على بُعد أسبوع من موعد الانتخابات التشريعية، استطاعت الحملة الانتخابية في تونس التي دخلت أسبوعها الثالث أن تكون محط جدل، بسبب المستوى المعرفي والسياسي للمرشحين.
وأظهرت الأرقام التي حصل عليها "عربي بوست"، بشكل خاص وحصري من هيئة الانتخابات في تونس، تراجع المستوى المعرفي للمرشحين للانتخابات التشريعية في تونس.
ولأول مرة في تونس، سيتم التصويت على الأفراد عوض القائمات التي كانت تُقدمها الأحزاب السياسية، هذه الأخيرة التي تُقاطع أهمها هذا الاستحقاق الانتخابي الأول بعد الدستور التونسي الجديد الذي أقره الرئيس قيس سعيّد.
ويتداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، منذ انطلاق الحملة الانتخابية في تونس، صوراً وفيديوهات لمرشحين للانتخابات تُثير السخرية؛ بسبب محتواها المضحك والوعود غير القابلة للتطبيق.
101 عاطل وهيمنة الموظفين
حصل "عربي بوست" على أرقام رسمية وحصرية من هيئة الانتخابات في تونس، تكشف أنه من مجموع 1058 مرشّحاً لعضوية البرلمان المقبل، يوجد 101 عاطل عن العمل و26 طالباً وتلميذاً.
وبلغ عدد المترشّحين من موظفي وزارة التربية 273 مرشّحاً، فيما بلغ عدد المترشّحين من العاملين في القطاع العام 230 مرشّحاً، و68 متقاعداً، و5 رجال أعمال، بعد أن كان عددهم 35 نائباً.
وكان البرلمان السابق، الذي قام الرئيس قيس سعيّد بحله، يضم 26 محامياً، و3 خبراء محاسبين، و10 أطباء ممارسة خاصة.
وأوردت الإحصائيّات، التي حصل عليها "عربي بوست" أن 148 من المرشحين يتعاطون مهناً حرّة، فيما بلغ عدد العاملين في وزارة التعليم العالي من أكاديميين وأساتذة جامعيين 30 مرشّحاً فقط، ما جعلهم يمثّلون نسبة 2.8%، وهي نفس نسبة التلاميذ والطلبة تقريباً.
وأعلنت هيئة الانتخابات في تونس عن قبول 1058 ملفّاً، 10 منهم فائزون دون انتخابات باعتبارهم المترشّحين الوحيدين، فيما بقيت 7 دوائر انتخابية دون مترشّحين.
وعود انتخابية مستحيلة
أتاحت هيئة الانتخابات في تونس، كما هو مُعتاد في كل الحملات الانتخابية التي شهدتها تونس للمترشّحين حصصاً مصوّرة يعرّفون فيها بأنفسهم وبرامجهم ووعودهم الانتخابية، ومُسمّاة بحصص التعبير المباشر مدتها 3 دقائق.
"عربي بوست" تابع بعض الحملات الانتخابية، وحصص التعبير المباشر لمرشّحين للانتخابات التشريعية، حيث اختار أحد المترشّحين التجوّل في الدائرة الانتخابية التي ترشّح عليها مرتدياً زيّ فارس.
فيما اختار مُرشّح آخر الظهور في مشهد استعراضي مطلّاً من فتحة التهوئة في سقف سيارته الفخمة، رافعاً شارة النصر ويحيط بسيّارته عدد من الحرّاس الشخصيّين.
أما على مستوى المضمون، فقد أطلق عدد من المترشّحين وعوداً لا يُمكن تحقيقها إلا بالصلاحيّات التي يمنحها الدستور الجديد للسلطة التنفيذية (الرئيس) دون السلطة التشريعية (البرلمان).
فمثلاً أكد مرشّح عن دائرة رواد 1، في حصة التعبير المباشر الخاصة به على القناة الوطنية المملوكة للدولة على أنه سيعمل إذا فاز على إصلاح التعليم والمؤسسات التربوية وزيادة عددها، نظراً للكثافة السكانية في الدائرة الانتخابية المترشّح عنها.
كما تعرّض، في سياق وعوده الانتخابية، للنقل العمومي والعمل على إنجاز منطقة صناعية وإنجاز ميناء صيد بحري وتحسين الظروف المادية لسكان الدائرة، بالإضافة إلى إنشاء طرقات وجسور وملاعب ومناطق ترفيهية.
مترشّح آخر عن دائرة مساكن، وقد تثبّت "عربي بوست" من ترشّحه في قائمات للانتخابات، بالقضاء على الحيف والظلم المسلّط على الرجل التونسي بتغيير القوانين التي تؤدّي إلى تفكيك الأسرة التونسيّة.
أستاذ القانون الدستوري، خالد الدبابي، قال في حديث مع "عربي بوست" إن "المستوى المعرفي والسياسي للمرشحين الذين ظهروا في حصص التعبير المباشر أقلّ ما يُقال عنه أنه هزيل جداً، وحول الحملة الانتخابية إلى عملية فلكلورية".
واعتبر الدبابي أن التونسيين شهدوا منذ انطلاق الحملة الانتخابية عديد الممارسات الفلكلورية والشعبوية وعدم إلمام الأغلبية الساحقة من المرشّحين بصلاحيّات النائب والبرلمان بصفة عامة وطبيعة النظام السياسي الذي يقرّه الدستور الجديد.
ودعّم أستاذ القانون الدستوري تحليله بحديث المترشحين وإطلاقهم وعوداً انتخابية تتجاوز صلاحياتهم التي ينصّ عليها الدستور الجديد، بل إن بعضها يختصّ بالسلطة التنفيذية التي ينفرد بها القصر.
وحسب المتحدث فإن المرشحين يخلطون بين السلطة التشريعية والتنفيذية، ولا يعرفون حدود الوظيفة التشريعية، خاصة أن الدستور الجديد قلّص من صلاحيات المجلس التشريعي، وجعله يقتصر فقط على الدور التقليدي دون أي دور رقابي حقيقي كما كان الحال في دستور 2014.
وخلص المحلل السياسي إلى أن مستوى المترشحين للانتخابات التشريعية من الذين ظهروا في إطار الحملة الانتخابية "متدنّي ومتدني جداً، بالإضافة إلى عدم الإلمام بصلاحيات النائب التي نص عليها الدستور.
إقصاء الأحزاب! هذه هي النتيجة
يقول خالد الدبابي، أستاذ القانون الدستوري لـ"عربي بوست": "كان من المتوقع أن يكون مستوى المترشحين المعرفي والعام والسياسي متدني وهزيل، وهو نتيجة طبيعية لتغيير نظام الاقتراع من الاقتراع على القائمات إلى الاقتراع على الأفراد".
نتيجة إقصاء الأحزاب، لأن هذه الأخيرة هي التي تعقلن العملية الديمقراطية بتحويل المطالب الشعبية إلى برامج انتخابية قابلة للتنفيذ في إطار الصلاحيات الموجودة.
وأضاف الدبابي قائلاً: "في حال تخليّنا عن الأحزاب تُصبح العملية عشوائية"، بالإضافة إلى ذلك، وحسب نفس المتحدث، فإن هذا المستوى الذي ظهر خلال الحملة هو ديمقراطيات لا تعتمد نظام الاقتراع على الأفراد بدل القائمات الحزبية، ما عدا بريطانيا والولايات المتحدة.
وفي هذين النظامين، يعتبر المتحدث أن المنظومة الحزبية قوية وقائمة على الثنائية الحزبية ما يجعل الاقتراع على الأفراد فيهما سوى اختيار بين أفراد يرشحها أحد الحزبين في البلدين، وهما العمال والمحافظين في بريطانيا، والجمهوري والديمقراطي في أمريكا.
وحتى في غياب نظام الاقتراع على القائمات في كل من بريطانيا وأمريكا يكون الأفراد المترشّحون ممثلين لأحزاب، وليس هناك تقريباً مرور مباشر لأفراد من خارج الحزبين في كل بلد.
ووفق الدبابي، ففي تونس لا يتوفّر شرط المنظومة الحزبية القوية أو الثنائية الحزبية، وهو ما جعل الترشّحات عشوائية، وهذا سيؤدي إلى نتائج خطيرة متعلقة بالبرامج والتصوّرات وحل المشاكل التي يعاني منها المواطن في جهة أو منطقة ما.
وحذّر الدبابي من العوامل التي ستكون محددة في العملية الانتخابية التي ستُجرى في دوائر ضيّقة، بالإضافة إلى تأثير المال السياسي، هذا سيجعل الناخب يتصرّف بأنانية ولا يصوّت لمن له برنامج حقيقي ومقنع، بل سينتخب من سيمكّنه من مصالح آنية.
وخلص المتحدث إلى أن المرور إلى الاقتراع على الأفراد في دوائر انتخابية ضيّقة يُقصي الأحزاب التي تقاطع أغلبها العملية الانتخابية، ويُقصي أي اعتبار عقلاني في الاختيار.
وسيكون البرلمان التونسي المقبل، في تقدير المحلل السياسي، خالد الدبابي، أسوأ وأكثر ضعفاً وهشاشة وقابلية لحدوث فوضى، مقارنة بما سبقه من برلمانات، أفرزتها الانتخابات التشريعية بعد سقوط نظام بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011.
وسيتركب البرلمان الذي تفرزه هذه الانتخابات التشريعية نواب لا يعرفهم أحد تقريباً، ولا رابط بينهم، ما يجعل من الصعب أو المستحيل الحديث عن انسجام وتنسيق وتوافق داخل البرلمان.
وهذا، حسب المتحدث، سيُضعف السلطة التشريعية التي أصبحت ضعيفة بطبيعتها وفق الدستور الجديد، الذي صنّفها كوظيفة ليس لها صلاحيات، ويختلّ التوازن بينها وبين السلطة التنفيذية التي يمثلها رئيس الدولة.
وأشار المحل السياسي في حديثه مع "عربي بوست" إلى معطى مهم جداً موجود في الدستور والقانون الانتخابي، وهو سحب الوكالة، الذي وصفه بالـ"سيف المسلط على رقاب النواب ويُمكن أن يتحول لآلية لشنّ حروب سياسية وتصفية خصوم سياسيين لا يستجيبون خاصة لتوجهات وخيارات السلطة التنفيذية أي رئاسة الجمهورية.
هيئة الانتخابات: سخرية متعمَّدة
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، وفي سياق ردّ فعلها على السخرية من مستوى المترشّحين لعضوية البرلمان، اعتبرت أن ذلك توجه مقصود من طرف بعض الأحزاب السياسية المقاطعة.
وقال نائب رئيس الهيئة، ماهر الجديدي، في تصريح لـ"عربي بوست" إن الحملة الانتخابية تشهد تشويشاً واضحاً ومتعمّداً ومحاولات مُمنهجة لترذيلها، وتقف وراءها أطراف سياسية تعمل على خلق مُناخ من عدم الجدية لدفع الناخب إلى مقاطعة الانتخابات.
ووفق ما أفاد به نائب رئيس هيئة الانتخابات، فأغلب مقاطع الفيديو والصور والمعلّقات التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة موقع "فيسبوك"، لا تتعلق بمترشحين للانتخابات التشريعية قبلت الهيئة ملفّاتهم.
واعتبر المتحدث في تصريحه أن ذلك المحتوى مُضلّل ومُفبرَك في إطار حملة مُمنهجة لتشويه العملية الانتخابية من طرف المقاطعين للانتخابات التشريعية في تونس.
وأكد الجديدي أن أغلب المترشّحين الذين أبدوا مستوى متدنٍ وأطلقوا وعوداً انتخابية تدفع للسخرية وتتجاوز صلاحيّات النائب، منتمين أو كانوا ينتمون للأحزاب المقاطعة للانتخابات أو مدفوعين من طرفها للمقاطعة.