منذ الانتخابات الرئاسية الماضية التي أجريت في شهر مايو/أيار الماضي، لم تشهد تركيا تجمعاً سياسياً بحجم وأهمية "تجمع فلسطين الكبير" الذي أقيم اليوم، السبت، في ساحة مطار "أتاتورك الدولي" بتنظيم من حزب العدالة والتنمية باسطنبول.
مئات الآلاف من الأتراك، بجوارهم لفيف من الجاليات العربية والإسلامية المقيمة بتركيا، انطلقوا منذ ساعات الصباح إلى مطار "أتاتورك الدولي" ليعبروا عن غضبهم واستنكارهم للواقع المأساوي والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في مختلف الأراضي المحتلة، وفي قطاع غزة بالتحديد.
وصف هذا التجمع بأنه واحدة من أكبر التظاهرات السياسية في تاريخ تركيا ليس مبالغة على الإطلاق. ما حفّز الحاضرين إلى تلبية الدعوة بشكل كبير كان قطع سلطات الاحتلال الإسرائيلي الاتصالات وشبكة الإنترنت عن كامل قطاع غزة واستمرار القصف الوحشي.
كانت الأوجه شاحبة، مليئة بالغضب ويعتصرها الألم، "كيف يمكن أن نصمت بينما ترتكب جريمة إبادة على الهواء مباشرة، في أي غابة نعيش؟!" هكذا استنكرت السيدة إليف أورهان ما يحدث عندما سألناها عن سبب قدومها إلى التجمع.
ليست فقط الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، والتي أسفرت عن استشهاد الآلاف وإصابة عشرات الآلاف، هي ما دفع الناس إلى الاحتشاد، قلة الحيلة والعجز دفعت آلافاً إلى الحضور.
"قلبي يحترق، أنا غاضب بشدة، ليس لديّ كلمات لأقولها لأهل غزة. أقل اعتذار يمكن أقدمه لهم هو أن أحضر هنا اليوم". هكذا أخبرنا السيد أورهان أوزغور، عندما سألناه عن سبب حضوره وهو في عقده الثامن.
سريعاً امتلأت الساحة وضاقت بزوارها، وسرعان ما امتلأ الهواء بالهتافات الغاضبة والمعادية لإسرائيل، وبدرجة أقل انطلقت أناشيد الأمل والتضامن. كان واضحاً أن الغضب من إسرائيل ومحاولاتها إفناء قطاع غزة قد بلغ مداه، فهاجم الحاضرون رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هاتفين: "نتنياهو قاتل".
أحد المشاركين في التجمع المناصر للقضية الفلسطينية، وهو السيد رجب أكان، أخبرنا: "جئت اليوم هنا لأساهم في خلاص العالم من إرهاب إسرائيل. للأسف هذا كل ما أستطيع فعله الآن". ثم قال لنا شقيقه، ميرت، وهو يغالب دموعه: "أنا هنا لأن هذا كل ما أستطيع فعله للأسف. لو تفتح الحدود سأذهب غداً للجهاد بفلسطين".
في أروقة التجمع كانت تسير آلاف القصص المثيرة للشجون، إحداها تخص السيد إسماعيل أوزترك. كان لأوزترك طفلة صغيرة، ماتت في الخامسة من عمرها في حادث سير، وقد فطر قلبه من حينها على حد تعبيره. حضر أوزترك التجمع وفي يده لافتة خط عليها باللون الأحمر: "لإنهاء المجزرة وقتل الأطفال". وقد سألنا عما إذا كنا نعرف هل يتعاطى الساسة الإسرائيليون عقاراً منوماً أم أن ضمائرهم لم تعد حية؟!
كما أشرنا في البداية، لم يقتصر الحضور على المواطنين الأتراك، قابلنا مجموعة من الشباب الفلسطيني، أخبرونا مباشرة أنهم من قطاع غزة، وبالتحديد من منطقة "بيت لاهيا"، وأن أهلهم صاروا بلا مأوى بعدما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصفه وتدميره، ولقد فقدوا اتصالهم بأهلهم منذ أكثر من 48 ساعة.
وكأنهم يشعرون بذنب ما، أبلغونا أنهم متواجدون بتركيا بشكل مؤقت للعلاج، وأنهم سيعودون إلى قطاع غزة في أقرب فرصة ممكنة. سألناهم عن مخطط التهجير وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، فأكدوا بشكل قاطع أن "أهل غزة باقون في أرضهم ما بقي الزعتر والزيتون". تميم، أصغر تلك المجموعة عمراً، لم يتجاوز السادسة بعد، أخبرنا أن "المقاومة ستنتصر وأنه سيعود إلى بيت لاهيا (مسقط رأسه) لكن يتمنى أن تبقى عائلته على قيد الحياة حتى يعود".
حرب الهلال والصليب
من الناحية السياسية، حضر التجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ألقى خطاباً مؤثراً ندد فيه بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وحيا صمود شعب غزة ووصفه بأنه "ملحمة مجيدة". وتابع الرئيس أردوغان: "إسرائيل، سنعلن للعالم برمته أنك مجرمة حرب، ونعمل على ذلك".
رفع الرئيس التركي من حدة خطابه ضد إسرائيل وداعميها، فقال إن الغرب هو "أكبر مسؤول عن المذبحة" التي يتعرض لها قطاع غزة الفلسطيني في الوقت الراهن. وأضاف: "أقول للغرب هل تريدون حرب هلال وصليب مجدداً؟ إن كنتم تسعون لذلك فاعلموا أن هذه الأمة لم تمت". وبعدما انطلقت تلك الكلمات في الأجواء، هللت وكبرت الجماهير الحاضرة.
وأكمل أردوغان أن إسرائيل مجرد أداة في يد قوى أخرى، وشدد على أن "الجميع يعلم أن إسرائيل ليست سوى بيدق في المنطقة ستتم التضحية به عندما يحين الوقت".
توجه أردوغان أيضاً بالشكر للذين حضروا التجمع للتعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين، مشيراً إلى مشاركة نحو 1.5 مليون شخص في "تجمع فلسطين الكبير" الذي أقيم اليوم بمدينة إسطنبول.
الغضب والاعتذار في تجمع فلسطين الكبير
في الأساس، تعكس هذه المظاهرة أو التجمع حالة الاستنكار والغضب الشديدين اللذين يسودان المجتمع التركي تجاه الوضع الحالي في غزة، حيث تستمر إسرائيل في فرض حصار مفروض على القطاع منذ أكثر من 16 عاماً، ومنذ السابع من أكتوبر الجاري ترتكب مذابح فظيعة بحق الفلسطينيين.
المشاركون في الاحتجاج أرادوا تسليط الضوء على هذا الإجرام وإدانته بشدة. فقدموا رسالة قوية إلى الحكومة الإسرائيلية والدول التي تدعمها، مطالبين بوقف العدوان ورفع الحصار عن غزة.
وإلى جانب الغضب والاحتجاج، كان لدى المشاركين أيضاً دوافع شخصية للحضور. بعضهم شعر بأنهم مدينون بالاعتذار للفلسطينيين، خاصةً الذين يعيشون في غزة، حيث يواجهون معاناة يومية بسبب الحصار والقصف. بالنسبة لهؤلاء، كان الاحتجاج فرصة للتعبير عن اعتذارهم وتقديم الدعم المعنوي للأشقاء الفلسطينيين.
التقت الأفكار والأمنيات على ساحة مطار "أتاتورك الدولي" لترسم صورة جامعة للشعب التركي، صورة شعارها هو "فلسطين حرة". وبينما قاد الرئيس أردوغان تلك الجموع بكلماته القوية، أضيئت شموع الأمل في قلوب المشاركين الذين أحبوا أن يكونوا صوتاً للضعفاء والمظلومين.
لم يكن الهدف من هذا الاحتجاج الشديد مجرد إطلاق الغضب، بل كان يهدف إلى جعل العالم يسمع ويفهم الصرخة الحارقة للفلسطينيين، وأن العمل على تحقيق السلام والعدالة في الشرق الأوسط لن يثمر حتى ترضخ إسرائيل لصوت الإنسانية.
أكد تجمع فلسطين الكبير بوضوح أن القضية الفلسطينية لا تزال حية ومستمرة في قلوب الناس حول العالم، وأنها مسألة لا تتعلق بالأعراق أو الجنسيات، بل هي قضية إنسانية تستدعي التضامن والتحرك.
بالنهاية، مثلت هذه التظاهرة الضخمة في إسطنبول رمزاً للإرادة الشعبية والتضامن الإنساني، وتذكيراً قوياً بأن قضية الفلسطينيين لن تختفي وأن العالم لا يزال يشتاق إلى العدالة والسلام. وفي طياتها، دعوة للإنسانية للتفكير الجاد والعمل الدؤوب من أجل إنهاء الظلم وإحلال العدالة لشعب يقاسي ويلات الاحتلال والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.