في نطاق منطقتها، وليس خارجها.
ربما أياً من كان المسؤول عن وفاة خاشقجي يعتبرها مسألةً داخلية. لكنَّ مقتل صحفى وكاتب مقالات رأي صحافي بصحيفة Washigton Post هو أمرٌ يتعلق أكثر بالوطن. ويمكن اعتباره خياتة لشروط التحالف غير المُصرح بها، ومن ثمَّ خيانة للثقة، رُبما من جانب زعيمٌ شابٌ حديث العهد لم يرث الكثير من تلك الثقة مثلما كان يعتقد.