"والله لو أموت أحسن من الذل الذي أعاني منه.. حرام تلك الأسعار، من يحكم هؤلاء الأطباء، أقل دكتور كشفه 500 جنيه، وده غير الإشاعات والتحاليل والأدوية، يعني أنا محتاجة أكثر من 2000 جنيه في الشهر من أجل العلاج فقط".
هكذا تحدثت منار حمدي، وهي تقف في صف طويل أمام أحد المستشفيات العمومية في مصر تنتظر دورها للكشف عند طبيب متخصص القلب، وهي تروي لماذا تتحمل ما سمته "وقفة الذل" أمام المستشفيات العامة رغم الزحام الشديد.
ووفقاً لما رصدته منصة "عربي بوست"، فإن المصريين أصبحوا يعانون من تكلفة الخدمات الطبية الخاصة، وأن كشف الأطباء "الفيزيتا" شهد ارتفاعات كبيرة خلال الأشهر الماضية، وهو ما زاد تكلفة مصاريف الصحة داخل الأسرة المصرية.
في حديثها عن تجربتها، تقول منار حمدي، وهي في العقد الخامس من عمرها، لـ"عربي بوست"، أنا مريضة قلب وأتابع مع الطبيب مرة في الشهر، كنت أذهب إلى الأطباء في عيادات خاصة، ولكن تكلفة الفيزيتا أصبحت غالية جداً.
وحسب المتحدثة، فإن سعر الكشف عند الطبيب الخاص لا يشمل التحاليل والأشعة الدورية التي أقوم بها بطل من الطبيب وفي نهاية المطاف التجأت للمستشفى الحكومي، وهو الأسوأ تنظيماً بسبب الزحام الشديد، لكنني لست مخيرة، فأنا مضطرة للأمر.
منصة فيزيتا تكشف أسعار العيادات الخاصة
وفي محاولة لرصد أسعار الكشف عند الطبيب الخاص، قمنا بجولة على تطبيق فيزيتا الطبي، وتأكدنا أن أسعار الكشف عن الطبيب الخاص تترواح ما بين 200 و1000 جنيه، ومتوسط الأسعار كان ما بين 400 و500 جنيه.
لكن هذه الأسعار ليست هي النهائية، إذ إن هناك طرقاً أخرى لتحصيل الأموال في الكشف بشكل غير معلن في تكلفة الكشف المعلنة عبر التطبيق الطبي الشهير.
ومن الظواهر الجديدة التي رصدها "عربي بوست" داخل العيادات الخاصة، هي تحصيل رسوم إضافية للاستشارة الطبية، حيث يكون الكشف تكلفته 400 جنيه، والاستشارة 200 جنيه على سبيل المثال.
وكلما كانت قيمة الكشف منخفضة كانت تكلفة الاستشارة مرتفعة، ووفق ما تم رصده عند أحد طبيب متخصص بأمراض الباطنة، فإن الكشف كان 250 جنيهاً، والاستشارة 200 جنيه، أي ما يقارب من قيمة الكشف الأساسي.
الأشعة والتحاليل تكاليف أساسية
هاله جرجس، سيدة في العقد الرابع من عمرها، تحدثت لـ"عربي بوست" من أمام مستشفى حكومي عن بعد آخر في تكلفة فيزيتا الأطباء بالعيادات الخاصة في مصر.
وتقول: "أنا لدي 4 أبناء أكبرهم في المرحلة الإعدادية، وتقريباً لدى كشف كل شهر لدى طبيب خاص لأسباب مختلفة، من باطنة إلى صدرية، وجلدية ومسالك بولية، وفي الغالب أصبح في حكم المؤكد أنه مع كل زيارة لأي طبيب، يكون هناك طلب بإجراء تحليل أو أشعة بهدف التشخيص".
"حتى أجهزة الأشعة الموجودة داخل عيادات الأطباء مثل جهاز السونار، يكون استخدامها بتكلفة مالية غير تكلفة الكشف الطبي، بحكم الواقع فتكلفة التحاليل أو الأشعة لا تقل عن 200 جنيه".
وأضافت المتحدثة أن هذا السعر يمكن أن يصل إلى أضعاف ذلك بكثير، وذلك حسب نوعية الإجراء الذي يطلبه الطبيب، وفي أخر مرة ذهبت لطبيب باطنة، كانت التكلفة 800 جنيه مع شراء الأدوية.
وأشارت المتحدثة إلى أنها التجأت إلى المستشفى الحكومي رغم سلبياتها الكثيرة، وذلك من أجل تخفيف ضغط المصاريف الصحية، التي لم تعد قادرة على مسايرة تكاليف العيادات الخاصة.
75 % من الخدمات الطبية خاصة
ويبدو أنه لا غنى عن الخدمات الطبية الخاصة بمصر، فوفقاً لأحدث البيانات التي أعلنت عنها الحكومة المصرية فى 2024، فإن عدد المستفيدين بخدمة التأمين الصحي في مصر وصل إلى 70 مليون مواطن من أصل ما يزيد عن 110 ملايين مصري.
هذه الأرقام تعني أن هناك أزيد من 40 مليون مواطن مصري ليس لهم أي خدمات داخل التأمين الصحي، وبإضافة الخدمات الصحية التي لا تشملها منظومة التأمين الصحي، وبالتالي فإن حوالي 75% من المصريين مضطرون للحصول على خدماتهم الطبية من القطاع الخاص.
وقد اعترفت وزارة الصحة المصرية بتلك النسب، حيث ذكرت أن المستشفيات والعيادات الخاصة بمصر تقدم 75% من الخدمات الطبية للمواطنين.
كما أن عدد مستشفيات القطاع الخاص يزيد عن 2013 مستشفى، أي نحو 3 أضعاف المستشفيات العمومية البالغ عددها نحو 700 مستشفى إلى جانب نحو 80 ألف عيادة تمثل 95% من إجمالي العيادات الطبية الموجودة في مصر، مقارنة بـ5% تابعة لوزارة الصحة، بل أوضحت أن عدداً كبيراً من العيادات غير مرخص بالأساس.
انفلات السوق الطبي بمصر
وقال الدكتور علاء غنام، خبير السياسات الصحية، في تصريح لموقع "اليوم السابع"، إن الواقع الحالي في مصر يؤكد أن هناك انفلاتاً في الخدمات الصحية، التي أصبحت تعمل هي أيضاً وفق مبدأ السوق والعرض والطلب.
وأضاف المتحدث أن ما نشهده داخل القطاع الصحي الخاص، نجد أن هناك مزيداً من تسليع الخدمة ورغبة في الكسب بأي شكل استغلالاً لعدم وجود قيود أو رقابة أو جهة تتحكم في أسعار الخدمات في العيادات الخاصة.
"وبالتأكيد فإن الأمر زاد عن الحد، خاصة مع الأزمة الاقتصادية، حتى بات اهتمام مقدمي الخدمة قاصراً على تحقيق أعلى نسبة من الأرباح، وأن نسبة قليلة من الأطباء فقط تحركهم القواعد الأخلاقية والراسخة والمتعارف عليها".
وأشار المتحدث إلى أن "الطبيب كان قديماً يُعالج زميله الطبيب وأبناءه مجاناً، وهو أمر اختفى حالياً عدا حالات نادرة، نتيجة لهيمنة السوق والرغبة في الكسب".
وأضاف غنام: "لذلك لا يوجد له حل إلا تدخل الدولة لتنظيم القطاع الخاص الطبي لتحد من هيمنته وتحكمه بشكل مطلق في التسعير، وما زاد من الفوضى، هو عدم وجود حصر دقيق لأعداد العيادات الخاصة بمصر، والتي بلغت أعدادها في محافظة القاهرة مئات الآلاف".
وأشار المتحدث إلى أن "الحل هو سرعة تعميم منظومة التأمين الصحي الشامل على كافة المحافظات، وضرورة تعاون نقابة الأطباء مع العلاج الحر بوزارة الصحة، لإلزام العيادات الخاصة بأسعار معقولة للكشوفات وفق التكلفة، وبهامش ربح معقول".
الحكومة تفشل في تحديد أسعار الفيزيتا
سعت الحكومة المصرية منذ عدة سنوات لإحكام الرقابة على المستشفيات والعيادات الخاصة، وذلك باللجوء إلى وضع تسعيرة إجبارية للكشوف الطبية "الفيزيتا" لأكثر من 250 ألف طبيب فى 90 ألف منشأة طبية خاصة، وذلك عبر مشروع قانون تم إعداده في 2017.
وتضمن المقترح تحديد قيمة الكشف للطبيب الممارس 100 جنيه كحد أقصى، و200 جنيه للأخصائي، و400 جنيه للاستشاري الحاصل على الدكتوراه، أما الاستشاري أستاذ الجامعة فيكون كشفه 600 جنيه.
ورغم الزخم الإعلامي الذي صاحب الإعلان عن مشروع القانون المقترح من الحكومة إلى البرلمان المصري، إلا أن القانون لم يرَ النور من حينها.
وبحسب مصدر من داخل لجنة الصحة داخل مجلس النواب المصري، في حديثه مع "عربي بوست"، فقد قررت الحكومة وضع القانون في الدرج، وعدم إخراجه للنور، وذلك لعدة أسباب.
ومن بين الأسباب، حسب المتحدث، رفض الأطباء لتلك الخطوة، وهو ما حدث من مناقشات داخل الغرف المغلقة، وزاد من صعوبة التطبيق، هو عدم وجود منظومة حاكمة لعيادات الأطباء داخل محافظات مصر.
ويقول المصدر، الذي رفض ذكر اسمه كونه غير مخوّل للحديث للإعلام، إن الحكومة رأت أن الحل سيكون مع تعميم منظومة التأمين الصحي الشامل، والذي تعمل الدولة على تطبيقه تدريجياً داخل المحافظات.
وفي حال تطبيقه، فسوف يكون أمام المواطن العديد من الخيارات، سواء كانت المستشفيات الحكومية أو الخاصة، والتابعة للمنظومة الجديدة، وحينها ستجبر آليات السوق الأطباء على تقليل أسعار الفيزيتا الخاصة بهم.
4.4 مليون مستفيد من التأمين فقط
ويبدو أن أزمة التغطية الصحية مستمرة لفترة طويلة قبل أن يعمم التأمين الصحي الشامل داخل محافظات مصر، حسب ما نص عليه القانون رقم 2 لسنة 2018 ولائحته التنفيذية.
ويطبق التأمين الصحي الاجتماعي الشامل الإلزامي على 6 مراحل، وعلى مدار 15 عاماً بداية من 2018 حتى 2032، على أن تكون المحافظات الأكثر كثافة سكانية القاهرة، الجيزة، والقليوبية، ضمن المرحلة الأخيرة.
ورغم مرور 6 سنوات على تطبيق المشروع، إلا أنه يخدم 4.4 مليون مواطن مصري فقط، وذلك بحسب ما قاله الدكتور محمد معيط، وزير المالية، رئيس هيئة التأمين الصحي الشامل، حيث ذكر أن المنظومة تخدم نحو 4.4 مليون مواطن في 6 محافظات.
ويقول الدكتور خالد أمين، عضو مجلس النقابة العامة للأطباء، إنه من حق أي مكان خاص أن يسعر وفق مستوى الخدمة المقدمة في العيادة، فلا يوجد أي قانون يمنع ذلك، على أن يكون هذا السعر معلناً مسبقاً بالنسبة للكشف والاستشارة.
وأكد أن تنظيم هذه الأمور من سلطة ودور إدارة العلاج الحر في وزارة الصحة، وأن النقابة ليس لها سلطة لتضع أسعاراً استرشادية للكشوفات وتلزم الأطباء بها، ولحين تعميم منظومة التأمين الصحي الشامل، فالوضع الحالي لا يمكن التحكم في الأسعار، خاصة أن وزارة الصحة سبق لها وضع أسعار استرشادية للعيادات، ولم يتمكن العلاج الحر من تطبيقه.