يقف المزارع محسن الغلبان على بعد مئات الأمتار من أرضه التي صادرها الاحتلال شرق مدينة خان يونس وضمها للمنطقة العازلة، ليجد نفسه عاجزاً مكسوراً، بعد أن سلبه الاحتلال مصدر رزقه الوحيد الذي كان معيلاً له ولعائلته.
يقول الغلبان لـ"عربي بوست": "كنت أمتلك 3 دونمات (3 آلاف متر) في منطقة الزنة شرق خان يونس ورثتها عن والدي، كما أنني أؤجر سنوياً 5 دونمات أخرى بجانبها، أقوم بزراعتهما بمحاصيل البطاطا والليمون والزيتون".
وأضاف المتحدث: "يعمل معي أولادي الخمسة في هذه الأرض، ولكن منذ 7 أشهر لم أستطع الوصول إليها إلا في الأيام الأخيرة بعد أن انسحب الجيش من المدينة، لأتفاجأ بإنشاء الجيش حزاماً أمنياً في المنطقة يمنع أي مواطن من الاقتراب وإلا فإنه يعرض نفسه للخطر".
وأقام جيش الاحتلال الإسرائيلي منطقة عازلة من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً، ومن بيت حانون إلى البحر غرباً يصل عرضها إلى كيلومتر داخل قطاع غزة، حسب تقرير لصحيفة هآرتس العبرية.
وتسببت هذه المنطقة المنطقة العازلة من اقتطاع 16% من مساحة قطاع غزة، أغلبها أراضٍ زراعية المتواجد أغلبها على الحدود الشمالية للقطاع، وعلى الحدود الشرقية للقطاع مع الأراضي المحتلة.
فماذا تغير في واقع غزة الزراعي خلال هذه الحرب، وكيف حاول الاحتلال إحكام السيطرة عليه، وما قدرة المواطنين في القطاع على الصمود أمام مرحلة التجويع التي يسعى إليها الاحتلال؟
الواقع الزراعي في غزة قبل الحرب
وفقاً للتقرير السنوي لجهاز الإحصاء الفلسطيني للعام 2022، يشكل القطاع الزراعي في غزة واحداً من أهم القطاعات الرئيسية في توفير مصادر الغذاء لسكان القطاع، كما أنه يساهم بنحو 55% من إجمالي الصادرات بقيمة إجمالية تقدر بـ32 مليون دولار سنوياً، ويساهم كذلك بتشغيل ما يزيد عن 20 ألفاً من القوى العاملة.
ويصنف ثلث مساحة القطاع البالغة 360 كيلومتراً مربعاً كأراضٍ زراعية، بواقع 116 كيلو متراً مربعاً، يقع أكثر 60% منها في مناطق وسط القطاع وشماله بواقع 70 كيلو متراً مربعاً، والباقي يقع على الشريط الحدودي الشرقي مع الأراضي المحتلة.
ويعتمد قطاع غزة على الزراعة لتلبية حاجياته الداخلية بنسبة تفوق الـ50% وقد ساهم هذا الواقع في صمود المواطنين طيلة أشهر الحرب، بالرغم من إغلاق الاحتلال للمعابر وإحكام السيطرة عليه، لأن الإنتاج الذاتي من المحاصيل المزروعة في القطاع كان يغطي نسبياً الطلب المحلي داخل الأسواق.
ولكن مع توسيع الاحتلال لعملياته في قطاع غزة، تغّير هذا الواقع وظهرت ملامح دخول القطاع في مجاعة حقيقية، من المؤكد أنها ستستمر حتى بعد انتهاء حرب الاحتلال على القطاع.
سياسة تقليص مساحات الأراضي الزراعية
وبدا لافتاً مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الثامن على انتهاج إسرائيل لسياسة تقليص مساحات الأراضي الزراعية في القطاع، إذ تم اقتطاع آلاف الدونمات في إطار ما يعرف بإنشاء المناطق العازلة التي دشنها الجيش داخل القطاع.
وبموجبها هذه المنطقة العازلة، ضم جيش الاحتلال الإسرائيلي هذه المناطق وأخضعها له وأقام داخلها مواقع عسكرية ومنع اقتراب أي مواطن إليها، وأغلبها أراضٍ زراعية تم سحبها من أصحابها بالقوة.
ونتيجة تقليص الأراضي الزراعية، بدأ يشهد القطاع تراجعاً ملحوظاً في السلع الزراعية واختفاء العديد منها من الأسواق، وتسجيل ارتفاعات غير مسبوقة في بعض الأنواع نتيجة تراجع العرض.
وهذا جاء جراء سيطرة الاحتلال على المناطق الزراعية المتاخمة للحدود، وحرمان المزارعين من الوصول إليها، ناهيك عن تدمير الجيش لآلاف الدونمات بفعل الاجتياحات المتكررة والقصف الجوي.
تدشين المنطقة العازلة
منذ أن أعلن جيش الاحتلال البدء بعملية عسكرية في الأطراف الشرقية من مدينة رفح، في 6 مايو/أيار 2024، وإحكامه السيطرة على المنطقة الحدودية من جهة الشرق، يكون الجيش قد أكمل عملياً إنشاء المنطقة العازلة التي أعلن عنها في إطار المرحلة الثالثة من الحرب.
وتمتد المنطقة العازلة مسافة ما بين 800-1500 متر داخل أراضي القطاع، وبطول 40 كيلومتراً، وبموجبها يكون الجيش قد قلص من مساحة القطاع بنحو 16% أو ما يوازي 57 كيلو متراً مربعاً، وفرض فيها واقعاً أمنياً يمنع أي مواطن من الاقتراب منها.
يطلق على المناطق الحدودية بين غزة ودولة الاحتلال، التي أقيمت فيها المنطقة العازلة بأنها الخزان الزراعي للقطاع، إذ تضم نحو نصف الأراضي الزراعية، نظراً لجودة التربة وانتشار آبار المياه العذبة.
وتعتبر المناطق الحدودية ذات نشاط عمراني محدود نظراً لقربها من السياج الحدودي، وهو ما يدفع المواطنين للاستثمار فيها زراعياً، والابتعاد عن السكن فيها.
طريق نتساريم
وفي وسط غزة، أعدم الاحتلال الإسرائيلي آلاف الدونمات الزراعية في منطقة أراضي الشيخ عجلين، وذلك بسبب إنشائه لحزام أمني في المنطقة بقطر 7 كيلومترات.
أقام الاحتلال منطقة عازلة وسط قطاع غزة، حيث دشن الجيش طريقاً يقسم القطاع لنصفين شمالي وجنوبي يمتد من داخل إسرائيل وصولاً لشواطئ غزة، أطلق عليه طريق نتساريم.
ويمتد معبر نتساريم من المنطقة الشرقية للقطاع، وتحديداً من بلدة جحر الديك، مروراً ببلدتي المغراقة وانتهاء بمدينة الزهراء الإسكانية غرباً، وهي القاعدة العسكرية الثابتة التي أقامها الجيش داخل القطاع.
وصادر بموجبها جميع الأراضي في تلك المنطقة ومنع المواطنين من الاقتراب منها، بما فيها آلاف الدونمات الزراعية وتحديداً أراضي الشيخ عجلين.
تمتد هذه المنطقة العازلة بمحاذاة وادي غزة وسط القطاع، وصولاً لأطراف حي الزيتون جنوب مدينة غزة، والتي تضم بدورها آلاف الدونمات الزراعية، التي كانت تساهم في توفير أنواعاً مختلفة من الخضراوات.ذ
الزج بالنازحين فوق الأراضي الزراعية
لم يكتفِِ الاحتلال بمصادرة الأراضي شرق ووسط القطاع، بل قام بتحويل ما تبقى من مناطق زراعية غرب القطاع لمناطق لإيواء النازحين، حيث أجبر الاحتلال 1.4 مليون نازح متواجدين في مدينة رفح على مغادرتها نحو مناطق المواصي.
تمتد منطقة المواصي من مدينة رفح وخان يونس وصولاً للأطراف الجنوبية لمدينة دير البلح، وهي مناطق زراعية، تضم عشرات آلاف الدونمات الزراعية، والعديد من مزارع الدواجن.
وبالنظر لصغر مساحة المنطقة اضطر النازحين للمبيت داخل الدفيئات الزراعية، ونصب خيامهم على الأراضي الزراعية، بسبب توفر المياه بشكل وفير في تلك المنطقة.
اقتلاع الأشجار
يقول مدير مكتب الإعلام الحكومي بغزة إسماعيل إنه تم رصد تدمير ممنهج لقوات الاحتلال للقطاع الزراعي، حيث اقتلع الاحتلال 100 ألف شجرة مثمرة، ودمر 5 آلاف دفيئة زراعية".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أنه تم تدمير نحو 10 مزارع سمكية، وخسر المزارعون خلال فترة الحرب 60 ألف طن من المحاصيل الزراعية، وتجاوزت خسائرهم حتى اللحظة 250 مليون دولار.
وحسب المتحدث فإن الاحتلال تعمد إلقاء الفسفور الحارق على الأراضي الزراعية بهدف تدمير الغطاء النباتي، إلا أن استخدام هذا النوع من القنابل يدمر الأرض في المستقبل ويجعلها غير قادرة على الإنتاج.
وقال المتحدث: "نشهد في غزة تراجعاً في مخزون السلع الغذائية، وقد حذرنا من أن استمرار إغلاق المعابر سيفاقم من خطر حدوث المجاعة، نظراً لأن المخزون السلعي الموجود في الأسواق بالكاد يكفي من 3-5 أيام فقط".