قالت صحيفة The Times البريطانية في تقرير نشرته، السبت 3 يونيو/حزيران 2023، إنه كان هناك تخوف على مصير ضابط شرطة إيطالي بعد دخوله بلدة سان لوكا الصغيرة في تلال كالابريا، التي تعتبر معقلاً لأقوى مافيا كوكايين في أوروبا، وهي عشائر "أندرانغيتا"؛ الإيطالية، وهو متنكر في صورة مجرم من أجل ضبط تجار.
حيث قال الكولونيل (عقيد) ماسيميليانو دانجيلانتونيو، أحد كبار المحققين في قوات كارابينييري شبه العسكرية الإيطالية: "في اليوم الذي دعاه أعضاء المافيا إلى سان لوكا، كان الضباط مختبئين في التلال المحيطة بالبلدة ولديهم طائرة هليكوبتر جاهزة لإخراجه إذا ساءت الأمور".
عملية أمنية لإسقاط مافيا مخدرات إيطالية
استطاع الشرطي المتخفي، الذي تُروَى قصته لأول مرة، الخروج حياً. وقد ساعدت المعلومات التي كشف عنها في تدشين عملية يوريكا، وهي الضربة المدمرة التي استهدفت عشائر أندرانغيتا من سان لوكا. وأسفرت عن الإيقاع بـ155 مشتبهاً بهم في إيطاليا وألمانيا وفرنسا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا وأدت إلى ضبط 23 طناً من الكوكايين بقيمة 2.5 مليار يورو (2.6 مليار دولار أمريكي).
يعود تاريخ العصابة إلى القرن الثامن عشر، ولا يقل عدد أفرادها عن 6000 رجل من 150 عائلة يعيشون في جزيرة كالابريا في جنوب غربي إيطاليا. وقد تخصصوا في الاختطاف مقابل المال، قبل أن ينخرطوا في استيراد المخدرات من أمريكا اللاتينية.
وحققت عائلات أندرانغيتا عائدات سنوية تُقدَّر بنحو 53 مليار يورو من العمليات في 50 دولة. ولأنهم يعملون مثل اتحاد للعشائر، فمن الصعب القضاء عليهم.
كان العنف عاملاً أساسياً في صعود العصابة، إذ انخرطوا في قتل ضباط الشرطة وتهديد القضاة. وتسببت الخلافات بين عشائر العصابة في أكبر إراقة للدماء؛ إذ قُتِل 600 شخص في حرب الثمانينيات.
وتُشكِّل عائلات العصابة في بلدة سان لوكا، التي استهدفتها عملية يوريكا، سكان المنطقة المحلية للبلدة، وهي جزء من واحدة من ثلاث مجموعات إقليمية أكبر في جزيرة كالابريا.
مافيا المخدرات تحاول أن تحل محل الدولة
قال الكابتن بيترو سكاباردي: "تحاول أندرانغيتا أن تحل محل الدولة.. هم يذكرونني بطالبان". وحدثت الانفراجة في عام 2021 عندما أُلقِي القبض على سمسار الكوكايين الرئيسي لعشائر أندرانغيتا في أمريكا الجنوبية، روكو مورابيتو، في البرازيل بعد سنوات من الهروب، بعد خداع بعض المتعاملين معه لاستخدام تطبيق هاتف مشفر قدمه لهم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.
لكن كان التعاون الوثيق بين قوات الشرطة الأوروبية، التي تجاهلت ذات مرة تحذيرات إيطاليا بشأن أندرانغيتا ورفضتها باعتبارها ليست أخطر من عصابة راكبي الدراجات النارية، هو مفتاح النجاح.
ففي أوروبا، اخترق البلجيكيون والفرنسيون والهولنديون نظام Sky ECC، وهو نظام هاتف مشفر تفضله أندرانغيتا، وسلّموا المحققين الإيطاليين نصوص محادثة كشفت أنَّ رؤساء سان لوكا يحتفلون بشحنات الكوكايين الضخمة عبر روتردام وأنتويرب وجيويا تاورو في كالابريا.
اعتقال العشرات من تجار المخدرات
شملت عملية يوريكا اعتقال حوالي 40 شخصاً في سان لوكا وفي منطقة أفريكو المجاورة؛ مما يثبت بقاء رجال العصابات بالقرب من منازلهم، حتى أثناء بنائهم شبكة الكوكايين العالمية الخاصة بهم. وقال الكولونيل دانجيلانتونيو: "البداية من هذه الجبال، وكان على الشرطي البلجيكي المتخفي أن يأتي إلى سان لوكا. كانت دعوته تعبيراً عن احترامه، لكنها كانت دعوة لا يمكنه رفضها".
ولطالما كفلت الروابط الأسرية الولاء للمافيا وردع الانشقاقات التي أسهمت كثيراً في إيقاع العصابات، مثل مافيا كوزا نوسترا في صقلية، لكن ظهرت تصدعات في الأوميرتا الخاص بأندرانغيتا -وهو قسم الولاء بعدم مساعدة السلطات الرسمية في الإيقاع بأي من أفراد العصابة- حيث اصطف 25 مخبراً للإدلاء بشهادتهم في محاكمة ضخمة ضد مُدّعى عليهم من المافيا بدأت في بلدة لاميزيا تيرمي كالابريا عام 2021.
وفي سان لوكا نفسها، عرض القائد ميشيل فيورنتينو سلاحاً سرياً لمحاربة العشائر.
سحب فيورنتينو ألواحاً منزلقة تعرض شجرة العائلة للمافيا، وبها التفاصيل الدقيقة لـ50 عائلة يُشتبَه في تورطها في النشاط الإجرامي، ويعود بعضها إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مرفقاً بها الصور والألقاب والتحالفات المُعقّدة التي تشكّلت من خلال الزيجات المُرَتبة.
قال فيورنتينو: "الألمان يطلبون منا هذه المعلومات وهم يحققون في ملكية مطعم أندرانغيتا هناك. هذه العلاقات الأسرية لها عواقب دولية، ومعرفتها ساعدت في جعل عملية يوريكا ممكنة".
أثبتت شجرة العائلة، التي صارت خريطة للجرائم العالمية، أنها ضرورية لفهم من كان يتحدث إلى من في رسائل النظام الهاتفي Sky ECC التي اعترضتها السلطات.
صراع بين عائلات المافيا في إيطاليا
في عام 1991، نشب نزاع شرس بين عائلات المافيا، بيلي وفوتاري من جانب، ونيرتا وسترانجيو على الجانب الآخر، الذي تحول إلى مذبحة. وقد ثبت أنه خطأ فادح من العشائر، إذ أثار اهتماماً غير مرحب به من الشرطة الألمانية. وقد فتح ذلك الباب أمام التعاون الدولي المتنامي بين قوات الشرطة الذي أدى، بمساعدة من تكنولوجيا المراقبة عالية التقنية، إلى تقدم حقيقي في الحملة العالمية ضد المافيا.
ومع ذلك، علّق أنطونيو نيكاسو، مؤلف سلسلة من الكتب عن مافيا أندرانغيتا، قائلاً إنهم بعيدون كل البعد عن التعرض للهزيمة؛ لأنها منظمة مرنة.
وقال نيكاسو: "لقد أظهرت لنا عمليات مثل يوريكا كيف يستخدمون خدمات تحويل الأموال الصينية، والهواتف المشفرة، والعملات المشفرة، والتحول إلى العقاقير الاصطناعية؛ مما يوفر لمحة عن كيفية تكيفهم باستمرار للبقاء على قيد الحياة".
في حين تتفق قوات كارابينييري، أنه يجب هزيمة أندرانغيتا في نهاية المطاف على أرض وطنهم؛ وأنَّ النصر لن يكون ممكناً إلا عند تفكيك العصابات المحلية التي تُشكِّل المافيا في مدن مثل سان لوكا نهائياً. وقال الكولونيل دانجيلانتونيو: "لقد ربحنا معركة، لكن ليس الحرب".