في هذه الأوقات من كل عام ومع دخول العشر الأواخر من شهر رمضان يكثر الحديث عن ليلة القدر وعن فضلها فيما يبدأ المسلمون في البحث عن علامات ليلة القدر المباركة لكي يظفروا بثوابها وأجرها.
في ليلة القدر تتجدد العهود وتتكاثف الدعوات، إذ يُغمر المؤمنون بسلام يطهر القلوب من كل خوف. هي ليلة خير من ألف شهر، حيث يُضاعف الأجر وتُمنح البركات وتُفتح أبواب الجنة للتائبين والعابدين. أولى آياتها المباركة، التي بزغ فجرها بخمس آيات من سورة العلق، كانت إشارة إلى بداية عهد جديد في حياة الإنسانية.
وفي رحاب شهر رمضان الفضيل تأتي ليلة القدر كجوهرة تتوج الشهر الكريم، مضاعفةً الأجور للأعمال الصالحة. قال تعالى في محكم كتابه: "إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر.." إلى آخر السورة، مؤكداً عظمة هذه الليلة وما تحمله من معاني الرحمة والغفران.
فما هي فضائل ليلة القدر وما العلامات التي يقول العلماء ورجال الدين إنها تدل عليها؟
فضائل ليلة القدر على المسلمين
ليلة القدر، اللحظة الفاصلة في تقويم السماء والأرض، حيث يتجلى القدر بكل معانيه العظيمة. في هذه الليلة، يُفصل بين القدر والقضاء، ويُكتب مصير العالم للعام القادم؛ الأرزاق والآجال، ومسارات الحياة والموت، الفلاح والشقاء، كلها تُقدر في هذه اللحظة المباركة. "فيها يفرق كل أمر حكيم"، كما ورد في القرآن الكريم، والتي تعني حسب تفسير ابن كثير أن في ليلة القدر يفصل اللوح المحفوظ إلى كتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر، وأبي مالك، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف، أما قوله تعالى في الآية الكريمة كلمة "حكيم" فمعناها حسب نفس التفسير محكمة لا يبدل ولا يغير.
تتعانق في ليلة القدر الفضائل الربانية مع عظمة الوجود الإنساني. إنها الليلة التي اختارها الله تعالى لتنزيل القرآن الكريم، كمعجزة خالدة ورسالة سماوية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. بركة تغمر الكون، ورحمة تسع الجميع، وسلام يعمّ الأرض، كلها تنسكب من سماوات إلى الأرض في هذه الليلة المباركة.
خلال ليلة القدر تتحرك أقدار السنة الجديدة؛ كل ذلك يُدرج في سجل القضاء الإلهي. ويشهد العالم تجلياً للرحمة الإلهية، حيث تهبط الملائكة بالخير والبركة والرحمة والعتق من النار، مُعلنين بدء عام جديد من العبادة والغفران.
ما هو فضل ليلة القدر؟
لعل من أعظم فضائل هذه الليلة ما ورد عن عنْ أَبي هُريرةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قالَ: "منْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". حديث متفقٌ عَلَيْهِ، هذا الحديث يُضيء على الأمل والفرصة التي تُعطى لكل مسلم في هذه الليلة ليبدأ صفحة جديدة مع الله تعالى.
ومع أن ليلة القدر قد حُددت في العشر الأواخر من رمضان، إلا أنها تبقى ليلة متنقلة، ما يعطي كل ليلة في هذا الشهر الفضيل قدسية وأهمية بالغة. هي دعوة للمسلمين ليعيشوا ليالي رمضان بكل يقظة وتعبد، أملاً في الوصول إلى هذه اللحظة المباركة، حيث العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر.
تحديد ليلة القدر حسب العلماء
لغز ليلة القدر ومحاولات تحديدها تمثل رحلة إيمانية عميقة تعكس تنوع وغنى التراث الإسلامي. تشير المناقشات العلمية حول هذه الليلة المباركة، كما جمعها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، إلى ما يزيد على أربعين قولاً ورأياً، ما يُظهر حرص العلماء وتفانيهم في استجلاء أسرار هذه الليلة.
بين هذه الآراء هناك تباين يراوح بين الأقوال المرجوحة والشاذة وحتى الباطلة، ما يعكس عمق البحث وتعدد زوايا النظر في تحديد زمانها.
الإجماع العام بين العلماء أكد أن ليلة القدر تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان، لكن تحديد الليلة الدقيقة ظل محل خلاف. فبعض الصحابة والتابعين رجحوا ليلة الثالث والعشرين، فيما ذهبت المذاهب الفقهية كالشافعية إلى تفضيل ليالٍ أخرى، كليلة الواحد والعشرين، ما يُظهر التنوع في الآراء والاجتهادات.
شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر عززا فكرة أن ليلة القدر تتنقل بين ليالي العشر الأواخر، مع ترجيح أنها تقع في الليالي الوترية منها. هذا التنقل يعكس رحمة الله تعالى وحكمته، إذ يتيح فرصة للمؤمنين للإكثار من العبادة طيلة هذه الليالي، آملين في الوصول إلى فضلها العظيم.
يُضاف إلى هذا التنوع الفكري، التأكيد على أن محاولة تحديد الليلة بدقة يجب ألا تُصرف المؤمن عن جوهر العبادة والتقرب إلى الله في كل الليالي، خاصة العشر الأواخر من رمضان. الحث على قيام ليالي العشر كلها يؤكد هذا المعنى، مع الإشارة إلى أن من قامها إيماناً واحتساباً يُغفر له ما تقدم من ذنبه.
علامات ليلة القدر المباركة
إخفاء الله تعالى لموعد ليلة القدر يعكس حكمة بالغة ورحمة واسعة بعباده، إذ يدفع هذا الإخفاء المؤمنين للإكثار من العبادة والدعاء والتقرب إلى الله في جميع الليالي العشر الأواخر من رمضان، بدلاً من الاكتفاء بليلة واحدة. هذا الترتيب الحكيم يهدف إلى تحفيز العباد على الاجتهاد والمداومة على العبادة، ما يعزز التقوى واليقين ويوسع آفاق الأمل والرجاء في نفوسهم.
علامات ليلة القدر مثل السكينة والطمأنينة والانشراح تُعد دلائل روحية تعزز تجربة الإيمان الفردية، مشيرة إلى أن التجلي الإلهي في هذه الليلة يتعدى الزمان والمكان ليصل إلى قلب المؤمن، ما يجعلها تجربة فريدة وشخصية بقدر ما هي جماعية.
اتفق العديد من علماء الدين على ظهور بعض علامات ليلة القدر التي تميزها عن باقي ليالي العشر الأواخر من رمضان، هذه العلامات تنقسم إلى قسمين أولها يظهر خلال الليل وأخرى ما يظهر بعض الفجر وهي كالتالي:
- علامات ليلة القدر خلال الليل:
أول هذه العلامات أن يكون الجو معتدلاً والريح ساكنة، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء".
أما العلامة الثانية خلال ليلة القد فيقال إنها الطمأنينة والسكينة التي تنزل بها الملائكة، فيحس الإنسان بطمأنينة القلب، ويجد من انشراح الصدر ولذة العبادة في هذه الليلة ما لا يجده في غيره.
- العلامات لليلة القدر اللاحقة:
أن تطلع الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها، فعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها، كأنها طست، حتى ترتفع". (صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة، 2/ 149)
ومنها ما ورد من قول ابن مسعود رضي الله عنه "أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر" (الموسوعة الفقهية الكويتية، 35/ 367).
وعن ابنِ عُمر رضِيَ اللَّه عَنهما أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، أُرُوا ليْلَةَ القَدْرِ في المنَامِ في السَّبْعِ الأَواخِرِ، فَقال رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:" أَرى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتحَرِّيهَا، فَلْيَتَحرَّهَا في السبْعِ الأَواخِرِ" متُفقٌ عليهِ.
علامات متداولة لم ترد في السيرة النبوية
هناك العديد من العلامات التي لم ترد في السنة أو في القرآن الكريم، إلا أن شَوق المسلمين للظفر بقيام ليلة القدر قد يقود بعض الناس إلى تصديق بعض العلامات والظواهر التي لا أساس لها من الصحة، مثل تلك التي ذكرت حول سقوط الأشجار أو تحلية ماء البحر أو عدم نباح الكلاب أو تسليم الملائكة على المسلمين ليلة القدر.
هذه المفاهيم وغيرها التي لم يثبت أصلها في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تشير إلى أهمية التحقق والرجوع إلى القرآن والسنة الصحيحة لفهم ديننا بشكل صحيح. كما يعكس التحذير من تصديق هذه الأمور أو نشرها، أهمية العلم النافع والاحتراز من الوقوع في فخ البدع والخرافات التي قد تشوه فهم الدين الصحيح.