لا تزال الأصداء مستمرة حول الزيارة التي قام بها سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، إلى العاصمة العراقية بغداد، يوم 19 مارس/آذار 2023.
فزيارة شمخاني، الذي يعد ممثلاً للمرشد الأعلى الإيراني، جاءت على رأس وفد أمني إيراني رفيع المستوى، ضم عدداً من ضباط الحرس الثوري الإيراني، ومسؤولين أمنيين من وزارة الاستخبارات الإيرانية، وانتهت بتوقيع الاتفاق الأمني بين طهران وبغداد.
فما السبب الحقيقي وراء توقيع هذه الاتفاقية؟ وهل كانت الزيارة معدة سلفاً؟ "عربي بوست" استطاع التواصل مع مصادر مطلعة في الجانبين العراقي والإيراني، لكشف حقيقة هذه الزيارة.
حماية الحدود الإيرانية وتهدئة التوتر المحتمل
قالت وسائل إعلام إيرانية محلية، إن الاتفاق الذي وقَّعه ممثل المرشد الأعلى الإيراني في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، مع نظيره العراقي، قاسم الأعرجي، كان يتم التخطيط له منذ شهور.
لكن مسؤولاً أمنياً إيرانياً رفيع المستوى كان من ضمن الوفد المصاحب لعلي شمخاني في زيارته لبغداد، قال لـ"عربي بوست"، إن الاتفاق الأمني مع العراقيين جاء بعد الاتفاق الإيراني السعودي، لتهدئة الوضع بين الحلفاء العراقيين، وإرضاءً لحكومة السوداني القلقة، على حد تعبيره.
وبحسب المصدر ذاته، فإن رئيس الوزراء العراقي طلب من الجانب الإيراني التوقيع على اتفاق أو مذكرة تفاهم أمنية، فيما يخص عدم تكرار القصف الإيراني للحدود العراقية في إقليم كردستان العراق شمالي البلاد.
في هذا الصدد، يقول مصدر حكومي عراقي مقرب من رئيس الوزراء العراقي، لـ"عربي بوست": "في ظل التفاهمات الإقليمية التي تقوم بها إيران، كان يجب على حكومة السوداني أن تضع حداً للقصف الإيراني للأراضي العراقية".
يذكر أنه في أعقاب الاحتجاجات المناهضة للحكومة الإيرانية، بعد مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني، بعد اعتقالها على يد إحدى دوريات "شرطة الأخلاق" في إيران، بزعم عدم ارتدائها الحجاب بشكل جيد، قامت الحكومة الإيرانية بإلقاء اللوم على جماعات المعارضة الكردية الإيرانية، التي تقيم داخل إقليم كردستان العراق، في تأجيج الاحتجاجات.
وعلى إثر هذا الاتهام، قام الحرس الثوري الإيراني بشن هجمات صاروخية بطائرات بدون طيار، داخل الأراضي العراقية، في إقليم كردستان، لاستهداف جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المسلحة، والتي تطلق عليها الحكومة الإيرانية اسم "الانفصاليون الإرهابيون".
رفضت الحكومة العراقية مراراً انتهاك سيادة أراضيها، وكان هذا الأمر من أهم النقاط التي تحدَّث فيها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في زيارته لإيران في وقت سابق، عقب توليه منصبه.
ذكر المصدر الحكومي المقرب من رئيس الوزراء العراقي لـ"عربي بوست"، أن السوداني طلب من الإيرانيين عدم تكرار قصف الأراضي العراقية لعدم إحراج الحكومة.
"ماطل الإيرانيون في تقديم وعد بذلك، لكن بعد الاتفاق الإيراني السعودي، عاد السوداني وكرر طلبه عبر الرسائل المرسلة إلى طهران، فوافق الإيرانيون عن طريق قبولهم لتوقيع اتفاق أمني ووضعوا شروطاً"، بحسب المصدر.
من جانبها، أرادت طهران أن تستكمل مسيرتها الدبلوماسية الناجحة في الأسابيع الماضية، وأن تضمن أمن حدودها مع العراق من خلال توقيع اتفاق أمني مع الحكومة العراقية، لمنع جماعات المعارضة الكردية الإيرانية من استهداف الداخل الإيراني.
في هذا الصدد، يقول مسؤول أمني إيراني رفيع المستوى لـ"عربي بوست": "الاتفاق الأمني مع حكومة بغداد هام للغاية فيما يخص الانفصاليين الأكراد المقيمين في كردستان العراق، لا تريد الحكومة الإيرانية أن يشن هؤلاء عمليات داخل البلاد تفسد على الإيرانيين نجاحهم الدبلوماسي الأخير"، على حد قوله.
وأضاف المصدر: "كي يحدث ذلك كان من الضروري جعل الأمر بشكل رسمي، لأننا طلبنا من الحكومة العراقية أكثر من مرة تأمين الحدود مع إيران، ولكن لم يحدث ما هو متوقع".
دائماً ما تتهم طهران جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المقيمة في إقليم كردستان بالتعاون مع إسرائيل لاستهداف الأمن القومي الإيراني، وفي أثناء توقيع الاتفاق الأمني بين طهران وبغداد، طلب شمخاني من الحكومة العراقية أن تقوم بالعمل على نقل جماعات المعارضة الكردية الإيرانية إلى مخيمات اللاجئين، بدلاً من تمركزها على الحدود مع إيران.
تهدئة الوضع مع الحلفاء العراقيين
لكن جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المتمركزة في إقليم كردستان العراق لم تكن السبب الوحيد لزيارة شمخاني ووفده الأمني إلى العاصمة العراقية بغداد. فهناك أيضاً لقاءات تمت مع قادة الفصائل المسلحة الشيعية المقربة من طهران في العراق.
قال مصدر أمني إيراني، لـ"عربي بوست"، دون الرغبة في الكشف عن هويته نظراً لحساسية الموضوع: "لمسنا بعض القلق من قِبل الحلفاء العراقيين بعد الاتفاق مع السعودية، وقد وصل لنا أن البعض قلِق من تراجع إيران عن دورها في قيادة محور المقاومة، لذلك كان من الضروري إيضاح بعض الأمور".
تقود إيران ما تُطلق عليه "محور المقاومة"، المكون من حلفائها المسلحين في العراق، لبنان، سوريا، واليمن، والذي يركز عملياتها على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. بعض الفصائل المسلحة المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي العراقي تعتبر جزءاً من محور المقاومة الذي تقوده إيران.
وقد استهدفت هذه الجماعات في السابق أكثر من مرة، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، تضامناً مع جماعة أنصار الله اليمنية، أو ما يطلق عليهم اسم "الحوثيين"، المدعومين من إيران في اليمن.
في هذا السياق، يقول مصدر سياسي عراقي مقرب من الفصائل المسلحة الشيعية المقربة من طهران في بغداد، لـ"عربي بوست": "الحكومة العراقية السابقة لعبت دوراً هاماً ومحورياً في تمهيد الأرضية المناسبة للحوار السعودي الإيراني، وكانت الفصائل المسلحة والسياسية المقربة من إيران ترحب بهذا الحوار على الأراضي العراقية".
"لكن فجأة يتم الاتفاق النهائي في الصين، وبشكل مباغت للغاية، وهذا ما خلق غضباً مستتراً، وقلقاً لدى بعض المقربين العراقيين من إيران"، بحسب المصدر.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه عقب إعلان الاتفاق بين السعودية وإيران في الصين، يوم 10 مارس/آذار الجاري، أعلنت بعض الفصائل المسلحة الشيعية في العراق والمقربة من إيران، عن موقفها المنفصل عن هذا الاتفاق، مؤكدة استمرارها في المقاومة ضد أي تهديدات موجَّهة إلى العراق.
في هذا الصدد، يقول قائد في فصيل مسلح شيعي مقرب من إيران، لـ"عربي بوست"، دون الرغبة في الكشف عن هويته: "الإيرانيون يضعون مصلحتهم في المقام الأول، ونحن نعرف ذلك وتعودنا عليه، لكن لن نوافق أن تتم المصالح الإيرانية على حساب مصالحنا".
وأضاف المصدر: "هذا لا يعني إعلان التمرد أو العصيان، فالإيرانيون إخوة في النهاية، وساعدونا كثيراً، لكن لدينا حساباتنا الخاصة المنفصلة عن إيران. طهران لا تملكنا، بل هي حليف قوي".
وبحسب مصادر أمنية إيرانية، فقد اجتمع عدد من قادة الحرس الثوري والمسؤولين في وزارة الاستخبارات الإيرانية المرافقين لعلي شمخاني، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في زيارته لبغداد، مع عدد من قادة الفصائل المسلحة الشيعية العراقية المقربة من إيران، لمعالجة مخاوفهم.
قال مصدر أمني إيراني مطلع على هذه اللقاءات، لـ"عربي بوست": "ناقشنا الكثير من الأمور، على رأسها تأكيد الدعم الإيراني لحلفائنا العراقيين، وإعلان رغبتنا في تهدئة الأوضاع في المنطقة. الدبلوماسية والحوار الآن هما أفضل سلاح، وتفهم الجميع الأمر".
ولم يرغب المصدر الأمني الإيراني في الإفصاح عن المزيد من التفاصيل فيما يخص هذا اللقاء، مع قادة الفصائل المسلحة الشيعية العراقية قائلاً لـ"عربي بوست": "الأمر ليس بمشكلة كما يعتقد البعض، ونحن لا ننكر دور العراق في التعاون على الحوار الإيراني السعودي في السابق".
خامنئي هو المحرك للخطوات الإيرانية الأخيرة
أما فيما يخص الخطوات الجديدة التي اتخذتها إيران من أجل تطبيع علاقاتها مع دول الخليج، فقالت مصادر إيرانية مقربة من دوائر صنع القرار في طهران، لـ"عربي بوست"، إن المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، كان المصمم الرئيسي وراء رحلات شمخاني الأخيرة إلى الصين، والجلوس للتفاوض مع الوفد السعودي، وزيارته إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقال مصدر سياسي إيراني مقرب من مكتب المرشد الأعلى لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته: "مسألة التقارب مع السعودية ودول الخليج لم تأتِ من حكومة إبراهيم رئيسي، بالرغم من أن رئيسي يريد التقارب مع دول الخليج، لكن هذه المرة الرغبة آتية من المرشد الأعلى شخصياً، وكل خطوات شمخاني كانت بتخطيط من خامنئي".
وأضاف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "اختار المرشد الأعلى، شمخاني، للقيام بهذه المهمة بعد اليأس من استئناف المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة. رأى خامنئي أن الأوان قد حان لتحسين علاقات إيران بدول الجوار، وشمخاني هو الرجل المناسب لهذه المهمة".
يذكر أن شمخاني في المقام الأول يحظى بثقة وقرب كبيرين من المرشد شخصياً. ثانياً أصوله العربية تؤهله ليكون حلقة التواصل مع العرب.
المرحلة القادمة: التطبيع مع مصر والأردن
بعد أن توصلت إيران لاتفاق تاريخي مع السعودية، وينتظر كلا البلدين استعادة العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين كما تم الإعلان عنه في البيان الثلاثي الصادر من بكين، تسعى إيران إلى مواصلة التطبيع مع باقي دول المنطقة، وعلى رأسها مصر والأردن، كما قالت مصادر إيرانية تحدثت لـ"عربي بوست".
في هذا الصدد، يقول مسؤول أمني ثانٍ رفيع المستوى في حديثه لـ"عربي بوست"، "أبدى المرشد الأعلى رغبته وانفتاحه في بدء حوار دبلوماسي وأمني مع المسؤولين في كل من مصر والأردن، وقد تمت مناقشة هذا الأمر في زيارة علي شمخاني إلى أبوظبي".
ويؤكد هذا الأمر مسؤول حكومي إيراني مقرب من علي شمخاني، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، قائلاً لـ"عربي بوست": "المرحلة القادمة هي تطبيع العلاقات مع مصر والأردن، وأبلغْنا المسؤولين السعوديين بأن الأمور مهيأة لعقد لقاءات مع المسؤولين المصريين والأردنيين".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "أعتقد أن الأمر سيحدث (أي المفاوضات مع مصر والأردن)، بعد إعادة فتح السفارات بين طهران والرياض، ترى طهران أن هذا هو الوقت المناسب".
وأشار المصدر السابق إلى أنه في السابق كانت هناك مباحثات على المستوى الأمني مع مسؤولين أمنيين مصريين، في وقت من الأوقات، يقول لـ"عربي بوست": "خلال العام الماضي، التقى مسؤولون أمنيون إيرانيون ومصريون في عمان، وتحدثوا عن الكثير من الأمور المتعلقة باستعادة الثقة بين البلدين".