أثارت التعديلات التي أدخلها البرلمان المصري على قانون العمد والمشايخ مؤخراً بطلب من الحكومة المصرية، تساؤلات عديدة حول الأسباب الحقيقية ورءئها في ذلك التوقيت الذي يشهد تراجعاً في خطط تنفيذ مشروع "حياة كريمة"، الذي كان يستهدف تحسين جودة الحياة في أكثر من 4700 قرية يسكنها ما يقرب من 60 مليون مواطن، أي نصف عدد المصريين تقريباً.
وشددت التعديلات التي أقرها البرلمان الرقابة الأمنية على أداء العمد والمشايخ، فأتاحت الحق لوزير الداخلية إلغاء أو تعديل أية قرارات تصدر عن لجنة العمد والمشايخ التي تنعقد لمناقشة مدى التزامهم بواجباتهم الوظيفية.
ولم تعد الأجهزة الأمنية مسؤولة فقط عن تعيين العمد وإقالتهم، لكنها تتولى أيضاً عملية توقيع العقوبة المناسبة عليهم، وبررت التعديلات ذلك "بما يصب في تحقيق مزيد من الانضباط في أدائهم الوظيفي وصولاً إلى تكامل الأداء الأمني".
ووفقاً للتعديلات الأخيرة على القانون الذي يحمل رقم (58) لسنة 1978 في شأن العمد والمشايخ، فإن العقوبات تبدأ بالإنذار ثم الخصم من المكافأة الشهرية بما لا يجاوز الربع، ثم الحرمان من المكافأة لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وبعدها الحرمان من المكافأة لمدة تزيد على ثلاثة أشهر ولا تتجاوز ستة أشهر، وصولاً إلى الوقف عن العمل لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، مع صرف نصف المكافأة الشهرية، ونهايةً بالفصل من الخدمة.
إطلاق يد الأمن بدلاً من تعيين ضابط لكل قرية
وتأتي خطوات البرلمان بعد عامين من دعوات أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي بتعيين ضابط لكل قرية، وبرر طلبه في ذلك الحين للإشراف على مشروعات "حياة كريمة".
غير أن تصريحاته في ذلك الحين، التي جاءت بالتزامن مع انطلاق العمل في المشروع في 30 يونيو/حزيران 2021، أحدثت حالة من الغضب المجتمعي والسياسي، وسط حالة من التشكيك في الأهداف الحقيقية للقرار الذي لم يتم تنفيذه بشكل فعلي على الأرض.
وقال أحد قيادات الوحدات المحلية بقرية بني صالح بمحافظة بني سويف جنوب القاهرة، إن مشروع حياة كريمة ساهم في تسليط الضوء على أوضاع القرية المصرية، وإن العديد من الأجهزة الأمنية والقيادات العسكرية التي وُجدت بكثافة في أثناء تنفيذ المشروع ببعض القرى استطاعت أن تكون صورة كاملة بطبيعة الأوضاع التي تأخذ في التدهور مع تراجع الرقعة الزراعية وانتشار البطالة وتعدد أنواع الجريمة التي لم تكن حاضرة من قبل، والأكثر من ذلك أنها لاحظت غياباً واضحاً لأدوار العمد والمشايخ.
وكشف لـ"عربي بوست" أنه تم رفع تقارير للأجهزة الأمنية عن إمكانية انفلات الأوضاع في أكثر من 31 ألف عزبة وكفر ونجع مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعانيها هؤلاء، وأن هناك حاجة لأن تكون للأجهزة الأمنية أعين قوية تراقب ما يدور على أرض الواقع وتُعيد تفعيل التعاون بين العمد والمشايخ والأجهزة الأمنية، بما يجعل هناك قدرة على التدخل السريع في حال حدوث أي انفلات تخشاه وتتوقعه جهات حكومية تمضي في تقديم خطاب إنساني لأهالي القرى.
احتجاجات مخالفات المباني عالقة في أذهان السلطة المصرية
وأوضح المصدر أن الاحتجاجات التي وقعت في كثير من القرى مع قرار الحكومة بتنفيذ قرارات المصالحات في المباني المخالفة في عام 2020، كان دافعاً نحو إعادة التخطيط للتعامل مع أبناء القرى الذين لم تضعهم في السابق بدائرة الخطر، مع متانة علاقتها بالشيوخ والعمد، وعبر ضم كبار القرى إلى الحزب الوطني المنحل وتقديم إليهم كافة الإمكانيات التي تضمن استقرار القرية، وهو ما تراجع بشكل كبير بعد ثورة 2011، وعدم قدرة قيادات "حزب مستقبل وطن" على لعب الدور ذاته.
ودائماً ما كان دور شيخ القرية أو العمدة في حل المشكلات التي تنشب بين العائلات داخل القرى وتوصيل مطالب أبناء القرية إلى الأجهزة الأمنية أو الأجهزة المحلية إلى جانب لعبهم أدواراً تشبه ما يقوم به "المخبرون" التابعون لقوات الأمن عبر نقل أوضاع القرية وتفاصيل ما يدور إلى جهات أمنية تظل بعيدة عن المشهد، وتتدخل كلما اقتضت الضرورة ذلك.
يقول أحد شباب قرية الصالحية بمحافظة الجيزة، إن دور العمدة يختفي في كثير من القرى، تحديداً القريبة من نطاق المدن الكبرى، ولم يعد لديهم القدرة على حل المشكلات، كما أن أبناء القرية لم يعد لديهم التقدير السابق لشيخ القرية أو العمدة، إما لقناعتهم بأنهم مجرد موظفين لدى أجهزة الأمن أو لأن كثيراً منهم لم يعد لديه القدرة على إدارة مهام عمله.
وبالتالي فإن الحكومة وجدت أنها دون ظهير يسندها أو يُرشدها إلى التعامل مع حالة الغضب الشعبي جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية، على حد تعبيره.
تغيير الثقافة وانتشار السلاح أضعفا دور العمدة
ويكشف الشاب من قرية الصالحية لـ"عربي بوست" عن حدوث تغيير كبير في ثقافة أبناء القرية، بخاصة الأجيال الصاعدة التي ترفض الجلسات العرفية التي يلجأون فيها إلى العمد والمشايخ لحل الأزمات قبل أن تتصاعد.
كما أن انتشار السلاح على نطاق واسع في ظل سنوات الفراغ الأمني التي تلت ثورة يناير 2011، جعل هناك حالة من الانفلات لم تستطع الحكومة التعامل معها في أوقات عديدة، وأن حدوث اشتباكات بينها وبين أبناء القرية يخصم من صورتها لأنها تواجه بقدر أكبر من العنف، وفي كثير من المرات تنتظر فض المشكلة قبل أن تتدخل.
ويلفت إلى أن طبيعة المشكلات بين العائلات التي ترى أنها لم يعد لديها نفس القدر من المكاسب السياسية التي حققتها في السابق وبين الحكومة يجعل هناك حاجة لإعادة تفعيل أدوار العمد والمشايخ، حتى يقوموا بلعب دور وسيط بين الجهات الأمنية وبين العائلات التي تحاول استعادة نفوذها في المناصب التنفيذية والتشريعية مجدداً.
وأشار إلى أن التعديلات الأخيرة قد تفتح الباب أمام إعادة تشكيل المجالس المحلية ودعم عائلات بعينها واسترضائها من جانب الحكومة.
ولم تنعقد انتخابات المجالس المحلية منذ عام 2008، قبل أن يقوم المجلس العسكري، الذي تولى السلطة عقب إزاحة الرئيس الأسبق حسني مبارك من السلطة، بحلها.
ومنذ ذلك الحين تخشى جهات أمنية أن تستفيق على حقيقة مفادها أن أبناء القرية والمراكز والمحافظات النائية ليس لديهم ولاء سياسي إلى النظام الحالي، وهو ما تسبب في تجميد قانون الإدارة المحلية في البرلمان المصري منذ عدة سنوات.
وأكد أن طبيعة المشكلات بين العائلات الموجودة في القرية اختلفت الآن عما كانت عليه في السابق، فهناك خلافات من نوع آخر بين أهالي القرية والأجهزة الحكومية، مع توالي قرارات وقف التعدي على الأراضي الزراعية وتجميد البناء في القرى والمراكز، ما أحدث احتقاناً مجتمعياً وغيّب دور شيخ القرية أو العمدة، وثمة قناعة بعدم قدرتهما على التأثير في توجهات الحكومة، وهو ما كان دافعاً لتقصيرهما.
وقال مصدر مطلع بوزارة التنمية المحلية المصرية، إن العمد والمشايخ يساهمون في تخفيف العبء على المحاكم، لكن مع الإجراءات التي أجبرت أبناء القرية على دفع غرامات التصالح في المباني اتجه أبناء القرية بكثافة نحو المحاكم إما لمقاضاة الحكومة أو لإنهاء إجراءات دفع جدية التصالح، وفي كلا الحالتين فإن العمد لم يكن لديهم أدوار تقريباً وتراجع نفوذهم لأنهم لم يتمكنوا من التدخل لإثناء الحكومة عن قراراتها.
وأوضح أن التعديلات الأخيرة تستهدف تغيير عدد واسع من الشيوخ والعمد واستبدالهم بأسماء أخرى ترشحها الأجهزة الأمنية لديهم من المهارات والتعليم، ما يمكنها التعامل مع التطورات التي تشهدها القرية مع انفتاحها على العالم الخارجي، وسيكون اختيار العمدة من حاملي المؤهلات العليا، وأن يكون مثقفاً للغاية، ولديه مقدار من الحكمة والثبات الانفعالي للتفاوض مع الأشخاص.
الحكومة تستعين بالأثرياء لضمان السيطرة على القرية
وكشف عن أن الاختيار سيقع على أتباع الحكومة من الأثرياء بما يمكنهم من مساعدة الحكومة لتنفيذ مشروعاتها التنموية في الريف.
وتعول الأجهزة الأمنية على أن يكون نفوذ العمد والمشايخ انطلاقاً من ثقلهم الاقتصادي في القرية، باعتبار أن ذلك البعد يعد الأكثر فاعلية في هذا التوقيت مع تزايد الأزمات المعيشية لأبناء القرية، وأن الشخصيات التي لعبت أدواراً اجتماعية مثل إنشاء المدارس والوحدات الصحية سيكون لديها حضور على رأس منصب العمدة أو شيخ القرية.
ولفت إلى أن رؤية الحكومة تقضي بأن يكون لهؤلاء دور في حفظ الأمن من خلال إبلاغها بما يدور على الأرض، بجانب الدور الاجتماعي والاقتصادي، والحسم بين العائلات المتنازعة، مع أهمية منحهم المزيد من الأدوات التفعيلية والتنظيمية.
وقبل ثلاث سنوات أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رصد 700 مليار جنيه لتطوير الريف، على أن تشمل عملية التطوير 3 مراحل تصل تكلفة المرحلة الواحدة لـ200 مليار جنيه لصالح الأسر الأكثر احتياجاً.
ودعا في ذلك منظمات المجتمع المدني إلى المشاركة في مبادرة تطوير 500 ألف منزل، غير أن خطط التطوير تواجه تحديات مالية عديدة، وهو ما ساهم في تأخير انطلاق المرحلة الثانية حتى الآن.
ويقول خبير تنمية محلية، إن القرى المصرية تعاني العديد من المشكلات المتراكمة منذ سنوات طويلة، وإن تضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني التي لعبت الدور الأبرز في تقديم المساعدات إلى المحتاجين هناك ومساعي الحكومة لأن تكون هي فقط من تحضر لتقديم هذا الدعم ساهم في تردي أوضاع كثير من الأسر، والآن تحذر جهات أمنية من إمكانية انفجار الأوضاع بعد أن فشلت "الأحزاب الكرتونية" وبعض الجمعيات التي سمحت لها بالعمل بأن تسد الفجوات المعيشية الكبيرة، على حد قوله.
ويشير إلى أن العمد بدلاً من أن يصبحوا أدوات للحل أضحوا أطرافاً معرقلة في كثير من الأحيان لجهلهم بالسياسات العامة للدولة وضعف قدراتهم الإدارية، لكن في الوقت ذاته فإن التعديلات الأخيرة غير كافية وركزت على الجوانب الأمنية، ولا تمنح شيخ القرية الأدوات التنفيذية المناسبة التي تسهم في تخفيف حدة المشكلات التي يعانيها المواطنون.
وبدلاً من التركيز على المشكلة الأبرز، والتي تتمثل في انتشار الفساد بالمحليات وضرورة جعل وزارة التنمية المحلية وزارة غير مركزية، بمعنى فتح أفرع لها في المحافظات لحل المشكلات الإدارية، تذهب الحكومة نحو الحلول الأمنية التي قد تفاقم الأوضاع ولن تحلها.
وتشوهت صورة السلطة المحلية في القرى، فوفقاً للمصدر ذاته، فإن إدخال تعديلات تساهم في مزيد من النفوذ للأجهزة الأمنية على القرية سيخلق حالة من الاحتقان، وإذا لم يكن من ستقوم الأجهزة الأمنية بتعيينهم في منصب العمدة على هوى أبناء القرية فإن مزيداً من التوتر سيكون حاضراً لا محالة.
وأشار إلى أن أساس أي نجاح للعمدة أو شيخ القرية سيكون مرهوناً بقدرته على نسج علاقات تعاون مشترك مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية لخدمة سكان القرية والوفاء باحتياجاتهم.
وبحسب البرلمان المصري فإن أهداف التعديلات الأخيرة تتمثل في تيسير انعقاد لجنة العمد والمشايخ، وتحقيق المرونة المطلوبة لنظر شؤونهم التأديبية لصعوبة تشكيلها بالنص الحالي، وإضافة جزاءات انضباطية والتناسب بين المخالفة المرتكبة من العمدة أو الشيخ والجزاء المقرر، وتقرير عمومية الحكم بحرمان العمدة أو الشيخ الذي سبق فصله بقرار نهائي من حق التقدم لشغل الوظيفة مرة أخرى.
وتؤكد التعديلات أن دور وزارة الداخلية التي يحق لها اختيار العمدة أو شيخ القرية في منصبه لا يعنى ترك الباب مفتوحاً أمام تخليهم عن مسؤولياتهم المنوطة بهم، وسيواجه تقصيرهم في أداء خدمة مواطنيهم بعقوبات تصدر من مدراء الأمن ومساعدي وزير الداخلية، بجانب تسهيل مهمة انعقاد لجنة العمد والمشايخ المنصوص عليها في القانون، والتي تتولى مهمة إصدار قرارات إبعادهم أو توليهم مناصبهم.