يتواصل الجدل الواسع في المغرب حول مشروع قانون المسطرة الجنائية في المغرب الذي صادقت عليه الحكومة أخيرا، وذلك بما تضمنه من مواد تسعى إلى "تقييد" الحقوقيين والهيئات المشتغلة في مجال حماية المال العام، في التبليغ عن جرائم الفساد وملاحقة ناهبي المال العام أمام القضاء.
ويتوقع مراقبون أن تزداد ردود الفعل حدة داخل البرلمان، مع انكباب النواب والمستشارين في مجلسي النواب والمستشارين على تداول مشروع قانون المسطرة الجنائية ونقاشه داخل اللجان بشكل خاص.
وشهدت المادتان 3 و7 ضمن مشروع هذا القانون، اعتراضات وانتقادات واسعة من الجمعيات الحقوقية والمدافعة عن المال العام، خصوصا بعدما حصر مشروع القانون تحريك الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام في شخص الهيئات الرسمية والوزارية، علاوة على اشتراط انتصاب الجمعيات طرفا مدنيا بالحصول على إذن بالتقاضي من وزارة العدل!
وجاء في المادة 3 من مشروع القانون المثير، أنه "لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية، أو المفتشيات العامة للوزارات والإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك".
ونصت المادة 7، على أنه "يمكن للجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة، والحاصلة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيمي أن تنتصب طرفا مدنيا، إذا كانت قد تأسست بصفة قانونية منذ 4 سنوات قبل ارتكاب الفعل الجرمي، وذلك في حالة إقامة الدعوى".
توجه يُكرس رِدّة حقوقية
كل تفاصيل مقتضيات المادتين 3 و7، دفعت الفاعلين في المجال الحقوقي وحماية المال، إلى التعبير بشدة عن رفض مساس الوزارة الوصية والحكومة بحقهم في التبليغ عن جرائم الفساد ونهب المال العام باعتباره حقا مضمونا بمقتضى الدستور المغربي والمواثيق الدولية ذات الصلة.
وسجلت جمعية حماية المال العام (غير حكومية)، "وجود إرادة وتوجه يهدف إلى تكريس رِدّة حقوقية وقانونية ودستورية ضاربة عرض الحائط كل التزامات المغرب الدولية والوطنية والتراكم الإيجابي الذي تحقق على مستوى الممارسة الجمعوية والحقوقية".
ولفت المصدر ذاته، في بيان، إلى أن "رغبة الحكومة في حصر حق تحريك الأبحاث والمتابعات القضائية في رئيس النيابة العامة بناء على إحالة تقارير عليه من طرف الجهات الواردة في المادة 3، يشكل تدخلا سافرا في السلطة القضائية من طرف السلطة التنفيذية".
قانون يخدم ناهبي المال العام
واعتبر الأمين العام للهيئة المغربية لحماية المواطنة والمال العام (غير حكومية)، عبد الجبار فطيش، أن ما جاء في مشروع قانون المسطرة الجنائية "انتكاسة حقوقية، وتنكّر من وزارة العدل للجمعيات والمجتمع المدني والحقوقي في مجال تخليق الحياة السياسية داخل المؤسسات".
وقال فطيش، في تصريح لـ"عربي بوست": "القانون وضعه وزير العدل خدمة لنهابي المال العام، وانتقاما من حماة المال العام بعدما استهدفوا مجموعة من المنتخبين الذين كان أغلبهم من حزب الأصالة والمعاصرة الذي ينتمي إليه الوزير الوصي".
وكانت شكاوى عديدة لهيئات حماية المال في المغرب، عملت على تحريك مساطر عدة في مواجهة مسؤولين ومنتخبين، إذ أدت بعض هذه القضايا إلى التعجيل بتوقيف أصحابها ومحاكمتهم بعد تورطهم في قضايا لها علاقة بالفساد المالي وتبديد أموال عمومية واستغلال النفوذ.
لائحة المتابعين والموقوفين والذين تم إصدار أحكام قضائية في حقهم، شملت عددا كبيرا من الأعضاء في البرلمان الحالي، وأغلبهم من حزبي رئيس الحكومة الحالي ووزيره في العدل؛ ما جعل الولاية البرلمانية الحالية من أكثر الولايات التي تمكّن خلالها برلمانيون "فاسدون" أو متهمون أو متابعون قضائيا، من الوصول إلى المؤسسة التشريعية المغربية.
اتهام الجمعيات بالابتزاز
في خروج إعلامي مثير، اتهم وزير العدل عبد اللطيف وهبي، جمعيات حماية المال، بممارستها "الابتزاز والنصب، ووضع شكايات كيدية لابتزاز المنتخبين"، معتبرا أن "الإشكال لا يكمن في وضع شكاية ضد شخص لمتابعته بتهمة الاختلاس، وإنما الإساءة لشخص يتحمل المسؤولية وهو بريء".
وشدد وهبي، في حوار مع موقع القناة الثانية (حكومية)، على أنه يسعى من خلال ما جاء في المادتين 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية، إلى "حماية الناس"، مضيفا أن "هناك من يتهرب اليوم من المسؤولية الانتخابية مخافة المتابعات القضائية بسبب شكايات جمعيات المال العام".
لهذا، المسطرة الجنائية منحت للجهات الرسمية، أو من لها صفة المنفعة العامة للقيام باللازم في حق من اشتبه بـ"الفساد" عموما، بسبب قيمتها القانونية ومكانتها وضماناتها، يشير وزير العدل عبد اللطيف وهبي.
كلام حقّ يراد به باطل
يرى الأمين العام للهيئة المغربية لحماية المواطنية والمال العام، عبد الجبار فطيش، أن هذا الكلام "ليس مبررا، وهو بمثابة كلمة حق يراد بها باطل؛ خصوصا أن المجلس الأعلى للحسابات (هيئة رسمية)، رُغم وقوفه على جرائم ثابتة في حق بعض المتهمين في اختلاس المال والتلاعب به وهدره، ولكن للأسف الشديد كان ولا يزال لا يحرك ساكنا".
وأوضح فطيش لـ"عربي بوست": "عندما تحرمني من دوري في الترافع وحماية الملفات المُبَلّغ عنها أمام القضاء، والحرص على تتبعها وتوكيل محامين متطوعين، يحصل الاختلال، ويُفسح المجال أمام الجهات المستفيدة من التلاعب بالملفات".
يضرُّ بمصداقية محاربة الفساد
وأفاد الفاعل عضو التعاضدية المغربية لحماية المال العام، عادل ابن احساين، أنهم "يعارضون أي تعديلات أو قوانين قد تضعف من مكافحة الفساد، أو تُسهّل الإفلات من العقاب، وخاصة ما جاء في المادتين 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية".
ويؤكد ابن احساين، في تصريحه لـ"عربي بوست"، أن "حماية المال العام تعد مسألة حساسة ترتبط بالحفاظ على الموارد والممتلكات التي تخص الدولة والمجتمع من الفساد والنهب والإهدار، باعتبارها من الركائز الأساسية لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع".
على هذا الأساس، "نحن في التعاضدية المغربية لحماية المال العام، نحذّر من خطر توفير حماية للمسؤولين الحكوميين أو السياسيين؛ الأمر الذي يمكن أن يعيق العدالة ويضرّ بمصداقية جهود مكافحة الفساد"، يردف الفاعل الحقوقي.
مُخالفٌ لأسمى القوانين
يذهب الكثير من الحقوقيين، إلى أن الاتهامات التي أوردها وزير العدل المغربي ضد جمعيات حماية المال خصوصا، لا تُبرّر منع المجتمع المدني والحقوقي من القيام بأدواره، خصوصا أنه فاعل أساسيا بنص الدستور المغربي.
وقال الباحث في القانون الخاص، محمد جردوق: "من بين أهم ركائز التغيير الذي جاء به دستور 2011، هو الاعتراف بدور المجتمع المدني في ترسيخ قيم محاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة عبر المراقبة والمشاركة والتقييم".
وأضاف جردوق في اتصاله بـ"عربي بوست"، أن ما تضمنه مشروع قانون المسطرة الجنائية، "غير دستوري، ويخالف ويضرب عرض الحائط كل النصوص المُؤطّرة لمشاركة المجتمع المدني في محاربة الفساد بالمغرب؛ والدستور يعتبر أسمى قانون في البلاد".