مازالت أزمة الخبز في تونس مستمرة دون بوادر على قرب حلها، فالتونسيون يعيشون يومياً "رحلة معاناة البحث عن رغيف"، وسط تقديرات من محللين بأن الدولة غير قادرة على استيراد مزيد من الحبوب، ولا رفع الدعم الحكومي عن الخبز.
من أمام مخبز في تونس العاصمة، تحدث "عربي بوست" إلى مواطنين عبّروا عن معاناتهم جراء البحث عن "رغيف"، إذ تقول السيدة نزيهة: "يومياً نحن على هذه الحال، نظل في الصف لأكثر من ساعة لأجل الحصول على الخبز، وفي أغلب الوقت ينتهي الخبز قبل الحصول عليه".
وقالت: "عبارة نخشى جميعنا سماعها من صاحب المخبز، بعد وقت طويل من الوقوف في طابور الخبز: لم يعد هناك خبز، انتهى".
أزمة استيراد الحبوب
في استعراضه لأسباب أزمة الخبز في تونس، قال الخبير الاقتصادي معز حديدان، لـ"عربي بوست"، إن هناك 3 أسباب حقيقية، "أولاً، وهو السبب الأقل أهمية، وجود خلل في توزيع وتزويد المطاحن بالكميات الكافية والعادلة، نظراً لوجود فساد في سلسلة الإنتاج من ديوان الحبوب إلى المطاحن وصولاً للمخابز"، وفق قوله.
وأكد أن هناك سبباً آخر بارزاً، وهو "عدم توفر الكميات الكافية من الحبوب، نظراً للمشاكل المالية للدولة، فهي لم تعد قادرة على استيراد الكميات الكافية من هذه المادة الأساسية".
وأضاف الخبير التونسي أن "الدولة تعيش أزمة مالية خانقة، ما تسبب لها في هذه المشكلة، بعدم ضح الدولة للأموال لديوان الحبوب للشراء، فتصبح عاجزة عن توريد الحبوب".
إنتاج الحبوب في تونس
أوضح حديدان أن "هناك عجزاً في الميزانية، ما أثر مباشرة على قطاع الحبوب، لأن السياسة الاقتصادية التي انتهجتها تونس منذ سنوات طويلة لا تسمح بتطوير الإنتاج".
متابعاً أن "الدولة تعتمد منوال الدعم الحكومي للخبز، وهي مَن تحدد أسعاره وهامش الربح، ما أثر على الفلاح الذي عزف عن زراعة الحبوب".
في لغة الأرقام، أوضح الخبير أنه "في سنة 2002 كانت الأراضي المخصصة لزراعة الحبوب 1.5 مليون هكتار، واليوم هناك فقط واحد مليون هكتار، في حين أن عدد السكان قبل عشر سنوات كان 9.2 مليون مواطن، أما اليوم فالعدد 11.2 مليون".
وقال: "إذاً، الفجوة بين الطلب والإنتاج المحلي كبيرة جداً. كنا نستورد في حدود 50% من حاجتنا للحبوب من الخارج، فأصبحنا في حدود 80% قبل عام، أما هذه السنة 2023، ونظراً للجفاف، فلقد بلغنا 100% في استيراد حاجتنا من الحبوب، ما أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار".
وتشير آخر الأرقام التي نشرها الجمعة، 18 أغسطس/آب 2023، المرصد الوطني للفلاحة (حكومي)، ارتفاع واردات تونس من الحبوب حتى يوليو/تموز 2023 بنسبة 4.4%، مقارنةً بالفترة ذاتها من سنة 2022، وخصصت الحكومة 1.4 مليار دينار لشراء القمح فقط، من نحو 2.4 مليار دينار صرفت لشراء الحبوب.
وشكّلت الأقماح، وهي القمح اللين المستخدم لصناعة الخبز والقمح الصلب، قرابة 57,5% من الواردات في تونس، في حين تستورد تونس الشعير والذرة في إطار سلة واردات الحبوب.
وسجلت كميّات الحبوب المجمعة خلال موسم 2023 تراجعاً كبيراً، وفق الأرقام الرسمية نظراً للجفاف، فبلغت نسبة 60%، مقارنة بالموسم 2021/ 2022، إذ لم تتعدّ َالكميات 2.7 مليون قنطار، في حين أن الاحتياج يقدر بـ34 مليون قنطار من الحبوب.
في حين يقدر معدل استهلاك الفرد الواحد للخبز في تونس سنوياً بـ70 كيلوغراماً، وفق إحصائيات المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، فهي تعد من العادات الغذائية الأساسية في هذا البلد، فحتى الطبق الشهير الكسكسي وكذلك المكرونة تؤكل مع الخبز.
الدعم الحكومي للخبز.. وحل الأزمة
لا تستطيع الدولة زيادة الاستيراد من الخارج للحبوب، وبيعها بالسعر المدعوم حكومياً، وسط الأزمة الاقتصادية والعجز المالي الذي تعاني منه، ما يضعها أمام خيار رفع الدعم الحكومي، وهو ما تخشاه السلطات، بأن يتسبب بانتفاضة شعبية كما حصل عام 1984.
ووقعت انتفاضة شعبية في يناير/كانون الثاني 1984، حين تم رفع سعر الخبز في حكومة محمد المزالي، فحصلت احتجاجات كبيرة شملت أغلب جهات البلاد، ما اضطر الجيش للتدخل، وسقوط قرابة 100 قتيل.
وخرج الرئيس الحبيب بورقيبة في خطاب للشعب، أعلن فيه التراجع عن الزيادة والدعم في بعض المواد.
وقال حديدان معلقاً على ارتباط أزمة الخبز في تونس بالدعم الحكومي، إن هناك "ضرورة لوقف الدولة دعم هذا القطاع، وتحرير الأسعار".
لكنه لفت إلى أن "الدولة لا تريد هذا، وتخاف من ثورة اجتماعية، وهو أمر تخافه كل الأنظمة منذ زمن زين العابدين بن علي إلى اليوم، ولكن الخوف والسلم الاجتماعي ثمنه عجز كلي للبلاد في الإنتاج والتوريد".
وعلّل الحاجة لرفع الدعم الحكومي، وفق تقديره، بأنه في حدود 3 سنوات بعد رفع الدعم ستحدد الأسعار عبر آلية التنافسية في السوق، وستنخفض بارتفاع الإنتاج.
وشدد على أنه لا حل إلا من خلال "الرفع التدريجي" للدعم الحكومي عن الخبز.
التحركات الرسمية
يعتبر الرئيس قيس سعيد أن أزمة الخبز في تونس "مفتعلة"، بهدف "تأجيج الوضع والتنكيل بالشعب"، دون شواهد على ذلك، متعهداً بمحاربة ومحاسبة كل من يسعى لذلك.
وطالب وزيرة العدل بتشريع عقوبات جزائية ضد كل المحتكرين في مجال توزيع الحبوب وسائر المواد.
وأقال الرئيس سعيد المدير العام لديوان الحبوب، فيما أذنت النيابة العمومية بالاحتفاظ برئيس الغرفة الوطنية للمخابز.
من جانبه، قال رئيس المجمع المهني للمخابز العصرية، محمد الجمالي، إن "الأزمة بدأت منذ أشهر، ومتواصلة، ويبدو أنها ستستمر، ونحن حذرنا من هذا من مدة، وطالبنا بحلول جذرية، لقد باتت مشكلة التزود بالقمح تشكل أزمة كبيرة".
وأوضح الجمالي في تصريح لـ"عربي بوست": "جلسنا مع المسؤولين، وكنا ننتظر حلولاً، ولكن للأسف لم يحصل ذلك، فلم نجد أمامنا غير التوقف عن العمل، وهو ما عمّق الأزمة أكثر، في حصول المواطن على الخبز، فأصبح أمام معاناة كبيرة".
وعن قيمة إنتاج المخابز العصرية للخبز، أكد الجمالي أنها توفر قرابة 9 ملايين "خبزة" يومياً (باقات خبز- ربطة).
وطالب الجمالي بضرورة إيجاد حلول عاجلة لحل أزمة الحبوب ككل، وبالتالي الخبز، مؤكداً أن "الدولة هي المسؤولة عن هذا القطاع، لذلك عليها إيجاد الحلول السريعة لهذه الأزمة".
وأكد أن أزمة الحبوب عالمية، خاصةً في ظل الحرب الأوكرانية- الروسية، وهناك صعوبة في استيراد الحبوب، خاصة وسط أزمة تونس المالية والجفاف، وهو ما يؤشر إلى استمرار المشكلة في قادم الأيام.
معاناة مستمرة
تقول السلطات التونسية منذ أشهر عدة، إن الأزمة في طريقها إلى الحل، غير أنه ومنذ منتصف شهر يوليو/تموز 2023، باتت أزمة توفير الخبز تتفاقم أكثر فأكثر.
لكن منذ ساعات الفجر يومياً، ومع الدقائق الأولى لفتح المخابز أبوابها، تبدأ الطوابير وتنتهي في أحيان كثيرة بعدم الحصول عليه، ولا يقتصر هذا المشهد على العاصمة عالية الكثافة السكانية فقط، بل بالمناطق الداخلية أيضاً.
مواطن يدعى محرز قال لـ"عربي بوست": "شغلنا بات البحث عن الخبز وليس الذهاب للعمل، كنت أستيقظ للذهاب للعمل حتى أصل باكراً، أما الآن فأصبحت أضطر للتوجه للمخبز أولاً، وفي وقت باكر جداً، حتى أشتري الخبز، فأجد نفسي متأخراً عن العمل".
وأضاف: "منذ أيام كثيرة ونحن على هذه الحال، صحيح أنه في الأشهر الماضية كان هناك نقص وصعوبة، ولكن الأمر بات أكثر سوءاً".
وختم بالقول: "نحن نعاني والخوف كل الخوف من الأيام القادمة".
يشار إلى أنه منذ 2021، تراجع إنتاج الحبوب في تونس لأسباب مناخية، انتقلت تداعياته بعد ذلك إلى السوق المحلية، من حيث عدم توفر كميات كافية من القمح المستخدم في إنتاج الخبز.