لا يكلّ أهالي غزة في البحث عن ضحاياهم أسفل الدمار الذي سببه الاحتلال الإسرائيلي من عدوانه على القطاع المستمر منذ أشهر، حيث تحولت غزة لمقبرة مساحتها 140 ميلاً مربعاً (362,6 كيلومتر)، يمثل فيها كل منزل مُدمَّر مقبرة أخرى غير مستوية لأولئك الذين ما زالوا مدفونين فيها.
صحيفة The New York Times الأمريكية رصدت في تقرير، الأحد 23 مارس/آذار 2024، حالات عديدة لأهالي غزة الباحثين عن ذويهم تحت الأنقاض.
أولى هذه الحالات لأب يزحف فوق جبل من شظايا الخرسانة الرمادية، ويضغط بأذنه اليمنى على الأنقاض، حسب ما ظهر في فيديو متداول على إنستغرام تحققت الصحيفة من صحته.
ووفقاً للفيديو فقد نادى الأب على أطفاله الغائبين: "لا أستطيع سماعك يا حبي"، ويصرخ "سلمى، سعيد"، وهو يضرب بمطرقته المتربة على الخرسانة الصامتة مراراً وتكراراً قبل أن ينهار.
أما الحالة الثانية فكانت لرجل آخر يبحث عند كومة ركام أخرى عن زوجته وأولاده، رهف 6 أعوام، وعبود 4 أعوام. ويصرخ "رهف"، ويميل إلى الأمام ليتفحص الكومة الرمادية أمامه: "ماذا فعلت لتستحق هذا؟".
وفي مقطع فيديو آخر نُشِر على الشبكات الاجتماعية، ظهر شاب ذو شعر مجعد يرتجف وهو ينحني فوق كومة الخرسانة المحطمة التي كانت في السابق منزل صديقه. ويُمسك هاتفه بين يديه المرتعشتين، لكن لا أحد يجيب. ويقول: "يا رب، يا أحمد، يا رب".
وتشير أحدث تقديرات وزارة الصحة في غزة إلى أنَّ عدد الأشخاص المفقودين في القطاع وصل إلى نحو 7000 شخص، لكن هذا الرقم لم يُحدَّث منذ نوفمبر/تشرين الثاني. ويقول مسؤولو غزة ومسؤولو الإغاثة إنَّ آلافاً آخرين قد أضيفوا على الأرجح إلى هذه الحصيلة في الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك.
وقد دُفِن البعض على عجل بحيث لم يمكن إحصاؤهم، فيما ترقد الجثامين المتحللة لآخرين في العراء، في أماكن شديدة الخطورة، لدرجة لا تسمح بالوصول إليهم، أو اختفوا ببساطة وسط القتال والفوضى والاعتقالات الإسرائيلية المستمرة، بحسب الصحيفة، لافتة إلى أنه من المرجح أن يظل الباقون محاصرين تحت الأنقاض.
عقب الغارات الجوية الإسرائيلية يتجمع حشدٌ صغير من رجال الإنقاذ الاحترافيين والمتطوعين. وفي مقاطع فيديو انتشرت على إنستغرام مثل تلك الموصوفة أعلاه، يمكن رؤية الباحثين، وهم مزيج من عمال الدفاع المدني المحترفين وأفراد الأسرة والجيران، وهم يتسلقون فوق حطام المنازل والمباني المُتربة للحفر.
لكن الآمال تتضاءل بسرعة، إذ عادةً ما يُعثَر على الأشخاص المفقودين ميتين تحت الحطام، بعد أيام أو أسابيع أو حتى أشهر.
أعداد المدفونين
يشكّل المدفونون رقماً موازياً لتعداد القتلى في غزة، وقيمة مجهولة تضاف إلى الإحصاء الرسمي لوزارة الصحة الذي يبلغ أكثر من 31 ألف قتيل، وجرح مفتوح للعائلات التي تأمل رغم انعدام الأمل في حدوث معجزة.
الصحيفة أوضحت أن معظم العائلات تقبلت بالفعل أنَّ ذويها المفقودين لقوا حتفهم، ومن غير الواضح كم من التقديرات الخاصة بالمفقودين تنعكس بالفعل في حصيلة القتلى الرسمية، إذ غالباً ما يجعل القصف المستمر وتبادل إطلاق النار والغارات الجوية البحث عن الجثث بين الحطام عملية خطيرة للغاية.
وفي أحيان أخرى، يكون الأقارب بعيدين جداً بحيث لا يستطيعون فعل ذلك، بعدما انفصلوا عن بقية أسرهم بحثاً عن مكان آمن للاحتماء فيه.
ومع ذلك، تشهد الصور التي ظهرت لأكوام الركام في غزة على نية العائلات انتشال جثث ذويها في يوم من الأيام، حيث كُتِب برذاذ الطلاء على قطعة قماش ملفوفة على باب أحد المباني المدمرة: "عمر الرياطي وأسامة بدوي تحت الأنقاض".
وعندما ينهار مبنى متعدد الطوابق يكون من المستحيل تمشيط تلة الحطام بدون آلات ثقيلة أو وقود لتشغيلها، وفي كثير من الأحيان لا يتوفر أي منهما.
مهمة الإنقاذ
في جميع أنحاء غزة يعرف أحمد أبو شهاب، وهو عامل في الدفاع المدني في القطاع، أنه لا توجد سوى حفارتين متاحتين لهذه المهمة، وبدونهما يعتمد رجال الإنقاذ على المجارف والمثاقب وأيديهم، وهي مهمة رتيبة وكئيبة، يتولاها في الغالب رجال لا يجدون سوى القليل من الطعام أو الماء أو الراحة، لكن يحركهم الغضب والحزن.
وفي الخريف الماضي قال أبو شهاب إنه كان جزءاً من فريق استخدم الجرافات والحفارة لانتشال عشرات الأشخاص من تحت أنقاض منزل مكون من ثلاثة طوابق، وهي مهمة طويلة، نظراً لحجم المبنى. وأضاف أنَّ الوصول إلى الأشخاص الموجودين بالداخل استغرق 48 ساعة، لكن بحلول ذلك الوقت كانوا جميعاً قد لقوا حتفهم.
والاتصال برقم الطوارئ 101 في غزة ليس له فائدة تُذكر؛ فشبكات الاتصالات ضعيفة أو غير منتظمة أو مُعطَّلة؛ لذا بدلاً من ذلك لجأ الكثير من الناس إلى تحدي القتال العنيف والشوارع المختنقة بالركام لطلب المساعدة شخصياً بمقر الدفاع المدني.
وحتى لو تمكنوا من الوصول لقوات الدفاع المدني فإنَّ نقص الوقود، إلى جانب الهجمات المستمرة، يعني أنَّ سيارات الإسعاف وعمال الإنقاذ سيواجهون ضغوطاً شديدة للتنقل في أنحاء غزة للاستجابة لمناشداتهم.
ويقول المتحدث باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني نيبال فرسخ إنَّ فرق الجمعية لم تتمكن من دخول هذا الجزء من القطاع بحرية، منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن احتل الجيش الإسرائيلي معظم شمال غزة ومدينة غزة. وليس هناك ما يمكنهم فعله للاستجابة للنداءات اليائسة على خط 101 من الأشخاص المحاصرين هناك، أو لعلاج الجرحى، أو انتشال الجثث، أو التنقيب عن المفقودين.
وأوضح فرسخ: "لسوء الحظ شعرنا بالعجز لأننا مُنعنا تماماً من الوصول إلى تلك المناطق؛ حيث لا يزال آلاف الأشخاص عالقين تحت الأنقاض، وبسبب مرور وقت طويل ربما يكونون قد لقوا مصرعهم بالفعل".