تحت ضغط الشارع والتظاهرات وتحرك نواب المعارضة (التغييريين وحزبي القوات والكتائب)، فشل مجلس القضاء الأعلى في لبنان في عقد جلسته يوم الخميس، 27 يناير/ كانون الثاني، في وقت تتزايد فيه المعركة القضائية في لبنان.
وكان مجلس القضاء دعا لعقد جلسة على خلفية ما أسماه "الانقلاب القضائي"، الذي قاده المدعي العام التمييزي، غسان عويدات، ضد قرارات المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ، القاضي طارق البيطار، وهو ما خلق مشهداً غير مسبوق في تاريخ القضاء في البلاد.
وألغى أعضاء مجلس القضاء الأعلى الجلسة نتيجة المواجهات والاشتباكات التي دارت أمام قصر العدل، خلال تحرك أهالي الضحايا، تنديداً بقرارات عويدات إخلاء سبيل جميع الموقوفين من المسؤولين في مرفأ بيروت، والمتهمين بالتواطؤ والإهمال في قضية انفجار المرفأ.
غسان عويدات: إزاحة البيطار وتصحيح الخطأ
قال المدعي العام التمييزي، غسان عويدات، لـ"عربي بوست" إن الأجواء المتوترة اليوم في الشارع استوجبت إلغاء جلسة مجلس القضاء الأعلى.
كذلك يرفض عويدات ما أسماه "تدخل النواب" في مسار القضاء، معتبراً أن زيارة النواب لوزير العدل، ومن ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى، سهيل عبود، هو مسعى لحماية البيطار ودعمه لتمرير أجندات خارجية، على حد قوله.
وبحسب عويدات، فإن مجلس القضاء الأعلى ألغى جلسته تخوفاً من أي إراقة للدم في الشارع قد يتسبب بها أي قرار.
وفيما يتعلّق بالمحقق العدلي، قال عويدات إن "البيطار يتعامل مع اجتهاده القانوني وقراراته كأنه يتكلم مع نفسه أمام المرآة. وإذ اعتبرت المراجع القضائية أن اجتهاد البيطار قانوني ويؤخذ به، وفيه بذرة قانون فقط، فأنا جاهز للتراجع عن قراري، وإعادة الموقوفين إلى السجن خلال ساعات".
وشدد غسان عويدات على أن تحقيقات المرفأ ستستمر بعد تصحيح ما أسماه "الخطأ الكبير"، أي عزل البيطار وإحالته للتحقيق والمحاكمة. وأضاف: "كان لديّ معلومات أن البيطار يتجه إلى إخلاء سبيل الموقوفين تباعاً، لذا اتخذت قراري هذا، منعاً لأن يستخدمه البيطار في سياق سياسي".
بالمقابل يدافع عويدات عن نفسه عند سؤاله عن التواطؤ مع السلطة السياسية، ما تجلى بمغادرة الموقوف المخلى سبيله، رئيس مصلحة الأمن والسلامة في المرفأ محمد زياد العوف، (يحمل جنسية أمريكية) الأراضي اللبنانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أن العوف كان على علم مسبق بإخلاء سبيله، وذلك لحجز التذاكر والمغادرة.
أجاب عويدات بأن تنفيذ قرار منع السفر بحاجة إلى 24 ساعة، والعوف غادر الأراضي اللبنانية برفقة عائلته لدى خروجه من السجن، "لكنني لا أعلم كيف حصل ذلك".
يختم عويدات أن لديه شعوراً كامناً أن البيطار لا يتصرف فقط بقرار ذاتي، بل يجد دعماً من قبل جهات محلية (قضاة وسياسيين ونواب ووزراء). كذلك يشكك الرجل بأن الحركة الأخيرة للبيطار أتت بدفع خارجي.
ويعتقد غسان عويدات أن ما أسماها "بدعة البيطار بالعودة للتحقيق" أتت بتحريض من أعضاء في مجلس القضاء الأعلى، والوقوف خلف الفتوى القانونية التي ابتكرها البيطار لنفسه، والتي تخوّله إعادة وضع يده على ملفّ التحقيق في جريمة المرفأ.
إجراءات عويدات
وأشار مصدر قضائي لـ"عربي بوست" أن عويدات أصدر صباح الجمعة، قراراً يطلب فيه من رئيس وموظفي قلم النيابة العامة التمييزية وأمانة السر "عدم استلام أي قرار أو تكليف أو تبليغ أو استنابة أو كتاب أو إحالة أي مذكرة أو مراسلة أو أي مستند من أي نوع صادر عن المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ، لكونه مكفوف اليد وغير ذي صفة".
هذا يعني – وفق المصدر – أن عويدات جرّد البيطار من صلاحياته كمحقق عدلي بسبب دعاوى الرد المرفوعة ضدّه. كما سبق أن طلب من الأجهزة الأمنية عدم تنفيذ أوامره.
كما أرسل عويدات نسخة من الادعاء الصادر بحق البيطار بتهمة "اغتصاب السلطة" و"استغلال المركز" إلى هيئة التفتيش القضائي، ما يعني – وفق المصدر – أن عويدات يستند إلى دعم من الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) للذهاب نحو تفجير الملف القضائي.
في هذا الإطار، أشار المصدر القضائي إلى أن إلغاء الجلسة لا يتعلق فقط بتدخل نواب المعارضة وتوتر الشارع والتخوف من انفجار أمني تحذّر منه القوى الأمنية والاستخباراتية، بل بسبب تعارض الآراء داخل مجلس القضاء الأعلى الذي كانَ سيشهد انقساماً كبيراً سيطيح بآخر جسم سيادي في البلاد، خاصة أن الاختلاف عميق، وهناك فريقان متصارعان بشكل واضح.
وبحسب المصدر، فإن رئيس المجلس سهيل عبود لا يزال مصرّاً على حماية طارق البيطار، وهو من خطط لإلغاء الجلسة مجدداً بالاتفاق مع النواب الذين حضروا.
لكن المصدر يؤكد أن فشل اجتماع مجلس القضاء الأعلى لا يعني أن الأمور انتهت، بل ستتطور، لا سيما في الأيام التي حدد فيها البيطار تاريخ استجواب من ادعى عليهم من نواب ووزراء وقضاة وقادة أجهزة أمنية.
التباس من موقف واشنطن
يشير مرجع حكومي رفيع لـ"عربي بوست" إلى أن السؤال الأكثر ضبابية هو وجود دوافع خارجية قادت إلى ما تحقق اليوم في القضاء والشارع، لاسيما في ضوء الضغوط الأمريكية التي مورست لإطلاق سراح أحد الموقوفين، وهو زياد العوف الذي يحمل الجنسية الأمريكية وكيفية خروجه بهذه السرعة الفائقة.
ويؤكد المصدر أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، باربرا ليف، كانت قد أبلغت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، أنه إذا لم يطلق لبنان سراح المواطن الأمريكي زياد عوف بعد قيام ذويه برفع دعوى على السلطات اللبنانية في الولايات المتحدة، فإن السلطات الأمريكية ستضطر لنقل ملف التحقيق الى المحاكم في واشنطن.
لذا يرى المرجع أنه، وتحت هذا الضغط، وصل التنافس القضائي إلى حدّ التسابق على من يعمل على إطلاق سراح الموقوفين الأجانب (الأمريكيين والكنديين).
وكانت النتيجة إرضاء الجانب الخارجي في عمليات إطلاق السراح، مقابل الوصول إلى نتيجة أخرى، وهي إجهاض التحقيقات، وإنهائها وغض طرف الخارج. لذا فإن كل العواصم التي كانت تشير إلى التشديد على ضرورة استكمال التحقيقات تغاضت عن كل ما جرى لإطلاق سراح الموقوفين.
من هذا المنطلق يعتقد المحلل السياسي، منير الربيع، أن ما جرى أدى لخلق سجالات متجددة على الساحة الداخلية بين أطراف متناقضة، حول الأسباب التي دفعت إلى هذه الخطوات القضائية.
ومن أبرز السجالات التي تشهدها الساحة اللبنانية، هو السؤال عن الأسباب التي دفعت القاضي طارق البيطار إلى العودة لاستئناف عمله، والكم الكبير من الاستدعاءات التي وجهها إلى شخصيات في مواقع ومراكز مختلفة، ما استدعى ردّ فعل متكامل بين أركان السلطة للانقلاب عليه وعلى التحقيق.
هذا الانقلاب – وفقاً للربيع – دفع بأبرز داعمي البيطار إلى طرح تساؤلات مشككة بالأهداف التي دفعته إلى العودة. هنا تتوسع السجالات، بين من يعتبر أن ما جرى هو عبارة عن فخ، وتقاطع مصالح بين واشنطن وباريس من جهة، وحزب الله والمنظومة السياسية من جهة أخرى، أدت إلى ما أدت إليه.