عاد الحديث مرة أخرى في مصر حول تراخيص البناء، والتي أثارت جدلاً واسعاً مع اتخاذ الحكومة المصرية مجموعةً من القرارات قادت لوقف البناء في المدن وعواصم المحافظات، وكذلك القرى والنجوع، واقتصارها فقط على المدن الجديدة.
وتسبَّب قرار الحكومة المصرية في أزمات عديدة لم تنتهِ حتى الآن، في ظل عدم الوصول إلى صيغة يمكن تطبيقها على جميع المباني باشتراطات منطقية يمكن أن تساعد في عودة حركة البناء.
"عربي بوست" خلال هذا التقرير يرصد كواليس المفاوضات بين الحكومة المصرية والحوار الوطني لإعادة الاشتراطات القديمة، وما هي التغييرات التي سيتم تنفيذها؟
استجابة رئاسية
تقدَّم الحوار الوطني الذي اقتربت جلساته على الانتهاء بشكل كامل بمقترح إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يشمل إعادة العمل باشتراطات البناء القديمة، ومنح تراخيص البناء، لإحداث انفراجة كبيرة جداً، تساعد في حل أزمة الإسكان في كثير من المناطق والمحافظات.
وكشف مصدر مسؤول بوزارة الإسكان المصرية لـ"عربي بوست"، أنه ستكون هناك استجابة رئاسية لذلك، بسبب حالة الاحتقان الشعبي في المحافظات والمدن، جراء الأزمات الاقتصادية الصعبة، وبما يتيح فرص عمل لأكثر من ثلاثة ملايين عامل تضرروا من وقف البناء جراء الاشتراطات الجديدة التي وضعتها الحكومة وأثبتت عدم قابليتها للتطبيق.
وكشف المصدر نفسه أن نقاشات دارت في الغرف المغلقة خلال الشهرين الماضيين، مع الجهات المعنية بمنظومة البناء، وعلى رأسها وزارات التنمية المحلية والنقل وكليات الهندسة والهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، لبحث إمكانية العودة للبناء دون الحاجة إلى الاشتراطات الجديدة التي جرى إقرارها وإدخال تعديلات عديدة عليها خلال العامين الماضيين.
وأوضح أن النقاشات لم تنته بعد، لكن التوجه العام يشير للتوافق على استخراج تراخيص البناء في المدن والقرى كما كانت على قانون 119 لسنة 2008، والذي مازال يتم العمل به في المدن الجديدة والمجتمعات العمرانية، على أن يكون ذلك برقابة قوية من جانب كليات الهندسة والقطاعات المدنية بالهيئة الهندسية.
وتوصلت الاجتماعات إلى توافق على عدم ترك مهمة التأكد من عدم وجود مخالفات للأحياء والمجالس المحلية، وسيكون ذلك من خلال تدابير إجرائية تضمن الوصول إلى البنايات المخالفة في أسرع فرصة، والتعامل معها بشكل فوري، لضمان عدم العودة إلى حالة الفوضى السابقة، وفقاً للمتحدث ذاته.
وأشار المتحدث إلى أن المقترحات الحالية تشير إلى أن أصحاب الأراضي سيكون عليهم التقدم بطلبات للحصول على تراخيص البناء، على أن ترسل إحدى كليات الهندسة القريبة من تلك المنطقة لجنة هندسية بمشاركة المجلس القروي، لتحديد مكان الأرض على الخريطة.
ثم تدفع رسوم صلاحية الموقع في المجلس المحلي الذي تتبع له المنطقة، ويتم تحديد عدد أدوار البناية وفقاً لعرض الشارع الذي تتواجد به، مشيراً إلى أن المكاتب الهندسية سيكون لها دور في إعداد الرسومات المعمارية الإنشائية لاستكمال الإجراءات.
حالة ركود في المدن والمحافظات
قبل ثلاث سنوات، وتحديداً في العام 2020، اتخذت الحكومة المصرية قراراً بإيقاف حركة البناء بالكامل في الجيزة والقاهرة والقليوبية والإسكندرية، وعواصم المحافظات، من خلال وقف إصدار تراخيص العمارات السكنية لمدة 6 أشهر.
بعدها أصدرت الحكومة المصرية قانون البناء الموحد الجديد قبل عامين تقريباً، والذي تضمن تفاصيل الحالات التي يصدر فيها وقف البناء لمدة عامين.
وأدخل البرلمان المصري تعديلات عديدة على القانون، وفتحت الباب أمام البناء مجدداً، لكن القانون أبقى على ضرورة أن يكون الارتفاع المناسب إذا كان عرض الشارع 12 متراً يصل إلى دور أرضي وأربعة أدوار إضافية، وهو ما اعتبره أصحاب الأراضي شرطاً تعجيزياً، الأمر الذي تسبب في حالة ركود تعرضت لها المدن والمحافظات التي تعمل بقانون البناء الموحد.
ومؤخراً نفى المركز الإعلامي لمجلس الوزراء المصري ما تردد من أنباء بخصوص صدور قرار بمد وقف تراخيص البناء للوحدات السكنية بالمحافظات لمدة 6 أشهر جديدة، ونقل عن وزارة التنمية المحلية قولها إنه "وفقاً للكتاب الدوري رقم (63) لسنة 2021 الصادر عن الوزارة، تستمر المحافظات في السماح بالبناء في القرى وتوابعها، عدا المباني الخاصة في المدن الرئيسية وعواصم المحافظات، على أن تستمر أعمال البناء حتى الدور الرابع لحين انتهاء الاشتراطات البنائية الجديدة".
المواطنون يعاقبون الحكومة
نائب برلماني، على صلة بملف تراخيص البناء، قال لـ"عربي بوست" إن اجتماعات عديدة حضرها نواب البرلمان مع الجهات المعنية خلال الأشهر الماضية، للوصول إلى حلول تُسهم في فك الحظر المفروض على البناء، لكن نتائج تلك الاجتماعات لم ترَ النور حتى الآن.
وأضاف المتحدث أن المشكلة لا تتمثل في القانون القديم الذي جرى وقف العمل به في عواصم المحافظات، لكن الأزمة الأكبر تتمثل في التنفيذ، وفي حال جرى التوصل إلى صيغة تسمح بمنح التراخيص، مع وجود رقابة لعدم تجاوز الارتفاعات، وبما لا يشكل اعتداءً مباشراً على الأراضي الزراعية، فإن القضية ستكون في طريقها للحل.
ويرى المتحدث أن المواطنين يعاقبون الحكومة، ويعزفون عن استخراج التراخيص وفقاً للاشتراطات الحالية، وليس من المقبول أن يكون أحد الشوارع الرئيسية يصل عرضه إلى 30 متراً وتصل الارتفاعات فيه إلى 11 دوراً وأكثر، ويتم منح التراخيص الحالية على أربعة أدوار فقط.
وقال النائب البرلماني إن ذلك ترتب عليه إصدار 1267 ترخيصاً فقط خلال آخر 3 سنوات، بحسب بيانات وزارة التنمية المحلية، ما يجعل الحكومة تفكر كثيراً في العودة لتطبيق القانون القديم على كافة المباني على مستوى الجمهورية.
وأخيراً نصت المادة 51 من القانون رقم 119 لسنة 2008، على أنه "يجب أن يتم تنفيذ البناء أو الأعمال المرخص بها وفقاً للأصول الفنية، وطبقاً للرسومات والمستندات الصادر بها الترخيص، ولا يجوز إدخال أي تعديل أو تغيير جوهري في الرسومات المعتمدة إلا بعد الحصول على ترخيص بهذا التعديل أو التغيير، طبقاً لقواعد إصدار الترخيص".
وكشف النائب البرلماني أن وزارة الإسكان لم تتواصل مع البرلمان في حال كانت لديها رؤية تتضمن تعديل قوانين البناء، بما يواكب التغييرات التي حدثت مؤخراً، وترتّب عليها إصدار قانون التصالح في مخالفات البناء للعام 2019، خاصة أنها تقدمت بالفعل بطلب لإدخال تعديلات جديدة على قانون البناء الموحد، من المتوقع أنها ستقود إلى تعديلات شاملة في تراخيص البناء.
توافق على عودة القانون القديم
لكن بحسب نائب آخر أيضاً على صلة بالملف ذاته، كشف عن أن هناك توافقاً في الحوار الوطني على العودة للقانون القديم، يمهد لإصدار قرار رئاسي بذلك خلال الأيام المقبلة، دون الحاجة للعودة إلى مجلس النواب، مع وجود القانون الذي يتم العمل به في المجتمعات العمرانية الحديثة، وهو ما يمهد لفتح التراخيص للمواطنين مرة أخرى بالمدن والقرى مع تسهيلات في منح التراخيص.
وتوقع أن تكون العودة إلى القانون القديم تجريبية لمدة عام واحد، وأن الرئيس السيسي سيصدر توجيهاً إلى الحكومة بشأن تذليل العقبات أمام أصحاب الأراضي لإحداث تطور إيجابي من الممكن أن يشعر من خلاله المواطنون بشكل مباشر بثمار الحوار الوطني، في ظل رغبة سياسية بأن تخاطب مخرجاته مشكلات وأزمات حياتية يومية يعاني منها المواطنون.
ومهدت الحكومة لفتح المجال أمام حركة البناء عبر تمرير قرار أصدره محافظ كفر الشيخ، اللواء جمال نور الدين، مؤخراً، وقضى بإمكانية استئناف أعمال البناء والتشطيبات في القرى والمدن، وذلك بعد فحص التراخيص السارية من قبل لجنة مشكلة واعتمادها، وهو ما يعد مؤشراً على إمكانية تطبيق القرار ذاته في باقي المحافظات وعواصمها.
وكذلك ناقشت الحكومة المصرية التعديلات الجديدة المزمع إدخالها على قانون التصالح في مخالفات البناء، وفتحت المجال أمام التصالح في مجموعة من المخالفات السابقة، التي أقرت فيها بالهدم وليس التصالح، ومنها التصالح على المباني خارج الأحوزة العمرانية لجميع الأنشطة، سواء سكنية أو تجارية أو صناعية، وكذلك التصالح في حالات التعدي على أملاك الدولة بعد موافقة الجهة المختصة، باستثناء التعدي على نهر النيل والآثار.
3 ملايين مبنى مخالف وإهدار أكثر من 100 مليار
قال مصدر مسؤول في وزارة التنمية المحلية إن تطبيق القانون القديم، الصادر في العام 2008، والذي تنوي الحكومة العودة إليه، حقق نجاحاً في اتجاه ولم ينجح في الاتجاه الآخر، بمعنى أنه جرى تطبيقه بشكل ناجح في المجتمعات العمرانية الجديدة، لكن الإدارات المحلية فشلت في تنفيذه بالمدن الكبرى وعواصم المحافظات والقرى.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن هذا التطبيق أسفر عنه وجود ثلاثة ملايين مبنى مخالف، وأكثر من 400 ألف دور مخالف، و2 مليون حالة تعدٍّ على الأراضي الزراعية، و350 منطقة عشوائية وغير آمنة.
ويوضح أن النقاشات التي جرت مؤخراً ركزت على آليات تطبيق القانون القديم، وتم التوافق على عدم ترك المهمة للإدارات الهندسية داخل المجالس المحلية، في ظل العجز الصارخ في أعداد المهندسين الذين بإمكانهم إصدار التراخيص ومتابعة الالتزام بها، كما أن غالبية الموظفين الموجودين حالياً من حملة الدبلومات الفنية، وهو ما يتطلب تدخلاً فاعلاً من جانب كليات الهندسة لسد تلك الفجوة.
وأشار إلى أن التوسع في اللجوء إلى المكاتب الاستشارية لتخطيط المباني أهدر على وزارة التنمية المحلية أكثر من 100 مليار جنيه، وأن الحكومة سيكون عليها إعادة تخطيط المدن، وتبعيتها إلى كليات الهندسة بالتعاون مع نقابة المهندسين، للتداخل بشكل أكبر في الأمور التفصيلية والفنية، وهو أمر سيكون بحاجة لمزيد من الوقت، وبالتالي فإن العودة السريعة لعملية البناء ليست ورادة خلال الشهر المقبل كما يتوقع البعض.
في وجهة نظر المتحدث ذاته فإن الحكومة لديها توجس من عودة البناء العشوائي، وهو ما يهدد سلامة المواطنين، وما يجعلها تتردد كثيراً في قرار العودة للقانون القديم يتعلق بالفساد المنتشر في المحليات، وعدم القدرة على اقتلاعه من جذوره، ورغم تشكيل وزارة التنمية المحلية وحدة المتغيرات المكانية التي تصل إلى المخالفة بشكل سريع وفوري، لكن ذلك لا يمنع من الهواجس مع وجود موظفين لديهم علاقات مع المقاولين واعتادوا أن يحصلوا منهم على رشاوى مالية.
مخاوف حكومية من غضب المواطنين
برلماني تحدث لـ"عربي بوست" قال إن الإشارات المرسلة لكثير من الوحدات المحلية، بوجود حالات تعدٍّ لا يتم التعامل معها مباشرة، وقد يكون ذلك بعد ستة أو سبعة أشهر، وهو ما يقود لوجود تراكم في التعديات على الأراضي، ويصعب من عملية إزالتها، كما أن هناك مخاوف حكومية قبيل الانتخابات الرئاسية من ردة فعل المواطنين في القرى والمراكز التي تشكل مناطق رخوة يعد سبباً إضافياً في تراكم التعديات.
في أول يوليو/تموز 2021، قامت الهيئة العامة للتخطيط العمراني بعمل الاشتراطات البنائية الجديدة، وتم تطبيقها بالمدن المصرية، واعتمدت على دخول الجامعات لإعداد ومراجعة إصدار تراخيص البناء في المدن والهيئة الهندسية للقوات المسلحة لاستصدار شهادة المطابقة، وذلك لضبط منظومة التراخيص والتأكد من التنفيذ الدقيق لها.
وأكد اللواء هشام آمنة، وزير التنمية المحلية، أن منظومة التراخيص الجديدة والاشتراطات البنائية تطبق على المدن، بينما يستمر استصدار التراخيص في القرى وفقاً للقانون رقم 119 لسنة 2008.
وتتعرض الحكومة لضغوطات كبيرة من أصحاب شركات المقاولات المتوسطة والصغيرة، والتي توقف عملها تقريباً، وتعول على أصحابها في إحداث حالة من الرواج في المدن والمراكز، بما يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية، وفقاً لما أكده مصدر قريب من الحكومة، مشيراً إلى أن 70% من شركات المقاولات تعاني حالة من الشلل التام منذ ثلاث سنوات، وتسبب ذلك في تشريد ملايين العاملين فيها.
مضيفاً أن السنوات الماضية كشفت عن أن التهديدات المستمرة بالتعامل مع البنايات المخالفة، في حال لم يتم التقدم بطلبات جدية التصالح، وعزوف ثلثي أصحاب البنايات المخالفة عن التقدم بأوراقهم، جعل هناك قناعة بأن هناك حالة من الانفصام بين المواطنين والحكومة، وأن استمرار الوضع الحالي يهدد بمشكلات اجتماعية وسياسية، في مناطق تسعى الحكومة لكسبها قبل أشهر قليلة من انتخابات الرئاسة.