أثار انسحاب المرشح الرئاسي محرم إنجه من سباق الانتخابات التركية قبل يومين من بدء الاقتراع العديد من التساؤلات حول سياسة التسريبات وتأثيرها على دفع المرشحين على مغادرة العمل السياسي من أضيق أبوابه.
ومنذ قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقد انتخابات مبكرة في 14 مايو/أيار، لم تتوقف محاولات المعارضة التركية لإثناء إنجه عن الترشح للانتخابات الرئاسية، عبر العديد من الوساطات والطلبات المباشرة من قيادات حزب الشعب الجمهوري الذي كان إنجه مرشحاً له بالانتخابات الرئاسية عام 2018.
وكان من أبرز تلك الجهود زيارة مرشح تحالف الأمة المعارض للانتخابات الرئاسية وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو إلى محرم إنجه في مقر حزب البلد بالعاصمة أنقرة، حيث شدد إنجه على بقائه في السباق الانتخابي حتى نهايته؛ رافضاً كل محاولات إقناعه بالانسحاب.
ظهور التسريبات
ومع هذا الإصرار، وبينما كان إنجه متجهاً إلى مدينتي إزمير جنوبي تركيا ومانيسا في الشمال، صباح يوم 10 مايو/أيار خرجت العديد من التسريبات حول وجود شريط مسيء تمَّ تسجيله للمرشح الرئاسي السابق، بالتزامن من إلغاء إنجه لكل الفعاليات الانتخابية بحجة وجود وعكة صحية ألمَّت به.
وفي مساء ذلك اليوم وجّه مرشح تحالف المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو رسالة إلى إنجه طالبه فيها بالانضمام إلى طاولة المعارضة من أجل العمل على ما سماه "تنظيف هذه القذارة التي طالت رئيس ومرشح حزب البلد للانتخابات الرئاسية".
وفي مؤتمر صحفي ظهيرة يوم 11 مايو/أيار أعلن محرم إنجه من أمام مقر حزب البلد في العاصمة التركية أنقرة، انسحابه من سباق الانتخابات الرئاسية، معللاً ذلك بالحفاظ على سمعة الحزب، حتى يمكنه الدخول إلى البرلمان القادم.
ونفى إنجه التسريبات غير المنشورة التي قال إنه تعرض لابتزاز بسببها، مشيراً إلى أن أصابع تنظيم فتح الله غولن وراءها، وأضاف: "هناك صحفيون كتّاب يدعمون تنظيم غولن حينما يكتبون. تلك المشاهد أو التسجيلات الصوتية لا تعود لي. هي افتراء محض".
وفي مؤتمره الصحفي اتهم إنجه أعضاء بتنظيم غولن بمهاجمته من الخارج، وأضاف: "كل يوم أواجه افتراءات بحقي. عدد كبير من أعضاء غولن في الخارج يهاجمونني، ومثلهم تنظيم بي كا كا (حزب العمال الكردستاني)"، وأردف: "لم أكن أعلم أنني أمتلك هذا القدر من التحمّل، ليفعلوا قدر ما يشاؤون من المشاهد والتسجيلات الصوتية المزيفة، لا أخاف من هذه المؤامرات".
تسريبات الشعب الجمهوري
سجل التاريخ التركي العديد من حالات الابتزاز السياسي عبر التسريبات، ومن أشهر تلك الحالات كان وصول مرشح تحالف الأمة المعارض للانتخابات الرئاسية كمال كليجدار أوغلو إلى منصب رئاسة حزب الشعب الجمهوري عام 2010 بعد التسريب الأخلاقي المسيء الذي طال رئيس الحزب السابق دينيز بايكال.
ففي 6 مايو/أيار 2010 نُشرت مجموعة من الصور في أوضاع مسيئة على مواقع الإنترنت؛ لرئيس حزب الشعب الجمهوري حينها دنيز بايكال، وعلى الفور تم حظر الوصول إلى هذه المواقع من قبل رئاسة الاتصالات السلكية واللاسلكية، بناء على طلب من حزب الشعب.
وبعد 4 أيام، أعلن بايكال في مؤتمر صحفي يوم 10 مايو/أيار 2010 أن الحادث كان مؤامرة، وأنه استقال من منصبه كرئيس للحزب الذي كان يشغله منذ عام 2002.
وقال دنيز بايكال حينها: "استقالتي من الرئاسة العامة لحزب الشعب الجمهوري لا تعني بأي حال الاستسلام أو الفرار من هذه المؤامرة؛ على العكس من ذلك، إنه تحدّ لهؤلاء الفاسدين، وبهذا الفهم، أستقيل اليوم من الرئاسة العامة لحزب الشعب الجمهوري".
وعين مجلس الحزب "جودت سلفي" نائباً للرئيس، وذلك قبل وقت قصير من المؤتمر الثالث والثلاثين للحزب، الذي كشف من خلاله نائب رئيس مجموعة حزب الشعب الجمهوري حينها كمال كليجدار أوغلو أنه سيكون مرشحاً للرئاسة، وتم انتخابه رئيساً لحزب الشعب الجمهوري في 22 مايو/أيار 2010، ليحل محل بايكال.
تسريبات الحركة القومية
بعد شهور من فضيحة تسجيل دنيز بايكال، وبينما كانت تركيا تستعد للانتخابات البرلمانية العامة المقرر إجراؤها في 12 يونيو/حزيران 2011، ظهرت على الساحة السياسية التركية تسريبات جديدة، ولكنها هذه المرة كانت لقيادات في حزب الحركة القومية.
في 21 مايو/أيار 2011، نُشرت صور في أوضاع مسيئة للنائب محمد إكيجي، نائب رئيس حزب الحركة القومية إلى جانب صور أخرى لبعض قيادات ونواب الحزب في وقت لاحق، ما دفع 10 من قيادات الحزب لتقديم استقالاتهم، ظهرت صورهم في هذه التسريبات.
وبين يوم وليلة فقد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، الذي كان يستعد لانتخابات 12 يونيو/حزيران، 10 من أهم قيادات حزبه، الذين كانوا يقودون حزب الحركة القومية في ذلك الوقت وكانوا يصفون بأنهم فريق إدارة الحزب.
أردوغان وفضيحة الحشرة
لم تتوقف التسريبات السياسية عند رؤساء الأحزاب التركية، بل وصلت إلى حد التجسس على الوزراء ورؤساء الوزراء في تركيا في تلك الفترة.
من أشهر تلك الحوادث مع ما تم مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ حينما كان رئيساً للوزراء.
فقبل انتخابات الرئاسة التركية عام 2014 التي خاضها الرئيس أردوغان أمام مرشح المعارضة التركية حينها أكمل الدين إحسان أوغلو؛ تم الحديث عن وجود تسريبات تخص الرئيس التركي إبان فترة عمله رئيساً للوزراء وذلك بعد وضع أجهزة تنصت في مكتبه.
ورغم كثرة الأحاديث وقتها لم تخرج أي مواد من شأنها الإساءة إلى أردوغان؛ الذي قال عقب فوزه بالانتخابات إن إرادة الشعب التركي تغلبت على كل الشرائط المزعومة، وإن رسالة الشعب التركي إلى أعضاء المنظمة التي يتم تشغيلها من بنسلفانيا (في إشارة إلى تنظيم فتح غولن الذي يقيم زعيمه بولاية بنسلفانيا الأمريكية)؛ أنكم ستفشلون في مخططات الإساءة للدولة التركية.
وإلى الآن يخضع بعض المشتبه بهم في محاولة التجسس تلك للمحاكمة، وذلك بعدما ثبت ضلوعهم في قضية وضع جهاز تنصت على شكل "حشرة" في مكاتب عمل الرئيس رجب طيب أردوغان خلال فترة رئاسته للوزراء.
ومن بين المتهمين في هذه القضية الرئيس السابق لإدارة المخابرات العامة في المديرية العامة للأمن؛ عمر التيبارماك، ولا تزال القضية منظورة أمام القضاء التركي بالمحكمة الجنائية العليا الثانية في أنقرة حتى الآن.
تأثير التسريبات الانتخابية
يرى الباحث التركي مارت حسين أكغون أن التسريبات كان لها ولا يزال دور كبير في التأثير على الناخبين في كافة الانتخابات التركية؛ خاصة انتخابات عام 2011 الذي خسر فيها حزب الحركة القومية الكثير من أصوات ناخبيه.
وأضاف أكغون في حديثه لـ"عربي بوست" أن التسريبات المزعومة حول رئيس حزب البلد ومرشحه للانتخابات الرئاسية محرم إنجه وقرار انسحابه من السباق الانتخابي؛ رفعت بصورة كبيرة من أسهم الرئيس التركي رجب أردوغان وحظوظه في الفوز بالانتخابات من الجولة الأولى؛ خاصة بعد اتهام إنجه لتنظيمي فتح الله غولن والعمال الكردستاني بالوقوف وراء هذه التسريبات.
وتابع أكغون أن وقوف هذه التنظيمات وراء هذه التسريبات أمر ليس بالجديد عليها، وبالتالي ظهر الرئيس التركي بموقف المدافع عن الحقوق الديمقراطية للشعب التركي، على عكس المعارضة التركية ومرشحها كمال كليجدار أوغلو الذي يحظى بدعم تلك التنظيمات.
ويرى الباحث التركي أن انسحاب إنجه سيدفع ناخبيه الذين قدرت استطلاعات الرأي نسبتهم بنحو 2% نحو مربع حزب العدالة والتنمية، مضيفاً أن تأثير انسحاب إنجه لن يقف عند حدود ناخبيه وأنصاره فقط بل سيصل إلى فئات المترددين الذين يؤجلون تصويتهم حتى اللحظات الأخيرة.
وأوضح أكغون أن فئات المترددين أصبح لديهم اليوم خياران؛ إما التصويت لمن يحترم الخصوصيات والمسار الديمقراطي وإما الطرف الآخر الذي دعا إنجه للانسحاب من قبل، وجاءته الفرصة في استغلال تسريبات مزعومة لدفعه إلى الانسحاب؛ وهو ما تم في نهاية الأمر. وبحسب الباحث التركي فإن رأي تلك الفئات سيكون بالانحياز نحو العدالة والتنمية.