بعد مرور أربع وعشرين ساعة على عملية طوفان الأقصى التي نفذها المئات من مقاتلي النخبة في حركة حماس، ما زالت المحافل العسكرية والأمنية الإسرائيلية تعيش تبعات الكارثة الاستخباراتية والعملياتية التي نجح بموجبها المقاتلون الفلسطينيون في اختراق الحدود، والوصول إلى قلب دولة الاحتلال.
نتيجة أخرى يعيشها الإسرائيليون في الساعات الحالية تتعلق بحالة الإرباك السياسي والحزبي التي تشهد تبادل الاتهامات بين المستويين، السياسي والعسكري، والائتلاف والمعارضة، تصديقاً لمقولة إن "الفشل ليس له أب"..
أزمة بين الوزراء
آخر مشاهد هذا الجدل والسجال السياسي الذي تشهده إسرائيل، هو ما ظهر خلال جلسة مجلس الوزراء قبل ساعات والتي انعقدت خصوصاً لمناقشة أصداء الهجوم الفلسطيني.
وانتقد عدد من الوزراء غياب قائد جيش الاحتلال الجنرال هآرتسي هاليفي، ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الجنرال أهارون حاليفا، وأصدر عدد من الوزراء اتهامات قاسية بحقهما، مطالبين بضرورة معرفة حيثيات وأسباب هذا الفشل.
وزير التعليم أوفير أكونيس، من حزب الليكود، اعتبر أن "تغيب الجنرالين يعني تهربهما من الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بعدم وجود معلومات استخباراتية عن الهجوم الذي خططت له حماس".
فيما أعلن وزير الصحة موشيه أربيل، أن "جميع خطوط المساعدة الصحية والنفسية قد انهارت، بسبب كثرة المتصلين عليها من الإسرائيليين من ذوي القتلى والجرحى والمفقودين".
فيما اشتكت وزيرة الإعلام غاليت ديستال أتابريان، أمام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، من أنها غير قادرة على تقديم إجابة أمام سيل الأسئلة التي توجَّه إليها، لأنها لا تعرف ما تُعممه على وسائل الإعلام، في ضوء قيود الرقابة العسكرية.
أما على صعيد المعارضة، فقد تم إصدار بيان مشترك من طرف زعيم المعارضة يائير لابيد، ورئيس معسكر الدولة بيني غانتس، ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، ورئيسة حزب العمل ميراف ميخائيلي.
وجاء في البيان أنهم "متَّحدون في مواجهة حماس، وعلينا ضربها بيدٍ قوية وحازمة، لأنه لا توجد معارضة أو ائتلاف في هذه اللحظات، أما بالنسبة لنتنياهو فإنّه فشل بشكل ذريع ومخجل".
تبادل الاتهامات
غريبٌ هذا السلوك السياسي الإسرائيلي الذي بدأ فور شروع حماس في هجومها العسكري على مستوطنات غلاف غزة، وقبل انتهاء أول أربع وعشرين ساعة على ما اعتبرته إسرائيل انتكاسة عسكرية وفشل أمني.
وبدأ مسلسل تبادل الاتهامات بين الساسة والعسكر حول القصور في التعامل مع هذا الهجوم، بل عدم التنبؤ به، والافتقار إلى أي معلومات تتعلق بتحضيرات حماس بشأنه؛ مما دفع إلى صدور دعوات إسرائيلية للمطالبة بتشكيل لجان تحقيق واستماع واستجواب فور أن تضع الحرب أوزارها.
اللافت أن عملية طوفان الأقصى، فضلاً عما كشفته من ثغرات استخباراتية وسقطات عملياتية مكّنت حماس من إرسال مقاتليها في وضح النهار إلى العمق الإسرائيلي، فإنها في الوقت ذاته كشفت عن وجود خلافات كبيرة داخل الحلبة السياسية والحزبية، سواء بين الحكومة والمعارضة، أو داخل كل منهما على حدة.
وبلغت الخلافات إلى حد التوتر والهجوم والسجال من الوزراء وعليهم، وهذا السجال لم يقتصر على أقطاب المستوى السياسي فحسب، بل امتد إلى تبادل الاتهامات بين الجيش والحكومة حول أسباب الفشل في كشف حجم الأنفاق في غزة.
وبات في حكم المؤكد أنه بعد انتهاء العدوان المرتقب على غزة، لن يكون هناك مفرّ من تشكيل لجنة تحقيق بشأن إخفاق الجيش، وعدم قدرته على كشف العملية قبل وقوعها.
وتدل كل المؤشرات على أنه ستقام لجنة تحقيق داخلية بمشاركة برلمانية حول فشل الجيش في تقدير ما وقع فعلاً، عقب ورود مزيد من الانتقادات اللاذعة الموجهة إلى الجيش وعجزه عن حسم المعركة، وإعادة الهدوء للجنوب، فضلاً عن ازدياد خسائره، وفشله في وقف تقدم المقاتلين، بجانب الثمن الباهظ الذي تكبدته تل أبيب أمام حلفائها وأعدائها في آن واحد معاً.
وبلغ التوتر الشديد بين المستويين السياسي والعسكري ذروته في التقدير الاستخباراتي الذي وصل إلى الحكومة بشأن عدم رغبة حماس في خوض مواجهات عسكرية، وأنها تفضل استمرار تحسين الأوضاع المعيشية في غزة.
كما أن عدم خوض حماس للجولات القتالية الأخيرة مع حركة الجهاد الإسلامي، جعل الحركة ترسل رسائل "تضليلية" للاحتلال، الذي لم يتردد في الاعتراف بأنه أصيب بالخديعة.
ولقد شهدت الساعات الأخيرة تساؤلات وتصريحات وتغريدات محرجة لكبار المسئولين والخبراء الإسرائيليين على المستوى العسكري، ومنها: كيف فشل الجيش في توقع هجوم حماس؟ وكيف سمح بأن تظهر الدولة عارية أمام مواطنيها، ضعيفة مضطرة إلى القتال بمناطق واسعة في عمقها، ودون أن تستعد له؟
بل إن الانتقادات وصلت إلى حدّ الحديث عما سمي "مواضع خلل مقلقة في الجيش"، من حيث أسلوب إدارة المعركة، وإخفاق الاستخبارات في اكتشاف منظومة القيادة والتحكم لدى حماس.
انتقادات الداخل
إسرائيليون كثر أكدوا أنهم يطّلعون على آخر التطورات بشأن الهجوم الجاري على المستوطنات من بيانات حماس، وليس من الناطق العسكري، لأنّه لا يعرف ماذا يحصل أصلاً، متهمين المستوى السياسي بعدم وضعهم في صورة الموقف، مما يؤكد أن نتنياهو يفكّر، قبل اتخاذ أي قرار، في صورته، ووضعه في اليوم التالي لوقف الحرب المقبلة على غزة، وما الذي يعرّض أكثر مكانته للخطر: مواصلة الحرب أو وقفها.
وفي حال استمر ارتفاع عدد القتلى من الجنود، سيذكر نتنياهو جيداً ما حصل لرئيس الحكومة الأسبق "مناحيم بيغين"، الذي اضطر إلى الاستقالة مع ارتفاع عدد القتلى الجنود في حرب لبنان عام 1982.
أما إذا أوقف نتنياهو الحرب فسيضطر إلى مواجهة خيبة الأمل، والانتقادات من الداخل، وكما يقول بعض وزرائه، فإن حياته لن تكون سهلة، مما يؤكد أن التنسيق بين القيادتين السياسية والعسكرية هذه المرة ليس مقبولاً.
وما زالت تُسمع دعوات إلى التحقيق، ومن المتوقع أن تعلن العديد من الجهات بالدولة إعلانات للشروع في ذلك مثل مراقب الدولة ولجنة الخارجية والأمن بالكنيست.
ولقد أكد الهجوم الذي نفذته حماس، وتبعاته المرتقبة في غزة، أن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يعاني من مشاكل جدية، وأن طاقم اتخاذ القرارات السياسية والأمنية في حالة تفكك.
ولذلك سيحرص نتنياهو وغالانت على عقد مؤتمراتهما الصحفية أولاً بأول، رغم تخوفهما من الوزراء الذين يثرثرون دون توقف، ويوزعون الخطط والنصائح في كل الاتجاهات، لاسيما إيتمار بن غفير وبيتسلئيل سموتريتش.
وسادت في الساعات الأخيرة تقديرات إسرائيلية بأن هجوم حماس سيؤدي إلى إسقاط الائتلاف الحاكم، والدعوة إلى تشكيل تحالف أوسع، من خلال ضمّ خصوم نتنياهو الحاليين إليه، خاصةً يائير لابيد زعيم المعارضة، ورئيس المعسكر القومي بيني غانتس.
وأبدى لابيد وغانتس موافقتهما المبدئية على الدخول في هذا الائتلاف تكراراً لما حصل عام 1967 حين دخل زعيم المعارضة حينها مناحيم بيغن إلى الحكومة التي ترأسها ليفي أشكول، ولذلك فإن المتوقع أن يبذل نتنياهو جهوداً حثيثة لإنجاح توسيع الحكومة، وإلا فإنه سيشعر بـ"وجع رأس" كبير.
ويزداد احتمال تحقيق هذا الخيار مع تزايد تعرض نتنياهو وحكومته لانتقادات على لسان وزراء وأعضاء كنيست ممن يرون أنه لا توجد استراتيجية واضحة للحرب، مما سيجعله يشعر بضغط داخلي، قد يفقده السيطرة على وزرائه، ويخشى خسائر سياسية وشخصية بعد انتهاء العدوان على غزة، وبات قلقاً من ظهور الدولة ضعيفة ومتعبة في نهاية الحرب، مما يعني احتمال خسارته الحكم.
لم تقتصر الانتقادات الموجهة إلى الحكومة ورئيسها على زعماء المعارضة، بل إن وزراء بارزين انتقدوه علانية على ما وصفوه "تأتأته" في اتخاذ قرار حاسم بمهاجمة حماس، لاسيما حاييم كاتس وزير السياحة، الذي صرخ في اجتماع الحكومة، قائلاً: "لا نحتاج معلومات ولا (أحذية)، نحن بحاجة لتوجيه ضربة لم نشهدها منذ 50 عاماً، وتدمير غزة، وإلا فلن تكون لنا نهضة".
تراجع الشعبية
يتخوف الائتلاف الحكومي من النتائج السياسية السلبية لهجوم غزة بالنسبة لتراجع شعبيته، وما تركه من انطباع سيئ لدى الإسرائيليين الذين راقبوا التكلفة الباهظة لما قامت به حماس في العمق وسط عجز مطبق من الجيش والحكومة.
بل إن بعض الأصوات الإسرائيلية اعتبرت هذه العملية بداية السقوط لنتنياهو، مما يرجح أن تؤدي إلى توسيع تصدعات قائمة أصلاً بين مكونات الائتلاف الحاكم، ويخشى الخروج منها شبه خاسر، لأنه وقع ضحية عنجهيته التي أعاقته، وأفضت به إلى إخفاقات متكررة، حيث شهدت الأوساط الإسرائيلية جدلاً واسعاً بشأن إدارة التعامل مع هذا الهجوم، وعدم الاستعداد له من قبل الطبقتين السياسية والعسكرية.
ولذلك فإن ما سيزيد من ثقل المواجهة الدائرة على "نتنياهو" هو استطلاعات الرأي، وكلما اقترب من اتخاذ أي قرار توجهت أنظاره نحو الرأي العام، صاحب المزاج المتقلب، ومن شأنه أن يصيبه بجراح سياسية قاتلة، بالتزامن مع هجوم لاذع شنّه الإسرائيليون، على خلفية الارتباك في إدارة المواجهة الجارية، في ظل تردي الأوضاع الأمنية لمستوطني غلاف غزة، مما جعل الجمهور يشعر بالارتباك إزاء مواقف الحكومة وأهدافها، والانطباع بأنها لا تعرف مآل سياساتها.