حمل قرار وزير التموين المصري علي المصيلحي بإلغاء صرف الأرز في مصر ضمن الحصة التموينية الشهرية أبعاداً عديدة، كونه لم يُبقِ بشكل فعلي سوى على الزيت والسكر والخبز ضمن منظومة التموين التي تأخذ في التحول تدريجياً إلى الدعم النقدي بدلاً من العيني، ما يفاقم من الصعوبات التي تواجهها طبقات فقيرة ومعدمة تنتظر حصة التموين الشهرية لكي تتمكن من توفير قوت يومها.
وبرر الوزير المصري قراره بأن ما يحصل عليه الفرد من دعم يصل فقط إلى 50 جنيهاً (1.5 دولار)، لا يكفي سوى لشراء الزيت والسكر، وأنه لا مكان لصرف الأرز في مصر وفقاً لهذا المبلغ، وهو ما يدفع ترك سعر الأرز حراً دون تدخل من جانب الحكومة لدعمه.
هدف الحكومة التصدير للخارج
وكشف مصدر مطلع بوزارة التموين المصرية لـ "عربي بوست"، أن قرار المصيلحي كان يتم التمهيد له منذ فترة ضمن سياسة حكومية تستهدف تخفيف الضغط على السلع الاستراتيجية المدعمة، ومنح المواطنين المسجلين على بطاقات التموين -بعد أن جرى تقليص أعدادهم بصورة كبيرة- مبلغ مالي شهري يصل إلى 50 جنيهاً للفرد الواحد، دون أن تتكلف مسؤولية توفير الزيت والسكر والأرز والخبز وغيرها من السلع التي ما زالت موجودة على بطاقات التموين ولكن لا يتم صرفها.
وأوضح المصدر ذاته أن قرار إلغاء صرف الأرز في مصر يوفر للحكومة ما يقرب من 600 ألف طن إضافية من الأرز المحلي الذي تسعى لتصديره إلى الخارج، وأن خطط وزارة الزراعة تقوم على توسيع مساحات زراعة الأرز عالي الجودة بدلاً من استهلاك مياه في محصول يتم بيعه بسعر مخفض محلياً، وأن زيادة تكلفة زراعة محصول الأرز مع ندرة المياه والتكاليف الباهظة التي تتكلفها الحكومة لتحلية المياه يجعل الاتجاه نحو التصدير مقدماً على أي أهداف أخرى لتوفير العملة الصعبة.
وتوقعت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" ارتفاع إجمالي إنتاج الأرز في مصر إلى 3.9 مليون طن في موسم عام 2023/ 2024 مقابل 3.7 مليون طن تم تقديرها في موسم عام 2022/ 2023.
ووفقاً لبيانات رسمية من وزارة الري، تبلغ حجم مساحة الأرض المنزرعة بالأرز في مصر هذا العام 1.6 مليون فدان، وهي ضعف حجم المساحة المزروعة العام الماضي، وتكفي هذه المساحة لتحقيق اكتفاء ذاتي من المحصول.
تقليص فاتورة الدعم بعد الانتخابات
ويشير المصدر ذاته إلى خطوة وقف صرف الأرز في مصر على البطاقات التموينية من المتوقع أن يعقبها قرار آخر بتقليص حصة المواطنين اليومية من الخبز في مقابل حصولهم على الدقيق بسعر مدعم، وأن القرار الأخير الذي اتخذته وزارة التموين بصرف الدقيق المدعم للمواطنين اختيارياً يمهد لتلك الخطوة التي قد تأتي في أعقاب انتخابات الرئاسة.
ولفت إلى أن فاتورة الدعم الحكومي ستأخذ في مزيد من التقلص مع بداية العام الجديد، وذلك استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي، في حين من المقرر أن تتوسع الحكومة في صرف إعانات "تكافل وكرامة" للمواطنين المعدمين والذين ليس لديهم أي سبل للدخل، مع تجريد المواطنين ممن كانوا يصنفون على أنهم من الطبقة الوسطى من امتيازات الدعم المقدمة.
وقبل شهرين تقريباً، خفضت وزارة التموين المصرية المخصصات الشهرية لعدة سلع يتم صرفها على البطاقات التموينية، وقلصت كمية السكر المدعوم إلى النصف من كيلوغرامين اثنين شهرياً إلى كيلوغرام واحد للفرد، أو 6 كيلوغرامات بحد أقصى لأربعة أشخاص على ذات البطاقة، أما بالنسبة للأرز فيصل إلى كيلوغرامين للبطاقة التي يتعدى عدد أفرادها ثلاثة أفراد، وكيلوغرام واحد للبطاقة التي يقل عدد أفرادها عن ذلك.
ورفعت الحكومة المصرية سعر السكر المدعوم على البطاقة من 10.5 جنيه إلى 12.6 جنيه، بنسبة 20% أبقت الوزارة على كمية زيت الطهي المدعوم بوزن 0.8 كيلوغرام، مع رفع سعرها من 25 جنيهاً إلى 30 جنيهاً، وبنسبة 20%.
الحكومة تعدت الخطوط الحمراء
وقال مسؤول سابق بوزارة التموين المصرية لـ "عربي بوست"، إن الأرز في مصر يشكّل سلعة استراتيجية مهمة لغالبية الأسر الفقيرة، ويشكل بديلاً لا غنى عنه في حال شعر هؤلاء بالرغبة في تغيير وجباتهم الرئيسية، وبالتالي فإن إلغاء صرفه على السلع التموينية بمثابة مساس مباشر بالخطوط الحمراء الخاصة بالدعم، وسيكون لدى القرار عوامل سلبية عديدة ويزيد من حالة التململ لدى قطاعات تئن يومياً من ارتفاعات الأسعار مع زيادة معدلات التضخم.
وأضاف أن الحكومة لم تقنع المواطنين بأسباب قرارها، وساقت مبرراً لا يمكن الاقتناع به؛ لأن غالبية الأسر مكونة من 4 أفراد أو ثلاثة، وبالتالي تصل قيمة الدعم الذي يحصلون عليه إلى 150 جنيهاً أو 200 جنيه، وهو مبلغ يكفي لشراء الزيت والسكر والأرز وبأكثر من كيلوغرام للسلعة الواحدة، لافتاً إلى أن القرار لم يخضع لأي نقاشات داخل البرلمان، وليس من المنطقي إدخال تعديل بإلغاء سلعة استراتيجية لا غنى عنها من منظومة الدعم دون أن يتم إعلام البرلمان أولاً ولو من الناحية الشكلية.
وشدد على أن المواطنين البسطاء قد لا يتمكنون من شراء الأرز في مصر بسعر حر يتراوح ما بين 25 إلى 30 جنيهاً ومن المتوقع أن يأخذ السعر في الزيادة على نحو أكبر مع ارتفاع أسعاره العالمية، وبدلاً من أن توفر الحكومة الحماية لأكثر من 60 مليون مواطن مستحقين للدعم تضعهم أمام موجات التضخم غير المسبوقة، وأن تدخل وزارة التموين لدعم الأرز كان يسهم في تخفيض أسعاره بالسوق الحر، والآن سيكون الضغط على شرائه أكبر، ومن ثم سترتفع أسعاره على نحو أكثر.
صدمة للمواطنين
وتوقعت شعبة الأرز باتحاد الصناعات المصرية أن يصل إنتاج أرز الشعير إلى نحو 7.5 مليون طن، وهو ما يعني إنتاج أكثر من 4.2 مليون طن أرز أبيض، في حين تراجع الاستهلاك من 3.6 مليون طن سنوياً إلى نحو 3.2 مليون طن، بسبب ارتفاع الأسعار، وهو ما قد يوفر فائضاً فوق حاجة الاستهلاك المحلي بنحو مليون طن من المتوقع تصديرها إلى الخارج.
وتلقى محمود سعيد، وهو عامل مصري لديه ثلاثة أبناء، خبر وزارة التموين بحالة من الصدمة، مشيراً إلى أنه كان يحصل على كيلوغرامين من الأرز شهرياً تكفيه وأسرته طوال الشهر، لافتاً إلى أن الأرز في مصر يبقى أكثر أهمية من السكر مثلاً، لأنه وجبة غذائية لا غنى عنها، مشيراً إلى أنه كان يتجه لتقسيم ما يحصل عليه من كميات تموينية على أربع وجبات مختلفة، وفي كثير من الأحيان كانت وجبة "المحشي" ذات الكميات القليلة من الأرز هي من تسد جوع أسرته.
وتابع: "إنه ليس لديه دخل سوى عمله بإحدى شركات النظافة ولا يتخطى راتبه حاجز 1500 جنيه، ودائماً ما كان يعتمد على السلع التموينية بشكل رئيسي، وبعد أن كان بإمكانه شراء زيت الذرة الفاخر وكذلك مساحيق الغسيل التي جرى إضافتها وكذلك المكرونة، الآن لا يتمكن سوى من شراء زيت التموين الذي يضاهي سعره ما يتم عرضه بجودة أفضل في الأسواق، إلى جانب السكر والعيش".
وتصرف مصر عدة سلع أساسية للمواطنين شهرياً من خلال بطاقات دعم تعرف باسم "بطاقة التموين"، تتضمن أصنافاً من 27 سلعة تموينية متاحة لدى محلات مخصصة لذلك، ويبلغ مخصص دعم السلع التموينية ورغيف الخبز بموازنة السنة المالية الحالية 2023/2024 مبلغ 127.7 مليار جنيه (4.1 مليار دولار)، وفقاً للبيان المالي للموازنة.
أرز الفقراء درجة ثالثة
لكن بحسب عمرو محسن، وهو موظف مصري بإحدى شركات قطاع الأعمال (حكومية)، فإن إلغاء الأرز في مصر من عدمه لن يترك فارقاً كبيراً لأنه بالأساس لا يتوفر سوى في بعض محال التموين المنتشرة في العاصمة القاهرة ولا يصل إلى باقي المحافظات، إلا في حالات نادرة، وفي إحدى المرات قام بشراء كيلوغرام من الأرز لكن اضطر لإلقائه في القمامة، بسبب سوء جودته وانتشار "السوس" بداخله.
ويضيف أن الأزمة تتمثل في كون الحكومة لا تولي اهتماماً بما تقدمه للمواطنين من سلع تموينية، وترى أنها تقدم منحةً إليهم لا يستحقونها، في حين أنها ما زالت تشكل وعاءً رئيسياً لاحتياجات المنزل بالنسبة لملايين الأسر الفقيرة، وفي الأغلب يتم توزيع استهلاك حصة التموين بالتساوي على أيام وأسابيع الشهر.
وتقدم وزارة التموين أرزاً درجة ثالثة وتزيد نسبة الكسر فيه عن 15%، وهو ما يطلق عليه أرز الفقراء ويتم بيعه بالسعر الحر بـ"20 جنيهاً"، وهو ما دفع عدداً من النواب، بينهم عضو البرلمان المصري أحمد قورة، بتوجيه اتهامات إليها بأنها تقوم بدور التجار في تعاملها مع الفقراء.
رغم تثبيت قيمة المبلغ النقدي واستمرار خفض قيمة الجنيه أمام الدولار وارتفاع أسعار السلع، فقد واصلت وزارة التموين والتجارة الداخلية تحديث قائمة أسعار السلع التموينية بما يتماشى مع الأسعار العالمية حتى أصبحت قيمة الدعم النقدي لا تساوي إلا 30% من قيمته الحقيقية، مع ارتفاع معدلات التضخم بنسبة 300% خلال السنوات الست الماضية.
وبحسب خبير اقتصادي على صلة بدوائر حكومية، فإن القاهرة في طريقها نحو إلغاء الدعم العيني بشكل كامل والاكتفاء بالدعم المادي، وأن المشكلة الرئيسية تبقى في رغيف الخبز، وقد تدفع نحو البحث عن طرق بديلة تضمن وصوله للفئات المستحقة مع توفير مظلة حماية اجتماعية لمستحقي الدعم، لافتاً إلى أن المستهدف اتخاذ قرارات من شأنها تخفيف الضغط على الجنيه المصري سواء كان ذلك من خلال زيادة معدلات التصدير إلى الخارج أو عبر توفير كميات محلية من السلع المنتجة والمزروعة محلياً وبيعها بالسعر الحر.
وأكد أن قرار وزارة التموين وقف بيع الأرز من المتوقع أن يمنح فرصة لبيع كميات أكبر منه للقطاع الخاص وعدم منافسة الحكومة في شرائه من المزارعين ومن ثم استقرار أسعاره، موضحاً أن مضارب الأرز كانت تتنافس على جمع الأرز من المزارعين للالتزام بمناقصات توريده للحكومة لصرفه ضمن السلع التموينية المتاحة للمواطنين، ومع رفع صرفه ضمن قائمة السلع التموينية سيخفّ ضغط الطلب على الأرز وبالتبعية سيقود ذلك لتراجع أسعاره في الأسواق.
الكارت الموحد
وتسعى وزارة التموين المصرية لاستخراج ما يسمى "الكارت الموحد"، وتستهدف من خلاله المزج بين الخدمات المختلفة التي تقدمها مثل "البطاقات التموينية وخدمات التأمين الصحي وخدمات مكاتب البريد" عبر كارت واحد، وهو ما يعتبره الخبير الاقتصادي ذاته بأنه ضمن مجموعة خطوات تهدف لتقليص فاتورة الدعم.
ويوضح أن تلك القرارات تمهد لمستحقي الدعم الحاليين شراء احتياجاتهم دون التقيد بمنافذ بعينها، ومنها السلع الخاصة ذات الأسعار الحرة، عبر بطاقات خاصة، ودون تسلمهم المبالغ نقداً، مشيراً إلى أن خطوات الحكومة المصرية تكون محسوبة وعلى فترات متباعدة بما لا يؤدي إلى خلل مباشر في منظومة الدعم يتأثر به المواطنين سلباً بشكل كبير.