مسجد طارق بن زياد في المغرب هو أقدم مسجد مازالت تقام فيه الصلاة في المملكة المغربية، وثاني مسجد أسس بالقارة الأفريقية في حدود سنة 85 هجرية و704 ميلادية، من طرف ابن زياد الذي كان والياً على طنجة آنذاك.
يعد مسجد طارق بن زياد بقرية الشرافات بشفشاون (شمال المغرب)، من أقدم المساجد بأفريقيا، وبوصلة لمنبع العلم، ومجمعاً للعلوم الدينية، الذي تخرج فيه العديد من العلماء والوعاظ والمرشدين.
تعلو مسجد طارق بن زياد صومعة باللونين الأبيض والأزرق، وبناية بها باحة وغرف يعلوها القرميد الأحمر القاني، مع وجود أطلال تاريخية بالجوار، يرجح أنها كانت جزءاً من المسجد قبل الترميم.
ساهم مسجد طارق بن زياد في المغرب التاريخي على مر قرون في تلقين مناهج العلم من خلال مدرسة التعليم العتيق التابعة له، والتي مازالت تحتضن طلبة العلم من مختلف الأعمار لحفظ القرآن الكريم بالطريقة المغربية التقليدية.
يعتبر مسجد طارق بن زياد في المغرب من الآثار القليلة التي احتفظت بها سجلات التاريخ عن مرحلة إقامة طارق بن زياد في مدينة طنجة وحكمه لها، قبل انطلاقه في رحلة المسلمين نحو فتح الأندلس.
طلبته مكفولون بـ"المعروف"
في عهد الحماية الفرنسية على المغرب، كان يتوافد على مسجد طارق بن زياد في المغرب أطفال وشباب، ينحدرون من المناطق الشمالية فقط، التي كانت تدخل في النفوذ الإسباني، والتي كانت تسمى بالمنطقة الخليفية.
كان المسجد قبلة لمن أراد أن يحفظ القرآن على الطريقة التقليدية، حيث يقوم فيه فقيه المسجد أو "المسيد"، بكتابة وتشكيل حروف القرآن الكريم على ألواح خشبية يحضنها الطلبة، مرتلين القرآن بصوت جماعي.
يقول محمد ريان، أحد طلبة المسجد القدامى: "كان الطلبة يأتون لطلب العلم، وفي الغالب ليس بوسعهم التكفل بمصاريف مدة دراستهم، فكان يطرح الأمر على طاولة الفقيه المسؤول عن المسجد".
وأضاف ريان في حديثه لـ"عربي بوست"، أن الفقيه يلجأ في هذه الحالة إلى لائحة لبعض الأسر التي كشفت في السابق عن رغبتها في التكفل بطالب علم، وهو ما كان يسمى بـ"المعروف".
هذه الأسر في الغالب تنتمي للمداشر المجاورة مثل القلة وتازيا وحمداتن وغيرها، وكان "معروفها" الذي تريد به كسب الأجر، عبارة عن تقديم الطعام طيلة مدة دراسة الطالب، فيما المبيت كان في غرف تابعة للمسجد.
مسجد طارق بن زياد في المغرب.. منبت العلم والعلماء
توارث منبر مسجد طارق بن زياد في المغرب عدد كبير من العلماء الكبار الذين شهد لهم التاريخ بواسع العلم والمعرفة، في الوقت الذي كان يحج فيه إلى قرية الشرافات ما بين أربعين وخمسين طالباً للعلم.
أصبح المعهد الديني للمسجد قبلة لتعليم القرآن واللغة العربية، وأصول العقيدة والسنة والفقه والتفسير، والنحو والتصوف السني والتجويد، ومنذ ذلك التاريخ وهذا المسجد يؤدي دوره في نشر العلم والمعرفة.
يقول المتحدث: "كانت تعقد في رحاب المسجد حلقات علمية، يترأسها الفقيه أو "العالم" كما يسميه الطلبة، وتدرس فيها المتون والنصوص مثل ألفية بن مالك وابن عشير، والأحاديث وتفسيرها، وتخرج "السلكة".
و"السَّلْكَة" عادة اجتماعية من عوائد تدين أهل المغرب والجزائر، قوامها قراءة جماعية للقرآن الكريم كاملاً، تقام في المساجد والزوايا وحتى في البيوت لختم القرآن الكريم من خلال تفريقه إلى أجزاء.
بفضل الزخم الكبير الذي عرفه مسجد طارق بن زياد في العلوم الدينية والإنسانية، صار يرتاده طلبة العلم من كل حدب وصوب، ولم يعد حكراً على أهل شمال المغرب فقط مع بداية الاستقلال.
يقول طالب الأمس إنه "تخرج من المسجد العتيق علماء أجلاء تقلدوا مناصب متعددة، سواء في الشريعة أم الآداب أم مجال القضاء، ومنهم الشيخ عبد السلام بن مشيش والفقيه عبد القادر والأستاذ عمر السكاكي".
مسجد بناه طارق بن زياد
يحمل هذا المسجد التاريخي والمعلمة الدينية والعلمية رمزية ومكانة مهمة في التاريخ المغربي، لكونه شيد على يد القائد طارق بن زياد، ليصبح فضاءً روحانياً وجدانياً، وسط سحر طبيعة الشرافات.
توجد منطقة الشرافات بشفشاون في موقع استراتيجي، وحصن طبيعي بين جبلين في سلسلة جبال الريف، ما جعلها محطة من المحطات الرئيسية لتجمع جيش القائد العسكري طارق بن زياد.
وفي معسكر الشرافات سيقوم طارق بن زياد رفقة الجنود وأهالي المنطقة ببناء المسجد، والذي أصبح وجوده ضرورة مع العدد الكبير للمعسكرين والوافدين على دين الإسلام.
وقد عهد موسى بن نصير إلى طارق بن زياد بنشر الإسلام بنواحي طنجة من بربر غمارة وبرغواطة، لما كان لهذا القائد من فضل كبير في نشر الإسلام بشمال المغرب، إلى جانب دوره في فتح الأندلس.
وبالمثل رد أهل منطقة الشرافات المعروف للقائد طارق بن زياد، فقد أبرز المتخصص في الدراسات الأندلسية وتحقيق النصوص، محمد مفتاح، أن الأهالي شاركوا في الجهاد إلى جانب القائد في فتوحاته الإسلامية.
يوضح أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بتطوان، أنه "لا شك في أنهم انخرطوا في جيش طارق بن زياد للجهاد وحمل راية الإسلام بعدما تعربوا وأضحوا متحمسين للدين الجديد".
مسجد "الجهاد"
كان مسجد طارق بن زياد في المغرب، كما أسلفنا، محطة من محطات فتح الأندلس، كما كان منطلق الدعاة والقادة الفاتحين، وكانوا يرون الدعوة من الجهاد الأكبر، ويعتبرون القتال من الجهاد الأصغر.
وفي هذا الصدد يؤكد محمد ريان، وهو ابن المنطقة، أن المسجد "لعب دوراً متميزاً في هذه الدعوة بترسيخ المذهب المالكي والحفاظ عليه، وعلى دور المسجد الروحي والعلمي".
كما لعب المسجد أيضاً دوراً جهادياً، زمن الحماية، إذ كان المجاهدون يجتمعون بباحته لاتخاذ القرارات من عائلات المجدقي وعائلة آل ريان وعائلات شرفاء قاجون، والبقاليين وأولاد عبد الله وغيرهم.
ومن المسجد "انطلقت الحملات ضد المحتل الإسباني في عشرينيات القرن الماضي، فكان أن كبّد المجاهدون المحتل خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد في معركة (القلة) قرب القصر الكبير"، حسب ريان.
مازال المسجد العتيق يمارس الجهاد الأكبر، ورغم تراجع أدواره بعد إغلاق المعهد الديني بالمؤسسة، إلا أنه لايزال إلى اليوم يتخرج منه حفظة القرآن الكريم من الإناث والذكور كل سنة.
تاريخ كبير وحاضر مغمور
في خطوة ترمز لقيمة المسجد التاريخية، قام سلطان المغرب مولاي الحسن الأول بزيارته في نهاية القرن التاسع عشر، وبالضبط في سنة 1886، كما زاره الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1962.
واستفاد المسجد من أشغال متعددة للصيانة والترميم مع المحافظة على معماره الأصيل، إلى جانب إحياء تقليد الكراسي العلمية التي يؤطرها علماء لتلقين طلبة العلوم الشرعية أصول العقيدة والسنة والفقه والتفسير والنحو والتصوف السني والتجويد.
وفي سنة 2019 أعلنت وزارة الثقافة والاتصال بالمغرب، شروعها في تقييد مسجد طارق بن زياد ضمن التراث الوطني، كنموذج للعمارة الدينية ذات الطابع الجبلي، من حيث التصميم الهندسي ومواد وتقنيات البناء.
غير أن هذه الامتيازات لم توقف قرار إغلاق المعهد الديني بمسجد طارق بن زياد سنة 2019، من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، بدعوى أن الإقبال عليه أصبح ضعيفاً، ما أفقده إشعاعه العلمي ونشاطه التربوي.
مسجد بهذه الحمولة التاريخية، والدينية والإنسانية، "لم يلقَ من الاهتمام ما يؤهله ليصبح تراثاً مغربياً وإسلامياً، وعلى العكس جرى إخفاء الكثير من التحف منه، وإتلاف بعض آثاره"، هكذا عبّر ريان عن أسفه لما آلت إليه وضعية المسجد اليوم.