في الوقت الذي كان يتابع فيه محمد سيد الأنباء المتواترة في مصر حول إمكانية إقدام البنك المركزي على تعويم جديد للجنيه، طرأ في ذهنه فكرة الاستثمار الآمن في العملة كغيره من الكثيرين الذين تخوفوا من تعرض مدخراتهم لمزيد من الخسائر أسوةً بما حدث على مدار الأشهر الماضية، التي فقد فيها الجنيه المصري 60% من قيمته.
قرر المواطن الأربعيني الذهاب إلى أحد مكاتب الصرافة القريبة منه للحصول على الدولار؛ لكن جاء الرد بأنه لا وجود للدولار، وأن بنوكاً محلية وشركات استثمارية تحصل عليه بشكل مباشر للتعامل مع مشكلات نُدرته.
بحث عن مكاتب أخرى لتوفيره دون جدوى، في حين أنه توصل لبعض الأشخاص الذين يقومون ببيعه بعيداً عن مكاتب الصرافة بسعر يتجاوز 30 جنيهاً للدولار الواحد، لكنه رفض المجازفة خوفاً من إمكانية انخفاض قيمته مرة أخرى.
الذهب هو الحل
اتجهت هناء، وهي موظفة بوزارة الري المصرية، إلى محلات بيع الذهب في منطقة الدقي بالقرب من وسط القاهرة، تقول إنها اصطدمت بأن هناك إقبالاً على الشراء رغم أن أسعار الغرام الواحد تتزايد بصورة غير منطقية على مدار اليوم الواحد، وحينما ذهبت إلى المحل وجدت سعر غرام 21 يقترب من 1850 جنيهاً بالرغم من أنه قبل نهاية الأسبوع كان سعر الغرام 21 يلامس 1600 جنيه وقبلها بيومين لم يكن يتخطى حاجز 1450 جنيهاً.
تشير المواطنة المصرية إلى أن محال الذهب شهدت حركة بيع كبيرة وتوحدت الآراء حول ضرورة الحفاظ على المدخرات بعيداً عن الأنشطة التجارية غير المتوقع نتائجها في ظل حالة الاضطراب الاقتصادي، وكذلك تراجع الثقة في ودائع البنوك مع استمرار تراجع الجنيه.
كما أن الاستثمار في العقارات بحاجة إلى أموال باهظة في حين أن غالبية المتعاملين كان لديهم الرغبة في شراء سبائك أو جنيهات ذهب لا تتجاوز قيمتها 100 ألف جنيه.
ويبدو أن الإقبال الكثيف على شراء الذهب كبديل عن الدولار كان سبباً في ارتفاع سعره؛ إذ أوقفت منصة آي صاغة، لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت، نشر حركة أسعار الذهب بالأسواق المحلية، خلال تعاملات الإثنين، لعدم استقرار السوق وتحريك الأسعار لمستويات غير مسبوقة، وتجاوز سعر غرام الذهب عيار 21 مستوى 1800 جنيه.
ارتفاع أسعار الذهب جاء على الرغم من استقرار سعر تداول الأوقية بالبورصة العالمية، عند مستوى 1797 دولاراً، بعد أن سجلت أعلى مستوى لها منذ خمسة أشهر.
كانت تعتقد هناء أن أفضل وسيلة لصد الارتفاعات المضطربة في سعر الدولار مقابل الجنيه يتمثل في الحصول على مدخرات لا تنخفض قيمتها بشكل كبير، وتحافظ على الاستقرار؛ بل إنها من المتوقع أن تأخذ في الارتفاع خلال الفترة المقبلة، سواء كان ذلك لاستمرار تدهور الجنيه أو لأسباب عالمية ترتبط بزيادة قيمة أوقية الذهب في البورصات العالمية.
ويصل حجم الذهب المتداول بالقاهرة في هيئة مشغولات ذهبية أو سبائك أو جنيهات إلى أكثر من 12 طناً بقيمة تتخطى حاجز الـ30 مليار جنيه، كما سجل الطلب على المشغولات الذهبية والمجوهرات في مصر خلال الربع الأول من العام الجاري 7.7 طن مقابل نحو 7.1 طن خلال نفس الفترة من عام 2021.
انخفاض عالمي في أسعار الذهب يواكبه ارتفاع جنوني في الأسعار المصرية!
وبالرغم من تراجع أسعار الذهب عالمياً بأكثر من 1% لتصل سعر الأوقية إلى 1783 دولاراً، إلا أن سعر غرام الذهب عيار 21 والذي يشهد الإقبال الأكبر في مصر قد قفز الأحد إلى نحو 1670 جنيهاً للمرة الأولى في مصر بزيادة قدرها 70 جنيهاً عن اليوم الذي سبقه.
وقفز الإثنين إلى 1850 جنيهاً ووصل سعر الجنيه الذهب الذي يزن ثماني غرامات من ذهب 21 إلى نحو 14440 بينما كان مساء الأحد 13200 جنيه بزيادة 320 جنيهاً، مقارنة بمستواه في تعاملات مساء السبت، وهو مستوى قياسي في سعره، بحسب شعبة الذهب بالغرفة التجارية المصرية.
يقول محمد حسام، صاحب أحد محلات بيع الذهب بمنطقة الهرم في محافظة الجيزة، إن غالبية الذين يتوافدون عليه يومياً يستهدفون شراء الذهب وليس بيعه، بالرغم من الزيادات التاريخية في أسعاره، وأن المبررات التي يسوقها المواطنون تبدو متشابهة ما بين الحفاظ على المدخرات أو توقع ارتفاعات جديدة في الأسعار ومن ثَم يكون هناك فرصة للاستثمار.
محلات بيع الذهب تعاني نقص المعروض مع زيادة الإقبال وتوقف الاستيراد
تعاني محال الذهب أيضاً من تراجع حجم المعروض من الذهب، ويرجع ذلك لعدة أسباب؛ إذ إن تجار الذهب الكسر أو من يسمون في السوق المصرية بـ"المسوقجي"، أي مسوق الذهب، لا يعرضون كميات كبيرة يمكن شراؤها؛ لأن هؤلاء يعملون كوسطاء بين مصانع الذهب وبين التجار، وهو ما يؤدي لانخفاض المتداول بين التجار، ويبقى السوق مستعداً للزيادات مع تضاعف حجم الإقبال على الشراء.
ويضيف تاجر الذهب المصري أن تراجع مبيعات المواطنين من الذهب منذ بداية العام الحالي تسبب أيضاً في أزمة؛ لأن مبيعات المستهلكين من المصوغات الذهبية التي يشتريها التجار ثم يعيدون تشكيلها من جديد لإعادة ضخها في الأسواق، تراجعت.
كما أن الحكومة أوقفت عمليات استيراد الذهب من الخارج لتوفير العملة، ولم يكن هناك حاجة بالأساس للاستيراد لتراجع القوة الشرائية لدى المواطنين وتراجع إقبالهم على الذهب خلال السنوات الثلاث الماضية.
نتيجة لتلك الحالة يضطر تجار الذهب لشرائه بأسعار مرتفعة، وتظهر عمليات المضاربات في أسعاره، ويشتري صاحب المحل بضاعته بالسعر الأعلى لاقتناء كمية في ظل شح المعروض وزيادة الطلب ليحقق ربحاً، وتستمر الحركة في سلسلة البيع حتى تصل إلى المستهلك النهائي بأسعار مرتفعة، وهو ما يسفر عن الارتفاعات المتتالية في أسعاره على مدار اليوم الواحد.
31 جنيهاً للدولار في سوق الذهب
يتأثر سوق الذهب في مصر مباشرة بسعر الدولار الرسمي والموازي، وهو ما يساهم في ارتفاعات الأسعار؛ لأن أصحاب المحلات والتجار يستهدفون الابتعاد عن أي احتمالات للخسارة، ويحسبون سعر الأوقية التي تقدر بالدولار الأمريكي وفقاً للسوق الموازي وليس الرسمي في البنوك.
ووفقاً لصاحب محل الذهب الذي تحدث إلى "عربي بوست" الأحد، فإن السعر الدولار جرى تقديره لدى تجار الذهب في هذا اليوم بـ31 جنيهاً للدولار الواحد، في حين أن سعر بيعه في البنوك وصل في اليوم ذاته إلى 24 جنيهاً و60 قرشاً.
يؤكد خبير في سوق الذهب أن الأزمة الأكبر تتعلق بعدم معرفة الجهة التي تحدد أسعار الذهب في مصر، وأن مبررات زيادة الطلب على شرائه كسبب رئيسي في زيادة سعر الغرام الواحد أمر غير منطقي؛ لأن هناك 500 جنيه فرق سعر الغرام الواحد بين السعرين المصري والأجنبي، وأن أحد أسباب الزيادة يتمثل في وجود سوق موازٍ لأسعار الصرف والتراجعات المتتالية في أسعار الجنيه في ظل صعوبة توفير الدولار من الأساس.
ويوضح أن سوق الذهب يعاني لأول مرة منذ سنوات طويلة من انعدام بيع المواطنين للمصوغات التي يملكونها، وأن بعض التجار بدأوا في تقديم مغريات للمواطنين للشراء منهم، حتى وإن كان ذلك بأسعار مرتفعة، كما أن السوق يتأثر بممارسات "تجار الكسر"، الذين يمتلكون أطناناً هائلة من الذهب ويرفضون بيعها للمحلات، انتظاراً لتحقيق أرباح أكبر في ظل الارتفاعات المستمرة في أسعاره، وهؤلاء هم المتحكمون الرئيسيون في أسعار السوق، ولا يتجاوز عدد الكبار منهم ثلاثة أو أربعة تجار عبر خلق أزمة سيولة في المصوغات الذهبية بالأسواق.
الذهب وسيلة مقايضة بين المُصنعين بدلاً من الدولار
يلفت المتحدث ذاته إلى أن مشكلات شح الدولار تسببت في أن أصبح الذهب وسيلة مقايضة بين أصحاب الشركات الكبرى والمصنعين لأول مرة في التعاملات الاقتصادية المصرية منذ سنوات طويلة.
بعض الشركات التي تتفق على استيراد شحنات من الخارج بالعملة الصعبة فشلت في الوصول إليها، وتوصلت إلى تفاهمات تقضي بالحصول على تلك الشحنات بمقابل الذهب، ولا يتم ذلك عبر البنك المركزي الذي يشترط فتح حساب دولار لإتمام المهمة وفي الأغلب يتم تهريب الذهب إلى الخارج.
ويشدد على أن حالة التكالب على شراء الذهب سواء من المواطنين أو المُصنعين تجعل أسعاره غير منطقية، بل إن بعض التجار يقومون ببيع الغرام بإضافة من 30 إلى 50 جنيهاً على سعره الأصلي دون زيادة قيمة صناعته خشية من ارتفاعه في أي لحظة على مدار اليوم، وفي حالة تراجعت عملية البيع من الممكن أن ينخفض سعره أثناء اليوم، وهو أمر غير طبيعي، وقد يترتب عليه انخفاضات مفاجئة في الأسعار، وفي تلك الحالة قد يتعرض المواطنون للخسارة.
وأصبح لدى المتعاملين مع الذهب كاستثمار آمن قناعة بأنهم لن يخسروا أموالهم، لأن الجنيه يأخذ في التراجع بشكل مستمر، وأن الذهب لم يحقق انخفاضاً ملحوظاً في أسعاره منذ العام 2014، حينما فقدت أوقية الذهب 200 دولار من قيمتها، واستمر هذا التراجع في مصر لمدة عامين قبل أن ترتفع الأسعار دون أن تنخفض مرة أخرى.
توقعات بمزيد من الارتفاعات في أسعار الذهب
ويتوقع خبير أسواق الذهب أن تواصل أسعار الذهب اتجاهها في الصعود تحديداً في أعقاب تقرير الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والذي أشار إلى إمكانية إبطاء وتيرة تشديد السياسة النقدية والاتجاه إلى وقف رفع أسعار الفائدة خلال اجتماع شهر ديسمبر/كانون الأول، ما يشجع الكثير من المستثمرين نحو التوجه للاستثمار في الذهب كبديل مربح وآمن بدلاً من الدولار الأمريكي.
ويوم الأربعاء الماضي، توقع الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر الفائدة بشكل طفيف خلال اجتماعه في ديسمبر الحالي، حيث اتفق مسؤولو مجلس الاحتياطي الفيدرالي على أن زيادات أصغر في أسعار الفائدة يجب أن تحدث قريباً؛ حيث سيتم تقييم تأثير السياسة النقدية المتشددة ورفع أسعار الفائدة على الاقتصاد الأمريكي.
ويقول مصدر بشعبة الذهب التابعة لغرفة الصناعة المصرية، إن إقبال المصريين يتركز في الوقت الحالي على السبائك والجنيهات الذهبية التي وصلت معدلات مبيعاتها إلى ما يقرب من 60%، ثم يليها غرام الذهب 21 وعلى الأغلب يكون شراؤه لمناسبات الأعياد الحالية بالقرب من نهاية العام والمقبلين على الزواج، وأن الذهب غرام 24 الذي يستخدم كوعاء استثماري شهد نمواً في مبيعاته خلال الشهرين الماضيين فقط.
ويوضح لـ "عربي بوست" أن مصانع الذهب بدأت على نحو أكبر في توفير سبائك الذهب بأوزان تتراوح ما بين غرام واحد إلى كيلوغرام كامل، وأن الإقبال عليه يرجع لانخفاض مصنعيته مقارنة بالغرامات الأخرى، تحديداً في حال زاد وزن السبيكة والتي تكون في الأغلب بغرض الاستثمار، لافتاً إلى أن غالبية المحال ذهبت باتجاه زيادة أسعار المصنعية مع تراجع بيع المصوغات المصنوعة والاتجاه نحو الجنيهات الذهب.
تسجيل الذهب في بورصة السلع قد يخلق سوقاً موازية لبيعه
وتوقع أن يكسر سعر غرام الذهب عيار 24 حاجز الـ 2100 جنيه خلال الأيام المقبلة، وقبل نهاية العام مع استمرار شح العملة، وكذلك فإنه من المتوقع أن يصل سعر الجنيه الذهب إلى 15 ألف جنيه في الفترة ذاتها، مشيراً إلى أن اتجاه الحكومة لتسجيل الذهب في بورصة السلع لوضع سعر استرشادي لبيعه قد يؤدي لظهور ظاهرة السوق السوداء لتداول الذهب، وفي تلك الحالة بدلاً من أن تسيطر على أسعاره فستجد نفسها غير قادرة على ضبطه.
وبحسب تصريحات إعلامية لمصادر بالحكومة المصرية، فإنها تدرس إدراج الذهب ضمن السلع المتداولة في بورصة السلع المصرية بهدف منع التلاعب وتقييمها وفقاً للعرض والطلب محلياً وعالمياً وفقاً للمعايير المنظمة، لكن دون أن تتخذ قراراً رسمياً بتلك الخطوة.
وكانت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية قد قالت إن الجنيه المصري يتجه إلى تكبد مزيد من الانخفاضات في القيمة مقابل الدولار خلال ديسمبر/كانون الأول الجاري، وأشارت إلى أن محافظ البنك المركزي المصري اجتمع مع رؤساء البنوك العاملة في البلاد، لوضع خطة لجذب العملة الصعبة للبلاد وتوطينها.
وشملت الخطة كيفية إلزام المؤسسات السياحية والفندقية بإيداع إيراداتها بالعملة الأجنبية لدى البنوك المحلّية مقابل حصولها على خدمات وحوافز تمويلية، إلى جانب دراسة إصدار أوعية ادخارية بالدولار للعاملين في الخارج، وإبداء مرونة أكثر تجاه التمحيص بمصدر النقد الأجنبي عند الإيداع.
لم يكن أمام سيد سوى الذهاب إلى محلات بيع الذهب للاستثمار في وعاء آخر يحميه من تراجع قيمة الجنيه والتقلبات المتتالية في سعر أسواق الصرف.
وقرر شراء سبائك وجنيهات ذهب أملاً في عدم تعرضه لخسائر أخرى في المدخرات، مفضلاً الاتجاه نحو الذهب عن شراء العقارات التي كانت الخيار الأول للمواطنين مع ارتفاع أسعارها والمخاوف من فقاعات عقارية جراء ضعف الطلب على المعروض في المناطق الجديدة وتوقف البناء في المدن المتكدسة بالمواطنين.
انعدام ثقة المواطنين في الاقتصاد يدفعهم نحو الاستثمار في الذهب والدولار
يعبر اتجاه المواطن المصري عن أن هناك معضلة حقيقية يمر بها الاقتصاد المصري، وأن انعدام ثقة المواطنين واتجاههم للحفاظ على مدخراتهم وخشيتهم من التعرض للخسارة في أي مجالات تجارية مؤشر قوي على حالة عدم اليقين من المستقبل مع انتشار الشائعات حول تراجعات جديدة في قيمة الجنيه، ومخاوف من عدم قدرة الحكومة على سداد ديونها الخارجية خلال العام المقبل في ظل أزمة الدولار الطاحنة.
لا يختلف موقف هناء محمد كثيراً عما ذهب إليه غيرها من المواطنين؛ إذ إنها اختارت أن تسحب أموالها من أحد البنوك الحكومية لشراء الذهب، بل إنها قررت فك وديعتها التي تحصل مقابلها على فائدة تصل إلى 15% سنوياً، ورغم خسارتها، لكنها رأت أن الخسارة الأكبر ستتعرض لها في حال تركتها مع إمكانية فقدان الجنيه المزيد من قيمته.