لم تمنع اتفاقيات التطبيع بين المغرب وإسرائيل من خروج المغاربة في مسيرات حاشدة ضد مجازر الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بل رفع شعارات مناهضة للتطبيع.
في هذا الحوار، يؤكد المناضل المغربي في حركة بي دي آس المغرب، وعضو الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، سيون أسيدون، أن مناعة الشعب المغربي قوية ضد الصهيونية، وأن باب تصحيح الخطأ أمام السلطات لا يزال مفتوحاً للتراجع عن التطبيع والخروج من اتفاقية أبراهام الثلاثية بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة.
الوضع اليوم في فلسطين، وفي غزة المحاصرة تحديداً، دخل منعطفاً جديداً مع استمرار المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين. كيف ترى الموقف المغربي الرسمي اليوم بهذا الخصوص، في ظل تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟
بين أيدي السلطات فرصة قوية جداً لتحقيق على أرض الواقع ما جاء في كلمات التوصيات الأخيرة للقمة العربية والإسلامية؛ كي لا تبقى مجرد حبر على ورق. وهي فرصة وضع حد للاتفاق الذي يربط المغرب بدولة الاحتلال، والذي حمل دلالات أكبر بكثير مما تعنيه كلمة "تطبيع"؛ لأن مجموع الاتفاقيات بين المغرب ودولة الاحتلال يشمل جميع المجالات، ومنها المجالان الاستعلاماتي والعسكري. فكيف يعقل أن يظن البعض أن الشعب المغربي المرتبط تاريخياً بفلسطين، سيوافق على اتفاقية توسيع التعاون بين الجيش المغربي والجيش الذي يقوم آنياً بالمجازر في غزة (بل أيضاً في الضفة والقدس)؟
المغاربة يخرجون يومياً إلى الشارع للتنديد بما يرتكب من الجرائم في فلسطين. ودخلوا تلقائياً في حملة مقاطعة واسعة النطاق ضد كل ما يرتبط بالاحتلال.
وبدل استعمال هذه القدرة على تغيير المعادلة، تقف السلطات المغربية في موقف المتفرج منتظرة نتائج المعركة.
هناك من يقول إن يد المغرب "مغلولة" للأسف اليوم، لأن المملكة تورّطت في الربط بين قضية الصحراء والقضية الفلسطينية في الاتفاق الثلاثي الأمريكي-المغربي-الإسرائيلي. هل تتفق مع هذا الرأي؟
لا توجد اتفاقيات لا يمكن إلغاؤها. لنفرض جدلاً أن السلطات المغربية لم تكن تتوقع حين توقيع هذه الاتفاقيات مع دولة الاحتلال الصهيوني أن الأوضاع ستتطور، وسيكون على الأقل محرجاً. هناك الآن طريقان: طريق استدراك الأخطاء من جهة، ومن جهة أخرى طريق "تعميق الجريمة"، إذ يعلق البعض الآمال على انتصار وهمي لجيش الاحتلال على المقاومة الفلسطينية.
لن تحصد السلطات المغربية من تعنتها في التشبث بالتواطؤ مع المجرمين إلا المزيد من الإحراج والشجب من الجماهير الواسعة، ودون أي استفادة من الأرباح المزعومة في حل قضية الصحراء.
هل تعتقد أن هذا الأمر هو الذي جعل المغرب لم يستطِع لحد الآن تكرار القيام بما حصل في 2002 حين قطع علاقاته مع إسرائيل بعد العدوان على غزة آنذاك، رغم أن المجازر التي يرتكبها الاحتلال في حق الفلسطينيين في غزة اليوم أبشع من سابقتها؟
تحت ضغط قوي من الرأي العام، أنقذت السلطات المغربية آنذاك ماء الوجه والشرف بطرد ممثل دولة الاحتلال وإغلاق مكتب الاتصال. وكان ذلك لأسباب أقل خطورة بكثير مما عليه الوضع الآن. اليوم مرت 15 سنة على قرار إغلاق غزة وتحويلها إلى أكبر سجن في الهواء الطلق، ومرت الآن أسابيع على قرار المحتلين تطويقها وإحكام إغلاقها وعلى حرمان الشعب الفلسطيني في غزة من جميع وسائل العيش والقيام بأخطر الجرائم في القانون الإنساني الدولي، ويتعلق الأمر بإبادة جماعية وتطهير عرقي، في محاولة يائسة لإعادة نسخ نكبة 1948. كل هذه عناصر إضافية لمراجعة الموقف المغربي. وباب تصحيح الخطأ لا يزال مفتوحاً، من خلال الخروج من اتفاقية أبراهام.
لكن هناك من يذهب إلى أن المغرب سمح للمواطنين بالتظاهر والاحتجاج تضامناً مع فلسطين وتنديداً بالعدوان الإسرائيلي ومجازره بحق الفلسطينيين، ورُفعت أيضاً شعارات للتطبيع. أليست هذه أيضاً رسالة رسمية لرفض مجازر وعدوان الإسرائيليين؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مساهمة في التنفيس؟
بجملة واحدة: هل يمكن بناء سد أمام البحر؟ توازن المغرب هزيل، ولن يتحمل ما يمكن أن يتولّد من عاصفة، وبالتالي اختارت السلطة أن تسلك طريق المسايرة والانتظار، بينما هي فرصة ما زالت مفتوحة للتدارك بالتجاوب مع تعبير الجماهير المغربية عن سخطها. هي فرصة للتراجع عن اتفاقيات أبراهام.
مع تراكم الأخطاء المرتكبة أضحت فعلاً دبلوماسية الدولة المغربية أقل تأثيراً مما كانت عليه في أي وقت مضى. وأدت ثمن تغيبها عن الأدوار التي كانت تطمح أن تلعبها في القضايا الكبرى في المنطقة؛ ومنها طبعاً قضية فلسطين. ولا أظن أن باب العودة بسهولة إلى الوضع السابق.
في خضم الأحداث الجارية دائماً في فلسطين، كيف ترى مستقبل تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل؟ هل تتوقع استمرار زخم التطبيع بعد نهاية الأحداث وقمع رافضيه في المملكة؟
إن صانعي التاريخ هم الشعوب، وانتصار الشعب الفلسطيني في 7 أكتوبر/تشرين الأول فتح مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة. والمعركة الحالية ستحدد إعادة ترتيب الأوضاع فيها.
لم نعرف بعد هل حماقات نتنياهو ستؤدي إلى فتح جبهات جديدة في هذه الحرب. من الواضح أنه ستترتب على مثل هذا التطور أوضاع يمكن أن تصل إلى توسيع ميدان الحرب إلى خارج المنطقة بدخول قوى بقيت إلى حد الآن خارج المشاركة المباشرة.
ما هو أكيد هو أن العدوان الصهيوني على غزة لن يتمكن من الوصول إلى أهدافه. لا في إعادة نكبة جديدة ولا في "مَحوِ حماس".
وبالتالي فالأوضاع ستطرح أمام السلطات المغربية نفس المعادلة. لكن هذه المرة في ظروف ستزيد عليها صعوبة الاختيار. ولا يمكن التكهن بهذا الاختيار. ما هو مؤكد أن رافضي التطبيع سيكونون في موقف أقوى لمواجهة أي تطور لأي موقف للسلطات منهم.
أصدرت إحدى المؤسسات العربية المختصة منذ أيام تقريراً كشفت من خلاله عن وجود شبكة إسرائيلية تحرك حسابات تحاول من خلالها إغراق مواقع التواصل بمحتوى مغربي مزيف لتنفير المغاربة من قضية فلسطين. كيف استطاع التحرك المجتمعي المغربي أن يتصدى لكل محاولات الاختراق الصهيوني للمجتمع المغربي؟
بالفعل، لاحظنا في الشبكات الاجتماعية حضور المزيد من الذباب الإلكتروني، وبذلك أصبح هذا المصطلح أكثر شيوعاً عند الناس وعند الشباب بالخصوص.
في نظري مناعة الشعب المغربي ضد الاختراق الصهيوني قوية. إنها مبنية على قرون من الارتباط. نداء صلاح الدين الأيوبي للمشاركة في تحرير القدس لقي تجاوباً قوياً عند المغاربة (واستعمل هذا المفرد عنوة لعدم السقوط في خطأ الانفراد عند فهم معنى كلمة "المغاربة" في عبارات "باب المغاربة" و"حي المغاربة" في القدس). ومنذ ذلك تقوّت الصلة، وبالأخص في مرحلة المعارك ضد الاستعمار في القرن العشرين، وأيضاً من خلال مشاركة مجاهدين مغاربة في المقاومة الفلسطينية في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.. واستشهد من استشهد في الميدان.
أضِف إلى كل ذلك دور الآباء والأساتذة في التربية للسهر على ضمان الاستمرارية في حمل الرسالة. كل ما سبق ذكره يفسر المناعة العالية للمغاربة ضد الاختراق. والأيام الأخيرة بينت (كدليل على هذا المستوى العالي للمناعة) أن تقليد المسيرات المليونية لا يزال حياً في المغرب.