توالت التقارير الصادرة عن هيئات اقتصادية ومالية ونقدية حول العالم بشأن مستقبل الاقتصاد المصري وقدرة الحكومة على سداد الديون، المقدرة بـ29 مليار دولار خلال العام المقبل، وسط مخاوف من إعلان الدولة إفلاسها في حال لم تتمكن من سدادها مع الصعوبات التي تواجه برنامج بيع الشركات والهيئات الحكومية وحالة "الجمود" التي تسيطر على الاتفاق الموقّع مع صندوق النقد الدولي.
وخفض البنك الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد المصري بمقدار 0.3 نقطة؛ ليصل إلى 3.7% خلال العام المالي الحالي. كما أصدرت وكالة التصنيف الائتماني "موديز"، قراراً بخفض التصنيف الائتماني السيادي لمصر بالعملات المحلية والأجنبية من درجة B3 إلى درجة Caa1 مع نظرة مستقبلية مستقرة، وحذّرت في الوقت ذاته من تراجع قدرة البلاد على تحمل الديون.
وكشفت شركة "فاينانشال تايمز فوتسي راسل"، والخاصة بمؤشرات الأسهم العالمية عن وضع مصر ضمن قوائم المراقبة، ما يعني احتمال خفض تصنيف البلاد في مجموعات مؤشرات الأسهم التابعة لها إلى سوق غير مصنفة، وتؤدي تلك الخطوة إلى حذف الأسهم المصرية من مؤشرات "فوتسي" للأسهم العالمية، التي يتابعها المستثمرون لتحديد وجهتهم، لعدم وفرة الدولار في البلاد، وعدم وجود حلول يمكن أن تساهم في توفيرها على المدى القريب.
مخاوف مستقبلية
يقول مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" إن المؤشرات السلبية تصعب مهمة الحكومة في إنجاح مسارات جذب العملة الأجنبية، وفي مقدمتها إنجاح برنامج الطروحات المرتبط ببيع الأصول الحكومية، لأن توالي تلك التقارير يبعث إشارات سلبية على أوضاع الاستثمار بوجه عام داخل مصر، وتمنح إشارات على أن الاقتصاد المصري يعاني أزمة مركبة من الممكن أن تستمر لفترات طويلة، وهو ما تتعامل معه الحكومة عبر تسريع إجراءات بيع الأصول وتعدد آليات جذب العملة الصعبة وتوفيرها بالبنوك المصرية.
وأضاف المصدر ذاته أن مصر تستهدف جمع نحو 5 مليارات دولار من برنامج الطروحات بحلول يونيو/حزيران المقبل.
وكشف أن هناك حالة قلق شديدة في كون التقديرات السلبية تساهم في تراجع قيمة الأصول، وقد تكون الحكومة مضطرة لبيعها بأسعار أقل من قيمتها العادلة، وأن كثيراً من المفاوضات التي جرت خلال الفترة الماضية مع جهات استثمارية خليجية ودولية كانت تتطرق إلى قيمة تلك الأصول، وهو ما تسبب في عرقلة جزء كبير من عمليات البيع، وتسبب في إبرام صفقات لبيع أجزاء من 5 أصول قومية من إجمالي 32 شركة وهيئة استهدفها برنامج الطروحات الحكومي، منذ أن أعلنت عنه الحكومة مطلع هذا العام.
وأكد أن الدولة المصرية ما زالت حتى الآن لديها القدرة على سداد ديونها، وإن كانت تقوم بذلك بصعوبة شديدة، لكنها تلتزم بها، وأن المخاوف المستقبلية تنبع من عدم تدفق موارد النقد الأجنبي من الخارج تحديداً من جانب صندوق النقد الدولي الذي لم يقدم بعد سوى الدفعة المبدئية من القرض الموقّع مطلع هذا العام.
وهناك دفعتان جرى تجميدهما بسبب تعطل مراجعة الصندوق للإجراءات المصرية، وعُد ذلك بمثابة جرس إنذار لهيئات التصنيف الائتماني الدولية، وكذلك للمستثمرين أيضاً بأن هناك مشكلات في السير على برنامج الإصلاح، وأن مصر تعاني أزمة سيولة دولارية.
الطريق صعب للغاية
ورفض المصدر ذاته التوقع بمدى قدرة مصر على توفير احتياجاتها من العملة الصعبة اللازمة لسداد الديون خلال العام المقبل من عدمه، لكنه شدد على أن الطريق صعباً للغاية، لافتاً إلى أنه في حال تعثرت الدولة، فإنها ستكون مضطرة لإعلان إفلاسها، وفي تلك الحالة ستواجه صعوبات أكبر على مستوى جذب الاستثمارات الأجنبية والاقتراض من الخارج واستيراد السلع، وبالتبعية بيع الأصول وتوفير العملة الصعبة، وستكون أمام أزمة أشد تعقيداً بحلول نهاية العام المقبل.
وكشف المصدر عن تنفيذ خطة حكومية عاجلة للتعامل مع معوقات توفير العملة، تتمثل في زيادة مصادر العملة الأجنبية من خلال توجيه دعم حكومي للصادرات المصرية بما يجعلها أكثر تنافسية في الأسواق الدولية، إلى جانب السير في طرق أسرع لجذب السياحة وافتتاح عدد من المواقع السياحية الجاذبة خلال مطلع العام المقبل، في مقدمتها المتحف المصري الكبير، وكذلك تسريع نشاطات المنطقة الاقتصادية بقناة السويس بما يساهم في جذب عوائد أكبر، وبالتالي فإن الخطة تعتمد على الإيرادات وليس البيع كما كانت تركز الحكومة في السابق.
وتحتاج الحكومة المصرية إلى سداد نحو 100 مليار دولار من الديون بالعملة الصعبة على مدى السنوات الخمس المقبلة، وتنفق الحكومة حالياً أكثر من 40% من إيراداتها على خدمة الدين، فيما تبلغ احتياجات التمويل للسنة المالية 2023- 2024 نحو 24 مليار دولار وفق بيانات رسمية.
ولدى مصر برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، لكن تطبيق البرنامج تعطل في ظل استمرار تأجيل مراجعة البرنامج من قبل الصندوق، والتي كان من المقرر إجراؤها في مارس الماضي.
ومؤخراً حذّرت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، الخميس الماضي، من أن الحكومة المصرية سوف "تستنزف" احتياطياتها الثمينة من النقد الأجنبي ما لم تخفض قيمة الجنيه مرة أخرى، مشيرة إلى أن "مصر تؤخر أمراً لا مفر منه عبر الامتناع عن القيام (خفض قيمة العملة) بذلك مرة أخرى، وكلما طال الانتظار، أصبح الأمر أسوأ".
الودائع الخليجية ليست مملوكة للحكومة
وقال خبير اقتصادي بوزارة المالية إن إصرار الحكومة المصرية على عدم خفض قيمة الجنيه يُعد أحد الأسباب التي تقود لخفض التصنيفات الائتمانية للاقتصاد المصري، وتحديداً الإشارة لصعوبات تواجهها في سداد الديون، لأن حماية الجنيه ودعمه يكون من الاحتياطي الأجنبي المتراجع بالأساس، والذي يعتمد في الجزء الأكبر منه على ودائع خليجية سيتم ردها ولا يمكن التعامل معها على أنها مملوكة للحكومة المصرية للتصرف بها، وأن الأشهر الماضية كانت شاهدة على أن تتكلف السلطات النقدية في مصر كثيراً من احتياطياتها بالعملة الصعبة.
وارتفع صافي الاحتياطيات الأجنبية لدى المركزي المصري، في سبتمبر/أيلول الماضي، مواصلاً زياداته الطفيفة منذ العام الماضي، في ظل أزمة شح العملات الأجنبية التي تعاني منها البلاد.
وبحسب بيانات المركزي، فإن الاحتياطي النقدي ارتفع إلى 34.970 مليار دولار، مقابل 34.928 مليار دولار في أغسطس، بزيادة حوالي 42 مليون دولار، لكنه سجل في نوفمبر من العام 2021 قيمة إجمالية بلغت 40 مليار دولار قبل تدخل دول الخليج لضخ ودائع مؤقتة.
وأوضح المصدر ذاته أن ما يثير قلق صندوق النقد الدولي ومنظمات التصنيف الائتماني أن شكاوى المستثمرين الأجانب من وجود صعوبات لتحويل أرباحهم إلى الخارج مع القيود المصرية التي تفرضها على حركة العملة الصعبة، بما يشير إلى أن أزمة العملة تأخذ في التفاقم، وبالتالي ليس هناك سبيل لحلها سوى تسريع حركة بيع الأصول وتعويم الجنيه لتخفيف الضغط على الاحتياطي النقدي.
لكنه في الوقت ذاته، شدد على أن تلك التصنيفات تُصعّب من مهمة الحكومة المصرية للوصول إلى أسواق الدين الخارجية لتوفير العملة الصعبة بشكل سريع، كما أنها تؤثر بشكل سلبي على دخول الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، وتعد بمثابة إشارة لصناديق الاستثمار على الخروج من البورصة المصرية التي من المتوقع أن تتعرض لخسائر كبيرة خلال الأيام المقبلة.
والأهم من ذلك – بحسب المصدر ذاته – أنها تفاقم من الصعوبات التي تواجه برنامج طروحات الشركات الحكومية، وقد يؤدي ذلك لتوقف البرنامج أو على أقصى تقدير عدم الاستفادة منه بالشكل الأمثل؛ نتيجة الانخفاض المتوقع في قيمة تلك الأصول.
ويُعد تصنيف "Caa1" لوكالة موديز ضمن درجة المضاربة، ويتم الحكم على الالتزامات والديون ذات التصنيف Caa1 بأنها ذات وضع ضعيف، وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية جداً.
يُعرّف معهد المحللين الماليين الأمريكي التصنيف الائتماني بأنه تصنيف تقاس من خلاله قدرة الدول أو الشركات على الحصول على قروض ومدى وفائها بسداد فوائد ديونها أو الأقساط المترتبة عليها ومدى احتمالية التخلف عن السداد.
الإنفاق على مشروعات قومية لم يحقق عوائد
وتواجه مصر أزمة اقتصادية وسط تضخم قياسي ونقص حاد في العملة الأجنبية، كما جعل ارتفاع الاقتراض على مدى السنوات الثماني الماضية سداد الديون الخارجية عبئاً مرهقاً بشكل متزايد.
ويلفت أحد خبراء التمويل، تحدث شريطة عدم الإفصاح باسمه، إلى أن عدم قدرة الحكومة توجيه أوجه الاستدانة من الخارج في مجالات صناعية تساهم في تطوير آليات الإنتاج المحلي، ومن ثم الحصول على عوائد دولارية جراء التصدير إلى الخارج وتزايده بشكل تلقائي، يعد سبباً رئيسياً في المعضلة الحالية، بعد أن تضاعف الإنفاق على مشروعات قومية أغلبها لم يحقق عوائد مباشرة، أو أنه لم يحقق عوائد من الأساس لأنها ترتبط بإنشاءات وبنايات وطرق وكباري، وبالتالي فإن إنفاق الدولة المصرية خلال السنوات الماضية لم يكن من خلال عائدات النمو الاقتصادي، ولكن بالأساس من التوسع في عملية الاقتراض.
ويضيف أن الحكومة فشلت خلال السنوات الماضية، بعد أن أقدمت على عملية التعويم الأولى للجنيه في العام 2016 وحتى هذه اللحظة، في أن توفر الأجواء الملائمة لنجاح الاستثمار الأجنبي داخل مصر، سواء كانت الاستثمارات المباشرة أو غير المباشرة، ولم يكن لديها من الحنكة التي تجعلها قادرة على توفير التمويل اللازم الذي يساهم في عمليات نمو حقيقية وليست شكلية، وبالتالي فإنها وقعت فريسة لأقساط الديون وفوائدها، وستكون أمام معضلة صعبة تحديداً خلال العامين المقبلين.
وتلتزم مصر بسداد 29.2 مليار دولار ديون وأقساط دين خارجية خلال العام المقبل، وسددت مصر 52 مليار دولار مستحقة عليها من ديون وأقساط دين خلال العامين الماليين الماضيين، منها 25.5 مليار دولار خلال الشهور الست الأولى من العام الجاري، وفقاً لتصريحات صحفية لوزير المالية محمد معيط.
زيادة فجوة التمويل الخارجي
ويؤكد المتحدث ذاته لـ"عربي بوست" أن ما تحقق في العامين الماضيين جرى في وقت كانت تحافظ فيه الدولة على قدر من تماسك العملة المحلية، إلا أن تلك الديون ساهمت في الضغط على الجنيه، ودفعت نحو تخفيض 50% من قيمته لكن ذلك ليس كافياً.
وأضاف أن حالات الارتباك الحالية بشأن اتخاذ خطوة تحرير سعر الصرف أو الانتظار لما بعد الانتخابات الرئاسية، أو حتى تتمكن الدولة من تحقيق احتياطي دولاري يمنع وجود سعرين للصرف، قد لا تكون في صالح الاقتصاد بشكل عام، وقد تجد الدولة نفسها أمام تصنيفات وتقارير أكثر قسوة تدفع لزيادة فجوة التمويل الخارجي.
وستكون مصر على موعد مع مراجعة جديدة لاقتصادها في 20 أكتوبر/تشرين الأول الجاري من وكالة ستاندرد آند بورز، التي ستنظر في تصنيف مصر الائتماني، وكذلك وكالة فيتش التي ستنظر في وضع مصر في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وفقاً لبيانات ريفنيتيف.
ويعول خبير التمويل على التاريخ لكي يكون داعماً لقدرة الحكومة على سداد ديونها الخارجية، مشيراً إلى أن الحكومة المصرية تمكنت من إدارة مستويات مرتفعة من الديون خلال فترات سابقة، وأن الإبقاء على نظرة مستقرة للاقتصاد المصري من جانب "موديز" يبرهن على أن طريق حصول القاهرة على قرض صندوق النقد ما زال ممهداً، وأن الدعم الخليجي لها لن يتوقف حتى وإن تراجع.
وتنتظر مصر ما سوف تسفر عنه الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي التي انطلقت الإثنين بالعاصمة المغربية مراكش، وتستمر حتى 15 أكتوبر، ويشارك في الاجتماعات وفد رفيع المستوى من مصر يضم محافظ البنك المركزي المصري ومحافظ مصر في صندوق النقد الدولي حسن عبد الله، ونائب محافظ مصر في صندوق النقد الدولي ووزير المالية محمد معيط، ومحافظ مصر بمجموعة البنك الدولي ووزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط.
ويأتي الحضور المصري في الاجتماعات، في الوقت الذي تشارك فيه مصر في برنامج تسهيل الصندوق الممدد (EFF) مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار حتى السنة المالية 2026/2025.
ولم تحصل مصر حتى الآن إلا على الشريحة الأولى من القرض بقيمة 347 مليون دولار، ولم يتم الانتهاء من أي من المراجعتين المقررتين، إحداهما في مارس والأخرى في سبتمبر/أيلول.
وكان تقرير لموقع مدى مصر أشار – نقلاً عن مصادر – إلى أن الأجهزة السيادية المصرية تخشى أن يتسبب ضعف الموقف الاقتصادي المصري في أن تطرح إسرائيل، بدعم أمريكي، مخطط إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء، وهي القضية التي رفضتها مصر مرارًا طوال العقدين الأخيرين، خصوصًا إذا ارتبط هذا الطرح بإغراءات من قبيل شطب جزء كبير من الديون المستحقة عليها، أو أي إغراءات اقتصادية أخرى.
وبحسب المصادر، يُخشى أن ترى الإدارة المصرية في هذا تكرارًا لنموذج حرب الخليج 1991، عندما وافق الرئيس الراحل حسني مبارك على التدخل العسكري مقابل إسقاط جزء كبير من الديون المستحقة على مصر، خصوصًا إذا ما انضمت دول الخليج إلى هذه المطالب ومارست ضغوطًا على مصر. الفارق هذه المرة أن هذا الطرح ترفضه الأجهزة السيادية والرأي العام المصري على السواء، بحسب المصادر.