تتزايد المخاطر التي تهدد استقرار إقليم كردستان العراق نتيجة الصراعات السياسية المتزايدة بين السياسيين الأكراد، والتي بدأت تأخذ منحنى تصاعدياً في الأيام الماضية، وسط مطالبات بـ "إدارة مزدوجة" في الإقليم.
إدارة مزدوجة، تهديد أم رغبة حقيقية؟
في مقابلة صحفية مع بافل طالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، نهاية العام الماضي، أشار إلى إمكانية إقامة "إدارة مزدوجة" بين الحزبين الكرديين في إقليم كردستان.
في هذا الصدد، يقول سياسي كردي بارز في الاتحاد الوطني الكردستاني لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه: "هناك رغبة حقيقية لدى بعض قادة الاتحاد الوطني الكردستاني لإنشاء إدارة مزدوجة، وعلى رأسهم بافل طالباني، تكون هناك إدارة مستقلة خاصة بالسليمانية، وأخرى تابعة لأربيل، هذا أفضل للجميع".
على الجهة الأخرى، وعلى ما يبدو فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني لا يأخذ حديث بافل طالباني عن "إدارة مزدوجة" في إقليم كردستان العراق، بشكل جاد، فيقول مسؤول في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، لـ"عربي بوست": "نعتقد أن حديث طالباني عن إدارة مزدوجة لا يتعدى كونه تهديداً لتحقيق أهداف معينة تدور في حسابات طالباني".
لكن السياسي الكردي المنتمي للاتحاد الوطني الكردستاني ينفي هذا الأمر، ويؤكد لـ"عربي بوست"، قائلاً: "لا، الأمر ليس تهديداً، بل رغبة حقيقية وقوية، السليمانية والأراضي الواقعة تحت سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني تعاني من التمييز الشديد، الذي يمارسه عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني المسيطر على موارد وعائدات الإقليم بشكل مستفز".
دائماً ما كان محور الخلافات بين الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، هو شكوى الأول من الظلم الذي يتعرض له من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني، في مسألة تقسيم عائدات إقليم كردستان العراق.
الباحث السياسي الكردي المستقل، أزاد محمد، يؤكد لـ"عربي بوست"، هذه المسألة، قائلاً: "لا أؤيد سياسة أي من الحزبين، ولكن أي شخص عادي يذهب إلى أربيل والسليمانية يستطيع أن يدرك هذا الظلم الواقع على السليمانية، البنية التحتية والطرق المبهرة والخدمات عالية الجودة في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني، يقابلها تدنٍّ في الخدمات العامة، وتدهور في البنية التحتية في الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني، وذلك لنقص الموارد المالية عن السليمانية".
لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني لا يرى أنه السبب في هذه المسألة التي أشار إليها الباحث السياسي الكردي والسياسي المنتمي للاتحاد الوطني الكردستاني. يقول مسؤول ثانٍ في الحزب الديمقراطي الكردستاني لـ"عربي بوست": "يقولون إن السليمانية تعاني، لماذا؟ الإجابة ليست في أربيل، الإجابة لدى قادة الاتحاد الوطني الكردستاني". في إشارة من المصدر إلى شبهات فساد في إدارة السليمانية، معقل أنصار الاتحاد الوطني الكردستاني.
بالعودة إلى مسألة رغبة بافل طالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، في إقامة "إدارة مزدوجة"، السياسي الكردي المنتمي للاتحاد الوطني الكردستاني، يوضح لـ"عربي بوست": "إذا استمر الحزب الديمقراطي الكردستاني في التمييز ضدنا، وعدم الوصول إلى اتفاقيات جادة بشأن تقسيم الموارد المالية، فإن الإدارة المزدوجة أفضل شيء للجميع، وهكذا يرى بافل طالباني الأمر".
لكن الباحث السياسي الكردي المستقل آزاد محمد يُشكك في جدية مسألة الإدارة المزدوجة التى يريدها بافل طالباني، فيقول لـ"عربي بوست": "الاتحاد الوطني الكردستاني أضعف من أن يُدير المناطق الواقعة تحت سيطرته، تكفيه الصراعات الداخلية، والاقتتال بين أبناء العمومة، هذا ليس حلاً، الحل يكمن في جلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات للتحدث بعقلانية".
تصاعد الصراع في الإقليم
لطالما كان إقليم كردستان من أكثر المناطق استقراراً داخل العراق، بالإضافة إلى تمتعه بمزايا عديدة على رأسها، حماية الولايات المتحدة، منذ زمن حكم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، وحتى يومنا هذا، إلا أنه منذ عام 2017 وبالتحديد بعد وفاة جلال طالباني، الرئيس العراقي السابق، والسياسي الكردي المخضرم، زاد الصراع بين الأطراف السياسية الكردية، في إقليم كردستان العراق، ما ينذر بتوسيع نطاق هذا الصراع.
في تقرير مفصل سابق، تناول "عربي بوست" الصراع المتزايد بين الحزبين الحاكمين الرئيسيين في إقليم كردستان العراق، الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة عائلة بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة عائلة طالباني.
يتقاسم الحزبان السلطة في حكومة إقليم كردستان العراق، وأيضاً في الحكومة الفيدرالية ببغداد، لكن يُنظر إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني على أنه صاحب اليد العليا في حكومة أربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق)، والحزب الأقوى، بينما يُعد الاتحاد الوطني الكردستاني، منافسه الأضعف، قليلاً.
دائماً ما شهد إقليم كردستان العراق صراعاً على السلطة، تطور في عام 1994 إلى حرب أهلية دموية، استمرت حتى عام 1997. لكن اتفاقية السلام التي تم عقدها بين الحزبين برعاية الولايات المتحدة في عام 1998، أنهت سنوات الحرب الأهلية، وساعدت على هدوء الوضع أكثر، اتفاقية تقاسم السلطة بين الحزبين في عام 2007، بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
استمرت سنوات الهدوء النسبي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يسيطر على عدة مناطق وعاصمته مدينة أربيل، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يسيطر على عدد آخر من المناطق وعاصمته مدينة السليمانية.
ثم جاءت وفاة جلال طالباني، الرئيس السابق للعراق، وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، كبداية لتجدد الصراع بين الحزبين، زادت شدة هذا الصراع في الفترة الأخيرة، مع تولي الأبناء من العائلتين (بارزاني، وطالباني)، المناصب السياسية والحزبية العليا.
كانت ذروة هذا الصراع في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وكما قالت المصادر الكردية المختلفة، لـ"عربي بوست"، في التقرير السابق، فإن ذروة الأزمة كانت حادثة اغتيال ضابط المخابرات البارز المنتمي إلى الاتحاد الوطني الكردستاني، هوكار عبد الله، بعد انشقاقه عن الاتحاد الوطني الكردستاني، وذهابه للإقامة في مدينة أربيل، معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي بدوره اتهم قائد جهاز المخابرات التابع للاتحاد الوطني الكردستاني، "وهاب حلبجاي"، بتدبير عملية اغتيال "هوكر عبد الله".
في هذا السياق، يقول مسؤول كردي رفيع المستوى، معتدل ومنتمٍ إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الإشارة إلى هويته: "في السنوات القليلة الماضية، أي من بعد وفاة جلال طالباني، كانت الخلافات بين قادة الحزبين أغلبها إدارية ومالية، وكان القادة مسيطرين عليها إلى حد ما، لكن بعد حادثة اغتيال هوكر عبد الله، ومن قبلها انشقاقه عن الاتحاد الوطني الكردستاني، زادت الصراعات ووصلت إلى حد ينذر بالشؤم على إقليم كردستان".
جدير بالذكر، أن ضابط المخابرات البارز، هوكر عبد الله، كان يعمل في فرع مهم في جهاز المخابرات التابع للاتحاد الوطني الكردستاني، وكان على رأس مهامه جمع المعلومات عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، والبلدان الإقليمية التى على علاقة بإقليم كردستان العراق، بحسب مسؤول أمني كردي في مدينة السليمانية (معقل الاتحاد الوطني الكردستاني).
وعلى ضوء هذه الخلفية فإن انشقاقه عن الاتحاد الوطني الكردستاني، وتغيير ولائه إلى الخصم القوي، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني، كان بمثابة الخيانة الكبرى لقادة الاتحاد الوطني الكردستاني، ما زاد من حد الصراع بين الحزبين.
شبح فقدان استقلال إقليم كردستان
ظل إقليم كردستان العراق لفترة طويلة نموذجاً عراقياً مستقلاً ومستقراً، بسبب اتفاقيات تقاسم السلطة والسلام بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، بالإضافة إلى تمتع الإقليم بالموارد الطبيعية الغنية، مثل النفط والغاز الطبيعي، وصداقة ودعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، خاصة العلاقات القوية بين أربيل وواشنطن.
يقول مسؤول في الاتحاد الوطني الكردستاني، ومعارض لفكرة إنشاء "إدارة مزدوجة"، التي يدعو لها بافل طالباني، لـ"عربي بوست": "إذا تحقق هذا الأمر، ستكون بداية النهاية لاستقلال واستقرار الإقليم، إقليم كردستان كان وما زال الدولة الكردية الوحيدة الناجحة، ونقطة مهمة لالتقاء القومية الكردية، تقسيم السلطة داخل الإقليم يهدد مستقبل إقليم كردستان السياسي".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "نعم هناك مشاكل في الإدارة، وهناك مشاكل أكبر في تقاسم العائدات، لكن المشاكل لا يمكن حلها بتقسيم الإقليم، الحل في التعاون بين قادة الحزبين، يجب أن ينظروا إلى مصالح الشعب الكردي، وأهمية استمرار استقرار الإقليم، وهذا لن يتحقق، طالما كل طرف منهما يهتم بمصالحه ومصالح أنصاره فقط".
أشارت المصادر التي تحدثت لـ"عربي بوست"، من كلا الحزبين، إلى نقطة مهمة، وهي عدم المرونة بين قادة الحزبين. يقول سياسي كردي مخضرم منتمٍ للحزب الديمقراطي الكردستاني، لـ"عربي بوست": "بافل طالباني شخصية صعبة، غير متعاون وغير مرن، كما أن مسرور بارزاني أيضاً لا يتعامل بحنكة سياسية فيما يخص الصراع بين الحزبين، في الماضي كان الآباء متعاونون بشكل أفضل، لكن الآن هناك تهور وعدم قدرة على إدارة العملية السياسية بمرونة".
مسرور بارزاني هو رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، وهو نجل الرئيس السابق لحكومة أربيل مسعود بارزاني، في الآونة الأخيرة يعمل مسرور بارزاني على توطيد سلطته وتوسيع نفوذه داخل أربيل، ما جعله يخوض صراعاً غير معلن مع ابن عمه نيجيرفان بارزاني، الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، بفضل والدته المنتمية للحزب في السابق.
المخاوف الخارجية
تهديد استقرار إقليم كردستان العراق، والخوف من اندلاع حرب أهلية حتى وإن كان احتمالاً بعيداً، هي مخاوف تزداد بمرور الوقت داخل الإقليم، لكنها تمتد إلى خارجه أيضاً.
الاقتتال السياسي داخل إقليم كردستان لا يساعده في إدارة أزماته مع الحكومة الفيدرالية في العاصمة العراقية بغداد، وعلى رأس هذه الأزمات مسألة الميزانية الفيدرالية التي يحصل عليها الإقليم من حكومة بغداد.
يقول مسؤول معتدل ثانٍ، في الاتحاد الوطني الكردستاني، لـ"عربي بوست": "السياسيون الشيعة في بغداد يراقبون عن كثب الصراع الكردي الداخلي، وهذا يضعف موقف الإقليم، إذا كان منقسماً بهذا الشكل، فيعني عدم توحيد كلمته في بغداد".
وأشار المصدر ذاته إلى مسألة الصراع على الميزانية الفيدرالية للإقليم، فيقول لـ"عربي بوست": "إقليم كردستان يعاني من أزمات اقتصادية في السنوات الأخيرة، وإذا تم المضيّ قدماً في إنشاء إدارة مزدوجة، فبذلك سيطالب كل من الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بميزانية فيدرالية منفصلة، وبالطبع ستميل بغداد إلى أنصارها في الإقليم"، في إشارة إلى العلاقات الجيدة بين قادة الاتحاد الوطني الكردستاني، والأحزاب الشيعية العراقية المقربة من إيران.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإقليم كردستان العراق، فيقول نائب برلماني مستقل سابق، في برلمان إقليم كردستان، محمد شمس الدين، لـ"عربي بوست": "ما يحدث في الإقليم، وتزايد الصراع بين الحزبين، يقلق واشنطن بالتأكيد، فاستقرار إقليم كردستان مهم بالنسبة للأمريكان، التي تتخذ من أربيل مقراً للعديد من قوات التحالف والمنظمات الدولية التي تعمل في العراق".
وأضاف السيد شمس الدين قائلاً: "كما يفتح الصراع بين الحزبين الباب أمام إيران، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، بالإضافة إلى الهجمات الإيرانية المتكررة على الإقليم بزعم علاقات الحزب الديمقراطي الكردستاني مع الأمريكان والإسرائيليين".