تخطَّت أزمة السكر شهرها الثاني في مصر، منذ أن بدأت في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دون أن تجد الحكومة سبيلاً لتوفيره للمواطنين الذين تكدسوا في طوابير المجمعات العامة والمولات انتظاراً للحصول على كيلوغرام واحد في ظل ارتفاع سعره بشكل غير مسبوق في البلاد، ليصل إلى 60 جنيهاً للكيلو الواحد مقارنة بـ24 جنيهاً قبل الأزمة.
لذلك أقدمت جهات قضائية على إجراء تحقيقات موسعة للبحث عن سبب الأزمة التي جاءت في وقت محرج للحكومة، التي تنتظر مصيرها بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية يوم الإثنين بفوز الرئيس المصري رسمياً بولاية جديدة.
اللافت أن وزير التموين المصري علي المصيلحي دعا المواطنين للصبر وعدم شراء السكر، وتعهَّد بأنه سيتم إنهاء أزمة السكر قبل يوم 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، لكن مع انتهاء الموعد المحدد لا يزال سعر كيلو السكر بالأسواق 60 جنيهاً.
"عربي بوست" تحدثت مع مصادر مطلعة لكشف حقيقة هذه الأزمة، والسبب الفعلي الذي يقف وراءها، وسر عدم توصل الحكومة لحل لها على مدى الشهرين الماضيين.
أزمة السكر في مصر.. مشكلة مركبة
كشف مصدر مطلع بوزارة التموين المصرية، شريطة عدم الكشف عن هويته، أن أسباب الأزمة الحالية تبدو مركبة، لكن جميعها تسببت فيها الحكومة المصرية، وبالأخص مسؤولي وزارة التموين، إذ إن "التراخي في كشف الفاسدين والسماح بمزيد من الشراكات غير الشرعية بين المسؤولين والمحتكرين تسبب في اختفاء سلع استراتيجية مهمة من قبل بينها الأرز والبصل، وارتفاع جنوني في أسعارهما"، على حد قوله.
وأوضح المصدر لـ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية لا تجرم الاحتكار، ويعد ذلك أول أبواب الفساد- بحسب المصدر- لأنها تترك الفرصة أمام معدومي الضمير للتلاعب في الأسعار مع ضعف رقابتها.
وأضاف المصدر المطلع أنه رغم أن هناك محاولات جرت خلال السنوات الماضية لإصدار تشريع يجرم مسألة الانفراد بتوزيع سلعة ما بيد مجموعة قليلة من التجار والمصانع، لكن ذلك لم يحدث وتكتفي الحكومة بتجريم الممارسة الاحتكارية مثل تعطيش السوق أو حجب السلع من المستهلكين لرفع أسعارها، وفي جميع الأحوال فإنها "تتراخى في مقاضاة هؤلاء لأن العديد من المسؤولين يستفيدون من ذلك"، على حد تعبيره.
وقال المصدر لـ"عربي بوست": "أزمة السكر نتجت بالأساس جراء تفاهمات جرت بين عدد من المحتكرين مع الفاسدين داخل الوزارة لجني مكاسب كبيرة قبل حصاد الموسم الجديد من قصب السكر، في يناير/كانون الثاني المقبل، وهو ما ترتب عليه ارتفاع طن السكر من 24 ألف جنيه إلى 45 ألفاً، لافتاً إلى أن الممارسات الاحتكارية في مصر ينتج عنها ارتفاع في الأسعار، لكن مع تراجع الإنتاج المحلي نشبت الأزمة، وتسبب حجب السكر في اختفائه بشكل تام في بعض الأوقات بدلاً من شحه وزيادة أسعاره فقط".
ولفت إلى أن وزير التموين الحالي علي المصيلحي مسؤول أيضاً عن الأزمة لأنه ترك عدداً من المستشارين بينهم مستشار ألقت الرقابة الإدارية القبض عليه بعد أن ظل في منصبه لمدة سبع سنوات، ويُصر المصيلحي على التجديد له سنوياً منذ أن استقدمه إلى الوزارة في العام 2017، رغم أنه تسبب من قبل في أزمة الأرز الشهيرة العام الماضي.
واستطرد: "إذا كانت هناك جهات رقابية عليا تتابع عمل المستشارين وتراقب ملايين الجنيهات التي يحصلون عليها شهرياً، وتستنزف ميزانية وزارة التموين وغيرها من الوزارات لم يكن للمهدي أو غيره من المتخاذلين أن يبقى في منصبه، لكن ما يحدث خلال السنوات الأخيرة التي تراجعت فيها عملية إدخال التعديلات على الحكومة المصرية، وتراجع أدوار الجهات القضائية تسبب في حالة من الفوضى تنعكس على الأزمات التي تحدث بين الحين والآخر، ويترتب عليها اختفاء سلع أو ارتفاع أسعارها".
تعطيش السوق لجني المكاسب
ألقت هيئة الرقابة الإدارية القبض على تسعة متهمين، بينهم مسؤولون في وزارة التموين تورطوا في قضية اختفاء السكر، ونسبت إليهم النيابة العامة تهم "ارتكاب جرائم الفساد والرشوة، واستغلال النفوذ، وإهدار المال العام، وحجب سلع، واستهداف التلاعب في سوق السلع الاستراتيجية مثل الأرز والسكر"، وأمرت بحبسهم 15 يوماً على ذمة التحقيقات، دون أن يصدر عن وزارة التموين أي تعليق بشأن الاتهامات الموجهة للمسؤولين.
واتضح من تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أن هذا التشكيل تعمّد حجب سلع أساسية واحتكارها ورفع أسعارها، وهناك مسؤولون حصلوا على رشاوى لغض الطرف عن المحتكرين، والسماح لهم بالتلاعب في أسعار سلع من المفترض أن تُصرف من الدولة لفئات من محدودي الدخل.
وأشارت النيابة العامة إلى أنه تم ضبط أطنان من السكر والزيت والأرز، وجميعها محجوبة عن المواطنين لبيعها في السوق بأكثر من سعرها الرسمي المدعم من الدولة للبسطاء.
وكشف مصدر أمني لـ"عربي بوست" أن التحقيقات مازالت مستمرة داخل وزارة التموين مع مسؤولين عن الرقابة وتوزيع السلع ومنح تراخيص الشركات، وقد تُفضي لاتخاذ إجراءات عقابية بحق عدد آخر من المسؤولين.
وأضاف المصدر الكبير بوزارة الداخلية أن هذه القضية قد تطيح بوزير التموين علي المصيلحي عقب نتائج انتخابات الرئاسة، إذ أشارت التحقيقات أن مسؤولي الوزارة ساعدوا شركات توريد السكر إلى الأسواق المصرية في حجب أطنان كبيرة لتعطيش السوق، انتظاراً لجني مكاسب كبيرة مع نهاية العام الجاري.
وأضاف المصدر أن استمرار التحقيقات أو إصدار إجراءات عقابية بحق مزيد من المسؤولين لن توقف عملية الاحتكار، ومن المتوقع أن تظهر أزمات في سلع استراتيجية أخرى، بعد أن عرف المحتكرون طرق التخزين في غياب تام للرقابة من جانب وزارة التموين، التي تعاني غياب أشخاص مسؤولين عن ضبط الأسواق، لافتاً إلى أن الوزارة بأكملها بإدارتها وتفريعاتها المختلفة على مستوى محافظات الجمهورية لا يتجاوز عدد العاملين في التفتيش التمويني سوى 900 موظف أو أقل، بالتالي ليست هناك قدرة لإحداث ضبط كامل للأسواق، كما أن عدداً من هؤلاء يتورطون في الأغلب بقضايا فساد لا يتم الوصول إليها أو ضبطها إلا بعد سنوات.
وكشف المصدر أن أحد مستشاري الوزير اقترح تعيين أفراد جدد لإحكام السيطرة على الأفراد، وتقدم بمقترح الاستعانة بخريجي الجامعات ممن لا تنطبق عليهم شروط الخدمة العسكرية، بأن يؤدوا خدمتهم العامة بالوزارة وتوزيعهم على الأسواق المختلفة، لكن المقترح جرى رفضه من جانب الوزير، الذي رفض أيضاً تعيين أي موظفين جدد في إدارة الرقابة، ما أثار تساؤلات عديدة لدى الجهات الأمنية حول مغزى ذلك.
التصدير والتخزين والتجار الجدد
وتستحوذ الشركة القابضة للصناعات الغذائية (حكومية) على حوالي 60% من حجم الإنتاج في مصر، من خلال 5 شركات توجه أغلب إنتاجها لحساب وزارة التموين، والتي توزعه بدورها على المتاجر التموينية المختصة بالسلع المدعمة، فيما يُسهم القطاع الخاص بنسبة 40% من حجم الإنتاج.
وتنتج المصانع في مصر نحو 2.8 مليون طن سنوياً من 15 مصنعاً لسكر القصب والبنجر (الشمندر)، ويصل الاستهلاك إلى ما بين 3.3 إلى 3.5 مليون طن. وقررت الحكومة استيراد 400 ألف طن سكر خام على مرحلتين، وتوفيره للجمهور بأسعار مخفضة بالمجمعات الخاصة بوزارة التموين، على دفعات مستمرة حتى مارس/آذار المقبل.
ووفقاً لتوقعات مجلس المحاصيل السكرية فمن المنتظر أن يبلغ إنتاج السكر هذا الموسم نحو 2.9 مليون طن، تشمل 1.8 مليون من بنجر السكر، و850 ألف طن من قصب السكر، بخلاف 250 ألفاً من سكر الفركتوز المنتج من حبوب الذرة.
ويشير عضو بشعبة المواد الغذائية باتحاد الغرف التجارية إلى أن الفساد الحكومي منح التجار مزيداً من الجرأة في تعاملهم مع السلع الاستراتيجية، وفي السابق كان لدى وزارة التموين مخالب تستطيع من خلالها السيطرة على السوق والتجار، دون أن يتسبب ذلك في ليّ ذراعها، وهو أمر تراجع بقوة وظهرت تأثيراته واضحة في أزمة الأرز، ويتكرر ذلك الآن في أزمة السكر.
وأوضح أن الشركات الحكومية قررت خلال الشهرين الماضيين تخفيض توزيع السكر على التجار، انتظاراً لوصول شحنات مستوردة من الخارج، في وقت اتَّجهت فيه للتصدير إلى الخارج، وكانت الأولوية لتحصيل العملة الصعبة، فكان الرد من التجار بتخزين كميات كبيرة كانت لديهم للضغط على الحكومة.
ولفت إلى أن بعض التجار لديهم عشرات الأطنان، وينتظرون التوقيت المناسب لعرضها بالسوق حينما يشعرون بأن سعر الكيلوغرام يبدأ في الانخفاض، وذلك لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، كما أن مساعي الحكومة لإدخال تجار جدد للسوق للقضاء على الاحتكار لم يفلح لأسباب عديدة، بينها أن مسؤولي الوزارة أنفسهم مستفيدون من الأزمة، وهناك رشاوى بالملايين تُوزع في مقابل ضمان تحقيق مكاسب وأرباح طائلة، إلى جانب تحايل الشركات الكبرى على هذا القرار بتدشين شركات صغيرة بأسماء مغايرة، على حد قوله.
وشدد على أن القرار الذي أصدرته وزارة التموين بإلزام شركات تعبئة السكر بوضع الوزن وسعر البيع وتاريخ الإنتاج والصلاحية على العبوات، مع مطالبة الموردين والموزعين بإرسال بيانات أسبوعية عن الكميات المستوردة والمخزنة لديها، لم يتم تنفيذه على الأرض بسبب سوق العرض والطلب، وندرة وجود السكر في الأسواق.
هل تفلح الإجراءات الحكومية؟
بدورها قامت الحكومة المصرية بحظر تصدير بعض السلع الأساسية لمواجهة الزيادة غير المسبوقة في الأسعار وضبط الأسواق. وقرر مجلس الوزراء المصري الأربعاء الماضي استمرار حظر تصدير البصل حتى نهاية مارس /آذار المقبل، ونشرت الجريدة الرسمية الخميس قراراً بمد حظر تصدير السكر لمدة ثلاثة أشهر أخرى، باستثناء الكميات الفائضة عن احتياجات السوق المحلية.
وحاولت الحكومة التخفيف من حدة الأزمة مع بدء الانتخابات الرئاسية، إذ أصدر وزير التموين والتجارة الداخلية في مصر توجيهاً وزارياً، بزيادة إتاحة المعروض من سلعة السكر الحر، للوفاء بالاحتياجات المطلوبة، ويتم صرف عدد واحد كيلو سكر حر للبطاقة التموينية التي بها 3 مستفيدين فأقل، كما سيصرف عدد 2 كيلو سكر حر للبطاقة المقيد عليها 4 مستفيدين فأكثر، بسعر 27 جنيهاً للكيلو وتسدد نقداً، هذا بالإضافة إلى قيمة الدعم المحدد على البطاقة التموينية.
لكن ذلك لم يحدّ من الأزمة، وهو ما وصفه النائب عبدالمنعم إمام، أمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، بـ"الكارثة الاقتصادية التاريخية"، وتقدم بطلب إحاطة بشأن اختفاء السكر من الأسواق وزيادة سعره إلى 60 جنيهاً للكيلو، وغلاء البصل بشكل مبالغ فيه، حيث ارتفع سعره من 3 كيلوات بجنيه إلى الكيلو بـأكثر من 30 جنيهاً، أي نحو 90 ضعفاً، وتتكرر هذه الأزمات من وقت إلى آخر في سلع مختلفة مثل الأرز، ليجد المواطن نفسه كل يوم يعاني في الأسواق بحثاً عن السلع الأساسية ولا يجدها.
ويُرجع خبير اقتصادي يعمل بوزارة الزراعة لـ"عربي بوست"، تفاقم أزمة السكر إلى زيادة أعداد السكان، ووجود ما يقرب من 10 ملايين أجنبي من جنسيات مختلفة في مقابل عدم إحداث زيادة مماثلة لزراعة قصب السكر، لافتاً إلى أن الإنتاج كان يحقق فائضاً تصل نسبته إلى 25%، وكانت مصر تصدره للخارج، لأنه يزيد عن استهلاكها، واستمر ذلك حتى بداية الألفية الحالية، مشيراً إلى أنه مع زيادة السكان أضحى إنتاج السكر لا يكفي سوى 75% من الاستهلاك المحلي، ويتم استيراد النسبة المتبقية من الخارج.
ويؤكد أن وزارة الزراعة على الجانب الآخر تتحمل جزءاً من أزمات السلع، لأنها لم تقم بدورها على مدار السنوات الماضية، وفشلت في تعميم نظم الري الحديثة لتقليل استخدام المياه في الأراضي المزروعة، ومن ثم تشجيع المزارعين على زراعته، وأن محافظات الجنوب التي تزرعه بكميات كبيرة مازالت تعتمد على طرق الري التقليدية، مشيراً إلى أن الحكومة تأخرت كثيراً في إطلاق مشروع زراعة القصب بالشتلات، بما يُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي.