فور اتخاذ سلطات الاحتلال قرارها بشنّ العدوان على غزة المسمى "السيوف الحديدية"، اتبعت سياسة لافتة تتعلق بإقامة أحزمة نارية واسعة في مربعات سكنية كبيرة على حدود قطاع غزة الشرقية، لتحقيق جملة أهداف عديدة، منها زيادة الكلفة البشرية، وضرب شبكة الأنفاق التي أعدّتها المقاومة لمواجهة أية عملية برية محتملة.
وليست المرة الأولى التي تنفذ فيها طائرات الاحتلال حزاماً نارياً كثيفاً لاستهداف منظومة الأنفاق بشقيها: الهجومية والدفاعية، فقد نفذ الاحتلال في حرب 2021 هجوماً سماه "مترو حماس"، الذي استهدف ضرب مئات الأنفاق المنتشرة على طول حدود قطاع غزة.
هل تستطيع إسرائيل استهداف أنفاق المقاومة؟
في هذه الحرب، تبدو الأحزمة النارية السمة الأكثر بروزاً بالتزامن مع إعلان الاحتلال أنه عازم على تنفيذ عملية برية، دون تحديد عمقها الجغرافي، لكن الواضح أن هناك قراراً إسرائيلياً بالتخلص من شبكة الأنفاق، مرة واحدة وللأبد، لأنها تعتبر العقبة أمام توغله في عمق القطاع، ويحتفظ المقاومون بها لأنها تعتبر مصائد جاهزة لجنود الاحتلال.
مع العلم أن الخطوة الإسرائيلية بتنفيذ الأحزمة النارية تتعلق بدحرجة الخطة حسب التطورات الميدانية، كي تخترق مناطق وأحياء وتجمعات مهمة داخل القطاع، وتصيب قدرات المقاومة في مقتل استراتيجي، حسب تقديره.
لكنه لا يضمن ذلك أمام تصدّي المقاومة المتوقع، خاصة أن أهم التكتيكات العسكرية لكتائب القسام في مواجهة هذه الحملة تمثلت في مواجهة الأنفاق، ما سيجعلها الحرب الأكثر صعوبة في تاريخ الاحتلال، لفشلها في مواجهة ظاهرة الأنفاق الأرضية المنتشرة على حدود القطاع وفي داخله.
ويخشى جيش الاحتلال أن تلعب الأنفاق الدور الأكثر محورية في استنزافه، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد العسكري، عبر العمليات الهجومية التي ستفاجئ وحدات النخبة في مختلف مناطق قطاع غزة "التفاح، الشجاعية، شرق خان يونس، رفح، وبيت حانون".
فضلاً عن عمليات التسلل خلف خطوط الاحتلال التي نفذتها المقاومة باقتدار كبير واحترافية عالية، من خلال أنفاق متوسطة المدى استهدفت مواقع عسكرية في المستوطنات والمناطق القريبة من غزة.
وتترقب أوساط الاحتلال في اللحظة التي يدخل فيها أول جندي إلى حدود غزة أن تبدأ عمليات المقاومة عبر الأنفاق، ما سيصيب المستويين السياسي والعسكري بما تسميها "هستيريا الأنفاق" التي باتت تشكل تهديداً استراتيجياً حقيقياً.
ولعل ما ضاعف هذه الهستيريا أن النفق الواحد جرى استخدامه أكثر من مرة من طرف المقاومة، وأن عدداً منها أعلن الجيش عن تدميره قام المقاومون بإعادة استخدامه مرة أخرى، ما أذهل قادة الاحتلال، وغرس فيهم القلق والإحباط بشكل غير مسبوق.
مدينة أخرى تحت غزة
تزعم المعلومات الإسرائيلية أن مقاتلي حماس يتجولون داخل أنفاق غزة، وهم يرتدون زياً أسود ومسلحين ببنادق آلية، يسيرون بسلاسة، ويشعرون كأنهم في بيوتهم، وهم داخل شبكة الممرات الواقعة تحت أرض القطاع، فهذه أنفاق حفروها وبنوها بأيديهم.
ويصل ارتفاع السقف في بعض أجزاء النفق الواحد بما يكفي لأن يشق المقاتلون طريقهم فيه دون أن يحنوا رؤوسهم، والأرض جافة في أجزاء، وموحلة في أجزاء، وأسمنتية في أخرى، ويبدو من الصعوبة معرفة طول كل نفق، لكنها تتفرع في اتجاهات مختلفة.
وبمجرد الدخول إلى النفق، لا تسمع أصوات حركة المرور والطائرات التي تحلّق، وهي تحوم فوق القطاع، ما قد يفسّر في هذه الحرب استخدام الاحتلال لقذائف صاروخية أكثر فتكاً وأشد تأثيراً.
مصدر في المقاومة أكد لـ"عربي بوست" أن "تكثيف الاحتلال لظاهرة الأحزمة النارية في المواجهة الحالية ربما لأنه يعلم أن الأنفاق تشكل أحد أهم وأخطر الأساليب العسكرية التي سوف تستخدمها المقاومة في مواجهة أية عملية برية وشيكة.
وأضاف المصدر نفسه أن الأنفاق تُمثل تهديداً بالغاً وتحدياً منقطع النظير للآلة العسكرية الإسرائيلية المدججة بكافة آليات الحرب الفتاكة، ما يدلّل على حجم المأزق الذي تعيشه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في هذه المواجهة.
فضلاً عن ذلك، تتحدث المحافل العسكرية الإسرائيلية أن خطورة الأنفاق في غزة وعلى حدودها تكمن في ابتعادها عن ظروف وإجراءات المواجهة التقليدية، واعتمادها على مفاجأة الاحتلال بضربة عنيفة قاتلة، لا تدع له فرصة للنجاة والإفلات، أو تتيح له إمكانية المواجهة والتصدي والردّ بالمثل.
واعتمدت المقاومة على العمل الهادئ الذي يتم بموجبه حفر نفق أو أنفاق تحت الأرض، بوسائل ومعدات بسيطة، والمثابرة على العمل دون ضجيج، وفق إحداثيّات جغرافية معدة سلفاً، دون أي ظهور مباشر على سطح الأرض، ما حرم الاحتلال من إمكانية التعامل المسبق مع هذا التهديد، وإحباطه، أو التصدي له حال التنفيذ، كونه يعتمد على عامل المفاجأة.
اليوم، وفي ظل التحضر الإسرائيلي للعملية البرية، كما كشفت كل التصريحات والاستعدادات الميدانية، فمن المتوقع أن تكثف المقاومة من عملياتها عبر أنفاقها، ما دفع القيادات الإسرائيلية لوصفها بـ"أنبوب الأكسجين للنشاطات المعادية".
ولا تزال حماس تحتفظ بالعديد من الأنفاق، ويمكنها التوغل عبرها داخل فلسطين المحتلة، وعدد قليل من مهندسيها مطلعون على الخرائط السرية لهذه الأنفاق، ما يجعلها تشكل نقطة القوّة الأساسيّة للمقاومة أمام جيش الاحتلال، رغم استعداده المسبق لها، وإعلانه أنّ استهدافها أحد مهام الحرب على غزة.
ومن داخل غزة يشعر المرء بأن طائرات الاحتلال تستخدم للمرة الأولى صواريخ وقذائف غير مسبوقة تسعى للوصول الى أقصى درجة من العمق في جوف الأرض، بزعم أن المقاومة أعدت منظومة واسعة من الأنفاق عبر طرق أرضيّة بعمق 5-20 متراً تسمح بالتحرّك بساحة المعركة دون كشف المقاتلين، جوانبها مغطاة بالباطون، وتحتوي على وسائل متقدمة للاتصالات، ومزودة بكاميرات متقدمة، ولكل نفق قبوه المركزي الذي يدخل منه الحفّارون، ثم يتفرع لأقبية أخرى في أجواء محكمة من السرية.
ولا يخفي جيش الاحتلال دهشته من تطور الأنفاق لدى حماس، واستخدام الباطون المسلح في إنشائها حتى لا تنهار، مجهّزة بالكهرباء، وبها كميات كافية من الشطائر، وتجهيزات لإبقاء ساكنيها عدة أشهر على قيد الحياة، ما يجعلها أنفاقاً متقدمة ومعقدة، هدفها مفاجأة الاحتلال، وتوجيه ضربة قاتلة لا تسمح بفرصة النجاة، أو الهرب، أو السماح بالمواجهة، والدفاع عن نفسه.
السيناريوهات المتوقعة
ويخشى جيش الاحتلال من أن توظّف كتائب القسام هذه الأنفاق الممتدة من غزة لما وراء الحدود الإسرائيلية في عدد من السيناريوهات المتوقعة، أهمها التسلل خلف خطوط الجيش أثناء توغله في القطاع، والهجوم على مؤخرة القوات الغازية، واستخدام الأنفاق في تسهيل عمليات خطف الجنود، والخشية أن تنطلق عناصر القسام عبر الأنفاق لتنفيذ عمليات في قلب التجمعات الاستيطانية، مع تواصل العمليات العسكرية في القطاع.
صحيح أنّ جيش الاحتلال يدّعي أنه دمّر عدداً منها، لكن القسام كما يبدو تعوّل على الأنفاق الاستراتيجية، ذات الجهوزية اللوجستيّة الكاملة، من حيث مخزون الماء والأغذية والأسلحة، ومزوّدة بنظام للتهوية وبخطوط للكهرباء.
ولذلك فإن ما تمثله الأنفاق من نقطة قوة لمقاتلي حماس تبرز إذا اقتحم الجيش قلب غزة؛ لأنها منتشرة تحت كل شارع وزقاق فيها، ما يضيف أوراق قوة جديدة لكتائب القسام، وتعميقاً للأزمة العسكرية للجيش، وخلقاً لمشكلات أمنية لا حصر لها أمامه، وفي هذه الحالة ستصبح الأنفاق مشكلته المركزية.
وأدخلت أنفاق غزة عبارة "العنكبوت المتفرع الأذرع"، إلى قاموس الجيش الإسرائيلي، بعد أن فوجئ في حروب سابقة بضخامتها وكثرتها، واضطر للعمل عشرات الساعات المتواصلة حتى وصل إلى فتحات ضخمة.
وباتت الأنفاق مثل شجرة كثيرة الغصون، تتفرع على امتداد كيلومترات طويلة، بعضها حربية داخلية، وأخرى هجومية باتجاه إسرائيل، وباتت قناعتها بأن مشكلتها مع الأنفاق لم تنبع فقط من الفجوة الاستخبارية، بل من حقيقة عدم تطوير ردّ تكنولوجي كامل لكشفها، ونقص نظريات محاربة الفجوات الجوفية، وبالتالي عدم امتلاك الجيش حلاًّ سحرياً لمواجهتها، ولا أدوات أو حلولاً تكنولوجية أو عملياتية لإزالة هذا الخطر كليّاً.
عمليات الإنزال
إن أكثر ما يقلق جيش الاحتلال إمكانية تمكّن مسلحي حماس من خطف جنود عبر الأنفاق، أو تنفيذ عملية خلف خطوط القوات العاملة في القطاع عبرها، والقيام بإنزال كبير داخل الكيبوتسات والمستوطنات القريبة من غزة، في ضوء قلة المعلومات عن أماكن وجود الأنفاق، وخطوط سيرها، وتفرعاتها تحت الأرض.
ورغم أن بعض هذه الأنفاق يصل عمقه مسافات كبيرة، والجيش لا يعلم عنها شيئاً بسبب السرّية المحيطة بها، وهناك قلق لدى جيش الاحتلال من الكمائن التي أعدتها المقاومة، ما سيجعل قواته تتقدم بحذر شديد، فلكل نفق هدف ومخرج محدد وراء الحدود مع غزّة، ما يمكّن المقاومة من تنفيذ طلعات عدة خلف خطوط الجيش، لتكبيده خسائر في جنوده، ما سيدفعه لإرسال "روبوت" لكشف ما يحدث تحت الأرض.
ويتوقع أن تشكل الأنفاق إحدى مفاجآت حماس في العدوان الجاري لخلط كل الأوراق أمام الاحتلال، بحيث قد يؤدي ظهور المقاتلين من تحت الأرض ومهاجمتهم للجنود مفاجأة، لها وقعها النفسي والمعنوي، بمثل أثرها العسكري.
كل هذا يعني أن الجيش الإسرائيلي لم يذهب للحرب البرية، لكن الحرب جاءته، ومثّل هذا التحول ما غاب عن ذهن وتنبؤات الاستخبارات الإسرائيلية، التي عاشت حالة إنكار ومحاولة الإصرار على الشعور بالتفوق.
وحتى اليوم، ورغم كل المعلومات الاستخبارية المتعددة المصادر: البشرية والتقنية والتجسسية، فلا يعرف الاحتلال بدقّة عدد الأنفاق في القطاع، لأنها تبدو مدينة متكاملة تحت الأرض، لا أحد يعرف أين تبدأ ولا أين تنتهي.
ما جعل من تدميرها هدفاً وضعه معظم قادة الاحتلال نصب أعينهم، من خلال شنّ الجيش لغارات جوية غير مسبوقة في غزة، على أمل أن تدمر أنفاقاً تحتها، مع أن جيش الاحتلال يأخذ بعين الاعتبار أن تقوم حماس بتفخيخ الأنفاق بالمواد الناسفة، وتعمل على تفجيرها أثناء تحرك قوات الجيش فوقها، أو قربها.
صحيح أن جيش الاحتلال يتفوق على المقاومة: جوّاً وبرّاً وبحراً، لكنها اختارت باطن الأرض ساحة تضمن فيها تفوقها النسبي، أمام عدم امتلاكها أسلحة طيران ولا بحرية ولا مشاة، ولا كتائب مدرعة، وقد حاولت إيجاد ساحة مواجهة تتحكم في ظروفها، رغم أن وحدة الهندسة الميدانية في الجيش أجرت مناورات للتدريب على تدمير الأنفاق، وأقامت معسكرات تدريب بقاعدة "تسآليم" في النقب، لأنها تقترب من التفوق على أنفاق "الفيتكونغ" خلال حرب فيتنام.
كما عنونت الصحافة الإسرائيلية خبرها الرئيس بعبارة "الجيش الإسرائيلي يتحسس طريقه في الظلام"! على اعتبار أن الأنفاق شكلت مشكلته الأولى، لأنه لا يعرف عددها، ما يعني "خسارة الاحتلال في صراع الأدمغة أمام حماس"، لأنه سلاح "يخرق التوازن"، وقد يخرجه عن أطواره واتزانه، لكن هذا الأمر لم يقد، لسبب غير معروف، إلى "خياطة البدلة" الملائمة لمواجهة تهديد الأنفاق.
أنفاق فيتنام
أذهل مستوى التطور النوعي الذي بلغته الأنفاق الإسرائيليين، وأعجزهم عن القيام بعمل فاعل مثمر حقيقي في مواجهته، ما يشكل رافعة مهمة، بالغة الأثر والجدوى، وبات الجيش مستعداً لبذل أي جهد من أجل التغلب على "العدو" الموجود تحت الأرض.
لكن الاحتلال، وبعد كل هذه الجهود، جاءت إجابته أننا مضطرون للاعتراف بأنه لا يوجد لدى الجيش حل سحري لمشكلة الأنفاق! خاصة بعد الإقرار بأن حفرها يستغرق عدة أشهر، ثم يزوده المقاومون بأطنان من المواد المتفجرة، ما يعني فشل أسلوب خراطيم المياه لتدميرها.
كل ذلك يعني أن حرب الأنفاق في غزة ستشكل عنوان المواجهة الحالية، ما يرى فيه الجيش تقدماً ملموساً في إنجازات ومكاسب حماس، ومحاولة جادة لتعديل موازين القوى المختلة لصالح الاحتلال وآلته العسكرية، مستشهداً بالفشل الذي منيت به القوات الأمريكية في فيتنام لمواجهة تحدي الأنفاق الذي استخدمه محاربو "الفايتكونغ" جنوبي فيتنام، ما يؤكد أن أنفاق غزة إبداع عسكري تاريخي سيوثق، ليس في تاريخ الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية فحسب، بل على نحو أوسع منها.