أثار توجه الحكومة المصرية لإنشاء ما سمته "مقبرة العظماء" أو "مزار الخالدين" في العاصمة الإدارية الجديدة، لنقل رفات العديد من الشخصيات التاريخية والعامة المدفونة بمقابر مصنفة ضمن التراث الثقافي العالمي بمنظمة اليونسكو وتقع في القاهرة التاريخية وغيرها من المناطق، جدلاً ثقافياً وعمرانياً واسعاً خلال الأيام الماضية.
ووافقت لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس الشيوخ، على مقترح قدمه النائب محمد فريد، بشأن إقامة "مقبرة العظماء" في العاصمة الإدارية الجديدة، وأوصت بإدراجه للتنفيذ في خطة وزارة الثقافة وجهاز التنسيق الحضاري بالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية وشركة العاصمة الإدارية الجديدة.
وقال برلماني مصري بمجلس الشيوخ -رفض ذكر اسمه- إن المقترح جاء بتوصية من وزارة الثقافة التي أعدت من خلال الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع دراسة تضمنت إنشاء مزار سياحي لتخليد ذكرى من أبدعوا وساهموا في رسم ملامح الوطن، وأن الدراسة ارتكنت على تجارب غربية قامت بتوفير أماكن تليق بعظمائها وانجازاتهم بحيث يكون هناك مساحات لخلق فرصة للأجيال الحالية والقادمة للاطلاع على إنجازاتهم.
2.5 مليار جنيه تكلفة مبدئية لإنشاء المقبرة
وكشف البرلماني أن التكلفة المبدئية لإنشاء المقبرة تصل إلى 2.5 مليار جنيه، وأن النقاشات داخل مجلس الشيوخ تطرقت إلى الجهة التي تتحمل هذه التكلفة الضخمة.
وطالب بعض النواب -بحسب المصدر- بأن تتحمل شركة العاصمة الإدارية تكلفة المشروع، أو الهيئات الحكومية المسؤولة عن تطوير القاهرة التاريخية والتي تسعى لاستغلال أماكن المقابر لتحويلها إلى طرق سريعة تساهم في فك التكدس السكاني بمناطق قريبة من وسط القاهرة.
وشدد المتحدث ذاته على أن الفكرة تواجه العديد من الصعوبات في مقدمتها كيفية تحديد من يتم إطلاق عليهم كلمة "عظماء" ويستحق النقل إلى المقبرة الجديدة. كذلك كيفية استخراج الرفات بعد مئات السنين وقد اختلطت برفات أقاربهم، إذ لن يكون ذلك ممكناً في كثير من المدافن الموجودة حالياً، إلى جانب كيفية التعامل مع الجهات الدولية المنوطة بالحفاظ على التراث والتي سيكون لديها اعتراضات عديدة على مثل هذه الخطوة.
من وجهة نظر المصدر، فإن الحكومة المصرية تسعى لتجميل صورتها بعد أن طالتها اتهامات من جهات ثقافية دولية بالتعدي على المقابر التاريخية. كما أن لديها رغبة في أن تطال عملية الهدم مقابر اليهود، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع اتخاذ مثل هذا الإجراء طالما أنها لم تطبقه على باقي المقابر التاريخية التي تمتلكها.
في العام 1979 تم تسجيل القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويقع كثير من المواقع التي تضم جبانات ضمن منطقة القاهرة التاريخية، ما يثير التساؤل عن فكرة أن يكون هذا حامياً لهذه المناطق من أعمال الهدم باعتبارها منطقة تراثية معترفاً بها دولياً.
وكانت حجة النائب محمد فريد وهو يمثل حزب مستقبل وطن (الظهير السياسي للحكومة) بمجلس الشيوخ، بأن "مصر تمتليء بالأشخاص الذين قدموا الكثير من المعارف والفنون والإنجازات، ليس لوطنهم فحسب، بل تتجاوز إنجازاتهم لتؤثر في العالم بأسره، ليتجاوز حقهم الأدبي على الدولة المصرية ليس فقط تكريمهم في حياتهم، ولكن تكريمهم بعد وفاتهم أيضاً، وفي قلب ذلك التكريم الاهتمام بمثواهم الأخير".
وكشف النائب عن أن الأولوية في الانتقال لمقابر العظماء ستكون للشخصيات المؤثرة بالمقابر المتواجدة بأماكن عادية، مثل طه حسين ويحيى حقي ونجيب محفوظ ولطفى السيد، على أن تتم مراحل إنشاء المقبرة على ثلاث مراحل أولاها اختيار مكان إقامة هذه المقبرة في العاصمة الإدارية، وثانيها بتصميم النصب التذكاري من خلال مسابقة بين المعماريين، إلى جانب تشكيل لجنة تضع معايير ومواصفات الشخصيات التي رحلت، وسيتم نقل رفاتها لهذه المقبرة.
رغبة الحكومة في إنهاء المحاور والطرق
أشار مصدر حكومي مطلع لـ "عربي بوست" إلى أن مقترح إنشاء المقبرة يتماشى مع الرغبة في إنجاز عدد من المحاور والطرق التي من المقرر أن يتم الانتهاء منها خلال هذا العام أو العام القادم على أقصى تقدير، وأن جهات محلية تابعة لمحافظة القاهرة في طريقها لإزالة مجموعة من المقابر في منطقة قرافة سيدي عبد الله في منطقة التونسي بحي الخليفة (وسط القاهرة) من أجل إنشاء محور ياسر رزق في منطقة المقطم.
وكشف المصدر أن قطار الإزالة من المتوقع أن يطال مقابر أخرى بينها مقبرة السيدة نفيسة والإمام الشافعي بغرض تطوير المنطقة وشق طرق ومحاور مرورية جديدة، وأن محافظة القاهرة بدأت خطاباتها إلى الأهالي في المناطق القريبة من تلك المدافن لنقل رفات موتاهم وتمنح المحافظة مقابر بديلة للأهالي في مدينة 15 مايو (شرق القاهرة).
يعتبر المصدر أن مخططات الحكومة لتطوير المناطق المتكدسة بالمواطنين في القاهرة التاريخية أخذت حيزاً واسعاً من الدراسة والنقاشات، ولم يكن هناك بديل سوى تجهيز مقابر أخرى. وأن مقترح "مقبرة العظماء" يتم طرحه الآن على ما تبقى من عائلات الشخصيات التاريخية، إلى جانب التواصل مع منظمة اليونسكو للحصول على موافقة بنقل الرفات، بالتزامن مع إثارة القضية للنقاش في الجلسة العامة بمجلس الشيوخ خلال هذا الشهر، ومن ثم انتقال المقترح إلى مجلس النواب الذي من المتوقع أن يوافق عليه أيضَا في غضون شهرين على الأكثر.
ووضعت وزارة التنمية المحلية علامات باللون الأحمر، على مقابر تاريخية تعود لمئات السنين، بما فيها رموز السياسة والأدب في القرن الماضي لنقلها إلى مدافن أخرى خصصتها في مدينتي العاشر من رمضان التابعة لمحافظة الشرقية ومدينة 15 مايو بالقاهرة.
وكانت آخر المقابر التي أثار هدمها جدلاً واسعاً، مقبرة الأديب يحيى حقي في شهر ديسمبر/كانون الأول 2022. قبلها تراجعت السلطات عن هدم مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، بعد تهديد أسرته بنقل رفاته إلى خارج البلاد، كما طال الهدم مقبرة يوسف صديق عضو مجلس قيادة ثورة 1923.
ومنذ عام 2014، دشنت الحكومة أكثر من 600 جسر ونحو 21 طريقاً جديداً، بتكلفة أكثر من 85 مليار جنيه، حسب وزارة النقل، لكن تلك المشاريع قوبلت بانتقادات من جمعيات مهتمة بالتراث.
مقترح غير قابل للتطبيق على أرض الواقع
وقال أكاديمي متخصص في التخطيط العمراني – رفض ذكر اسمه – لـ "عربي بوست" إن مقترح الحكومة المصرية يتضمن نقل أماكن أثرية من مكانها إلى أماكن جديدة لتدشين مشروعات الطرق الكباري وهو أمر لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع وسيكون من الصعب إقناع الجهات المهتمة بالثقافة والتراث بمساعيها، مشيراً إلى أن القاهرة مليئة بالمدافن التراثية ولا يمكن اتخاذ مثل هذه الإجراءات عبر قرارات سياسية بعيداً عن الدراسات التي من المفترض أن يقوم عليها المتخصصين.
وأوضح أن أقصى ما يمكن أن تفعله الحكومة إذا أرادت احترام تراثها فإنها عليها أن تزيل الأضرار والتشوهات التي لحقت بتلك الأماكن بعد أن تركتها عرضة للسرقة والنهب لعقود طويلة. كما أن منظمة اليونسكو تحظر بشكل تام تغيير معالم الأماكن التاريخية سواء بإضافة عمران جديد إليه أو بإزالتها أو هدم أجزاء منها، بل إنها تُلزم الحكومات بتوفير بيئة محيطة تساعد على حماية الآثار وتحترم قيمتها بما يمنع أي أضرار مستقبلية قد تتعرض لها.
وشدد على أن التعامل مع الأماكن الأثرية يجب أن يكون من خلال المتخصصين في العمارة التاريخية، وليس عبر استدعاء شركات المقاولات، وليس من الطبيعي أن ترتكن الحكومة على موافقة من مجلسي الشيوخ أو النواب أو دراسة صادرة عنها لتتخذ قراراً بشأن مئات المقابر التاريخية، ولابد أن تأخذ القضية حقها في الدراسة والبحث قبل اتخاذ إي إجراءات متسرعة، من خلال تشكيل لجنة تاريخية أثرية علمية هندسية محايدة تدرس الموضوع وتقرر القيمة التاريخية والأثرية للمقابر الحالية.
وتمثل جبانات القاهرة جزءاً من طابعها الثقافي والمعماري، الذي تطور عبر العصور، لكنه لا يزال نسيجاً متكاملاً تضاف إليه أجزاء جديدة في حين تبقى القديمة حاضرة باعتبارها جزءاً من كل، وطبقة من طبقات التاريخ الممتد للمدينة والذي يتجاوز الألف عام.
الحكومة تقضي على التنوع تراث المدافن التاريخية
ويؤكد باحث في التراث العالمي أن جبانات القاهرة تعد ثاني أقدم مقابر إسلامية بعد البقيع في المدينة المنورة، وبدأ استخدامها مع دخول المسلمين إلى مصر قبل 1400 عام، وتضم رفات العديد من أولياء الله الصالحين وشخصيات كثيرة ارتبطت بالتاريخ المصري منذ عهد محمد علي باشا، مروراً بأعلام القرن العشرين من الفنانين والسياسيين والعلماء، مشيراً إلى أن جبانات القاهرة التاريخية تنقسم إلى قرافة المماليك، قرافة الإمام الشافعي، قرافة السيدة نفيسة.
ويشير إلى خطوة الحكومة من شأنها أن تقضي على التنوع التي يحظى به تراث المدافن التاريخية في مصر، ولن تستطيع أي لجان تشكلها أن تضع معايير رئيسية يمكن على أساسها اختيار من تصفهم بأنهم عظماء، وأن دراسة الحكومة تركز بالأساس على المناطق التي تنشط فيها المشروعات القومية في هذا التوقيت دون أن يكون لديها رؤية شاملة للتعامل مع جميع المعابد والمقابر الإسلامية واليهودية والقبطية.
ويلفت إلى أن الهدف المعلن التي تقوله الحكومة بأنها تسعى لإحياء التراث المعماري والحضاري، لابد أن يكون من خلال الحفاظ على القيمة التاريخية لأماكن دفنهم، بحيث تكون مهيأة لأن تصبح مزاراً للخالدين بدلاً من حالة الإهمال الراهنة، كما أن عملية نقل الرفات في جميع دول العالم لا تعني بأي حال من الأحوال هدم الأثر الأساسي التي كانت تتواجد فيه، وأن حماية التراث ترتبط بالأساس بالحفاظ على تلك الأماكن من الهدم أو التخريب.
وقدم العديد من الباحثين في التراث مقترحات عديدة إلى الحكومة المصرية لتجنب هدم المقابر، وفقاً للمتحدث ذاته، الذي شدد على أن بعضها تمثل في إقامة أنفاق أسفل الأرض بدلاً من الكباري والطرق العلوية، إذا كان الهدف هو تخفيف التكدس في تلك المناطق، مشيراً إلى أنه من الممكن توظيف تلك الأماكن التاريخية لتصبح مزاراً سياحياً تستفيد منه الحكومة المصرية في حين أن نقل الرفات إلى أماكن متطرفة لن يجذب أحداً.
وخلصت الدراسة التي قام بها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري واعتمدت عليها الحكومة في تحريك مقترح مجلس الشيوخ إلى أنه تم اختيار العاصمة الإدارية لما تحمله من قيمة مستقبلية، وتتمثل أهمية المشروع في تعزيز البعد الثقافي والهوية من خلال المزار، ودعم تحويله إلى واجهة سياحية، واقترحت بأن يشمل المشروع مركزاً للزوار ومكتبة ومتحفاً يضم الكنوز العلمية والفنية والأدبية لشخصيات مؤثرة في بناء تاريخ مصر القديم والحديث وقاعات تحكي تاريخ الشخصيات ونصباً تذكارية للمزار يعبر عن هوية وفكرة المشروع.
واعتبرت خبيرة معمارية أخرى أن إنشاء مقبرة في منطقة متطرفة على حدود العاصمة الإدارية الجديدة اعتداء على عشرات الآلاف من الأعيان والشخصيات العامة، والرواد، من المصريين والجنسيات الأخرى، وأن الربط بين المشروع الحالي وبين دول أخرى نفذت نفس الاقتراح ليس في محله؛ لأن تلك الدول لا تهدم المدافن الأصلية، بل إن مصر ذاتها لا يمكنها هدم أي معابد أثرية لأي من الفراعنة القدماء بالرغم من نقل المومياوات الخاصة بهم.
وشددت على أن فكرة إقامة نصب تذكاري للشخصيات التاريخية لا يمكن الاعتراض عليها، وقد تكون قابلة للتنفيذ دون أن يطال ذلك المدافن ذاتها، كما أن المبلغ المبدئي المحدد للمشروع والمقدر بأكثر من ملياري جنيه يمكن أن يتم توظيفها لتطوير الجبانات الحالية وتحويلها إلى مزارات سياحية، خصوصاً أن القاهرة التاريخية ليست بحاجة إلى كل هذه الطرق والكباري مع وجود عاصمة جديدة من المتوقع أن تنتقل إليها الهيئات الحكومية التي تتكدس بوسط القاهرة.
وتتميز عمارة كثير من المقابر في منطقة الجبانات التاريخية بطابع معماري فريد يختلف ويتطور باختلاف العصر، ويمثل في ذاته إرثاً ثقافياً يؤرخ لثقافة الموت، التي تعتبر جزءاً رئيسياً من تاريخ المصريين منذ عصر مصر القديمة.