صعّد الأردن من لهجة خطابه مع الاحتلال الإسرائيلي وبشكل علني ومتصاعد، منذ بداية حرب طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، متحدثاً عن "جرائم" و"تجاوز للخطوط الحمراء" و"حرب همجية" ضد قطاع غزة، وأن تهجير الفلسطينيين إلى المملكة يُعد بمثابة "إعلان حرب"، وأكد أنه لا يمكن أن يكون الأردن الوطن البديل ضمن المشروع الإسرائيلي للتهجير.
قرر كذلك الأردن في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، استدعاء سفيره لدى تل أبيب "فوراً"، رافضاً إعادة السفير الإسرائيلي إلى المملكة، بعد مساعٍ أمريكية -بطلب إسرائيلي- مرتبطة بطرح مشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية وإلى المملكة الأردنية.
في حين أكدت مصادر رسمية لـ"عربي بوست"، أن الجانب الإسرائيلي بعث رسائل سياسية عدة بهذا الإطار إلى الأردن عبر الجانب الأمريكي، كانت إحداها من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بشكل رسمي إلى نظيره الأردني أيمن الصفدي، في الاجتماع الذي عقده بالعاصمة الأردنية مع كل من مصر، والسعودية، والإمارات، وقطر، إلى جانب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
أوضحت أن الوزير الأمريكي قام بممارسة ضغوطات على عمّان والقاهرة للقبول بقضية التهجير بشكل رسمي، لكن الأردن قابل الطلب الأمريكي برفض قاطع وواضح، وأن يكون الأردن الوطن البديل للفلسطينيين.
انعكس الأمر لاحقاً على سقف المطالب الأمريكية لوقف الحرب في غزة، وبشكل متدرج من "إنهاء حركة حماس والموافقة على تهجير الفلسطينيين"، إلى رفض لذلك، ومناقشة ما سمّته "ما بعد حماس" من حيث إدارة القطاع بعد الحرب، دون إخراج أهلها منها.
فما هي أسباب تصاعد الخطاب الأردني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا يعتبر أن مسألة تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى أراضيه تعد "إعلان حرب" ضد المملكة؟
مصير الأردن ووجوده
من جهته، أجاب الوزير الأردني الأسبق للتنمية السياسية، صبري الربيحات، لـ"عربي بوست"، بأنّ "الموقف المعلن من عمّان مرتبط بمصير الأردن ووجوده، وهو الآن في هذه اللحظة يزداد صلابة في ظل التهديد الإسرائيلي والعدوان الذي تشنه إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة".
وشدد على أنه "كلما زاد التكبر الإسرائيلي ارتفعت ردت الفعل المقاومة من الأردن للوقوف في وجه المخططات التي تحاك ضده، مثل قضية تهجير الفلسطينيين من الضفة إلى المملكة الأردنية".
وأوضح الربيحات أنّ "المواقف الأردنية واضحة بالدعوة إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية يضمن قيام دولة على الأراضي الفلسطينية وفق ما يتعلق بالشرعية الدولية، وضرورة تجاوز الحلول المؤقتة والأمنية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض، مثل رغبته في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية".
ورأى أنّ "الإدارة الأمريكية الحالية تجربتها السياسية محدودة بالشرق الأوسط، إذ لم يكن على أولوياتهم، بل تعاملت مع الشرق الأوسط وفق الرواية والأجندة الإسرائيلية، وهذا ما تترجم فعلياً عبر انجرار الإدارة الأمريكية في تعاملها مع الحكومة الإسرائيلية والوقوف خلف رغباتها مثل قضية التهجير".
الهجوم الإسرائيلي على الملكة رانيا
عن الأسباب أيضاً التي أدت إلى تصاعد اللهجة الأردنية، أوضح الربيحات أن من بينها الهجوم الرسمي والإعلامي العبري على الملكة رانيا، مؤكداً أنّ "إسرائيل لا تؤمن بالخطاب المعتدل، وإنما تؤمن فقط بمبدأ التعامل بالردع والتدمير، وهذا ما تقوم به تجاه المدنيين العزل في غزة، وهذا ما يفسر الهجوم على الملكة رانيا التي تمثل الصوت المعتدل".
وكانت الملكة رانيا العبد الله ظهرت في مقابلة على شبكة "سي إن إن" الأمريكية، موجهة انتقادات للرواية السائدة في الإعلام الغربي بشأن ما يحصل في غزة، موضحة أن "الصراع لم يبدأ في السابع من أكتوبر".
وقالت إن معظم الشبكات الغربية تقوم بتغطية القصة تحت عنوان "إسرائيل في حالة حرب"، ولكن بالنسبة للفلسطينيين على الجانب الآخر من الجدار العازل والجانب الآخر من الأسلاك الشائكة، فإن الحرب لم تغادرهم قط، وأن هذه قصة عمرها 75 عاماً، قصة موت وتهجير للشعب الفلسطيني.
وأكدت أن الرواية أغفلت إبراز تلك القوة العظمى الإقليمية المسلحة نووياً، التي تحتل وتضطهد وترتكب جرائم يومية موثقة ضد الفلسطينيين، واصفة إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري.
وهاجمت وسائل الإعلام العبرية تصريحات الملكة رانيا، وكان الهجوم الأبرز من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نيفتالي بينيت في مقابلة مع الإعلامي البريطاني بيرس مورغان، واصفاً ملكة الأردن بأنها "كذبت تماماً عندما اتهمت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري"، مضيفاً أن "قول هذه الأكاذيب الصارخة أمر مؤسف".
أتبع هذا الهجوم غير المسبوق من الجانب الإسرائيلي على ملكة الأردن، إعلان المملكة أنها لن تستقبل السفير الإسرائيلي على أراضيها في حال قرر عودته، بعد مغادرته المملكة على إثر بدء حرب طوفان الأقصى.
وأكد الربيحات أن "الأردن لا يزال متمسكاً بخطابه المعتدل، وبحلول الشرعية الدولية تجاه حل القضية الفلسطينية، ولم يقدم أطروحات بديلة أو يتنصل من معاهدة السلام مع إسرائيل، بخلاف الحكومة الإسرائيلية التي غيّرت وبدلت في خطابها، ولم تراعِ أي معاهدات أو اتفاقيات".
وشدد على أن "خيارات الأردن لا تزال واضحة للمجتمع الدولي الذي ينظر للأردن على أنه بمثابة الصوت المعتدل في المنطقة، وأنّ خطابه لا يزال مسموعاً، ويلقى قبولاً من المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية".
تهديد الأمن القومي وتغيير الديموغرافيا
من جهته، قال المحلل السياسي الأردني محمد الروسان، في حديثه لـ"عربي بوست"، حول الأضرار التي ستعود سلباً على الأردن مما يجري في غزة، إنّ "المتضرر هو الأمن القومي الأردني، لأنّ السيناريو القادم في حالة نجاح الأمريكي والإسرائيلي في إسقاط غزة أو شطب المقاومة هو تهجير أهل الضفة الغربية نحو الدول العربية لا سيما الأردن".
وأكد أن هذا الأمر بالنسبة للأردن خط أحمر، وإعلان للحرب، فما يجري هو تصفية للقضية الفلسطينية، وإشعال للحرب مع الأردن، وتهديد وجودها.
تكشف مصادر رسمية برلمانية لـ"عربي بوست"، رفضت الكشف عن اسمها، أنّ مصلحة الأردن تكمن بالدرجة الأولى وقبل كل شيء في رفض أي تهجير، سواء فلسطينيي غزة أو فلسطينيي الضفة نحو المملكة، لأنّ هذا يعني ليس فقط مخطط جعل الأردن الوطن البديل، وإنما نظاماً سياسياً بديلاً بديموغرافيا متوسعة، وهذا عامل خطير داخلياً بالنسبة للمسؤولين في الأردن".
وأعلن العاهل الأردني أكثر من مرة، وبشكل واضح موقفه من قضية الأردن الوطن البديل، وظهر في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة بلباس عسكري من داخل البرلمان الأردني، وبحضور قيادات الجيش الأردني كافة، رافضاً أي حديث عن أن الأردن الوطن البديل وتهجير الفلسطينيين.
وفق التقديرات الرسمية الأردنية، فإن نسبة الأردنيين من أصول فلسطينية تتراوح ما بين 35- 39%، بينما تبين إحصاءات غير حكومية أن عددهم يقدر بنحو 40 و60% من إجمالي نحو 11 مليون نسمة، بينهم 1.3 مليون سوري نصفهم يحملون صفة "لاجئ".
ويوجد في الأردن 13 مخيماً للاجئين الفلسطينيين، بنيت في مراحل مختلفة، وتضم بداخلها نحو مليوني شخص.
تشير المصادر ذاتها إلى أن الأردن يعتبر أن واشنطن لا يهمها ما يمكن أن يحدث في المملكة مقابل مصالح إسرائيل رغم أن الأردن يصفه المسؤولون الأمريكيون بأنه حليف استراتيجي لهم.
وقالت إن "ما يهم الجانب الأمريكي هو مصلحته فقط، التي تتضمن أن تبقى أداته إسرائيل قوية، فإذا شُطبت إسرائيل، فإن أمريكا لا دور لها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فإن أي محاولة تهجير تعني إعلان حرب بالنسبة للأردن الذي يرى أن هذه المسألة تحدد مصيره كنظام سياسي قائم، وتنعكس على المنظومة السياسية كلها في البلاد".
وأكدت كذلك المصادر الأردنية أن "الموقف الأردني شديد اللهجة يأتي في وقت لا يثق فيه كثيراً بالموقف المصري؛ لأنّ يرى أن هناك مباحثات ومفاوضات تجري تحت الطاولة في ظل الوضع الاقتصادي السيئ في مصر، وأن ذلك قد يفضي إلى اتفاق باستقبالها الفلسطينيين في غزة".
هنا يرى المحلل السياسي محمد الروسان أنّ "المطلوب من الأردن أن يستمر بمواقفه، وأن يترجم ذلك على أرض الواقع، كأن يغلق الحدود، وأن تقف دباباته هناك".
تصفية القضية الفلسطينية
بحسب رأي الروسان، فإن تصاعد الموقف الأردني وتشدده من الحرب على غزة بدءاً من الملك الأردني والملكة الأردنية وكافة المسؤولين الأردنيين مروراً بالشعب الأردني، نابع من أنّ "الأردن يدرك ما الذي يرمي إليه الأمريكي والإسرائيلي من تصفية الموضوع الفلسطيني عبر ملف التهجير".
وشدد على أن تهجير الفلسطينيين يُراد منه إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها تماماً بإخراج الفلسطينيين تماماً من أرضهم لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي إنهاء أي حق لهم فيها، مع إبطال لحق العودة، لا سيما أن هذا ما عانى ويعاني منه الفلسطينيون حتى اليوم الذين هجروا منذ عام 1948، ولم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم وأرضهم حتى الآن.
وأضاف أن "واشنطن تريد إنهاء أي معيق لمشروعها في المنطقة، فهذه ليست معركة غزة فقط، بل هي أيضاً معركة مع الروسي والصيني في المنطقة؛ لأن 7 أكتوبر ألغى فكرة الممر البحري الذي كان تعده الولايات المتحدة البحري والذي تم الإعلان عنه في نيودلهي بالهند.
خطة تهجير الفلسطينيين.. "الأردن الوطن البديل"
بدورها، قالت الأستاذة الجامعية في الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، دلال صائب عريقات، في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، إن "هناك خطة إسرائيلية أعدت سلفاً وتم عرضها على الجانب الأردني والمصري، من قبل الجهات الاستخباراتية العسكرية الإسرائيلية، وما يجري حالياً هو ترجمة عملية لكل بنود الخطة".
وأوضحت أن "الخطة تضمن 3 خيارات: الأول منها، أن يبقى المواطنون الفلسطينيون داخل قطاع غزة وتقوم السلطة الفلسطينية بإدارته، وهذا الخيار تم استبعاده، أما الخيار الثاني كان بإبقاء المدنيين في غزة وأن تحكم سلطة عربية تدير القطاع، وهذا استبعدوه أيضاً لأنه اعتبر خياراً غير استراتيجي، أما الخيار الثالث فإنه يتمثل في تهجير سكان غزة نحو سيناء والبحث بعدها عمن يحكم غزة بحكم أمني إسرائيلي، وهذا الخيار هو الأمثل والأكثر استراتيجية والأكثر قبولاً للتطبيق بالنسبة لإسرائيل وأمريكا".
وأكدت أن الإسرائيليين والأمريكيين "يتحدثون باستمرار عن النقل القسري للفلسطينيين على الدوام، وأن يكون الأردن الوطن البديل للفلسطينيين".
وأشارت عريقات إلى أن "الإسرائيليين يعملون الآن على تقليل ضغط السكان في شمال غزة عبر انتقالهم نحو الجنوب، وهذا ما نراه على أرض الواقع، فأكثر من مليون فلسطيني نزحوا نحو الجنوب، ويجري الحديث حالياً عن إجلاء شامل من الفلسطينيين المدنيين نحو سيناء وتهجيرهم عبر تجويعهم، وقطع أنواع الإمدادات الطبية والغذائية كافة، الأمر الذي يجعلهم يضطرون إلى الخروج نحو معبر رفح، وهذا ما تقوم به آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية بحذافيره في العملية العسكرية".
وأوضحت أن "التوجه من الشمال إلى الجنوب يعدّ جزءاً من الخطة، وهي أكبر من مسألة إنهاء حماس وأكبر من قطاع غزة، فالمستهدف هو المشروع الوطني الفلسطيني، والمطلوب هو تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، عبر إعادة احتلال غزة، وضمه للجانب الإسرائيلي".
وأكدت أن "المشروع مخطط له، وتم التجهيز له، وبات واضحاً، وأنّ الأردن ومصر يبديان رفضاً واضحاً في مواقفها المعلنة، ووضعا خطوطاً حمراء لذلك"، مشددةً على أنه "بالنسبة لأمريكا وإسرائيل فإن هناك تخاذلاً من بعض الدول الإقليمية والدولية في تحقيق صفقة القرن، وتغيير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، وهذا أمر لا يعجبهما".
ومنذ بدء العدوان على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يسعى الجيش الإسرائيلي إلى تهجير سكان شمالي القطاع إلى وسطه وجنوبه، فيما تحدثت تسريبات عن خطط إسرائيلية لنقلهم إلى صحراء سيناء المصرية، وهو ما قوبل برفض فلسطيني وعربي رسمي.
وتحدث مسؤولون أمريكيون في مناسبات عدة، عن إدارة غزة في مرحلة سمّوها "ما بعد حماس"، آخرهم المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي الذي أعلن أن "حركة حماس لا يمكن أن تكون جزءاً من المستقبل في قطاع غزة، والمشاورات جارية بشأن شكل الحكم هناك".
فيما ردّت حركة "حماس" على لسان الناطق باسمها عبد اللطيف القانوع، في بيان رسمي بالقول إن "إدارة قطاع غزة شأن فلسطيني خاص"، مؤكدة "عدم نجاح أي قوة على الأرض في تغيير الواقع أو فرض إرادتها".
يشار إلى أنه منذ أكثر من شهر يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي حرباً مدمرة على غزة، استشهد على إثرها أكثر من 11 ألف فلسطيني، بينهم أكثر من 4 آلاف طفل، وأصيب أكثر من 29 ألفاً، واستشهد نحو 200 فلسطيني واعتقل أكثر من 2500 في الضفة الغربية، بحسب مصادر فلسطينية رسمية.