مئات الشكاوى التي وصلت إلى رئاسة الوزراء ووزارتي البترول ووزارة البيئة، بشأن التلوث الناجم عن المنشآت البترولية والمصانع الموجودة شرق القاهرة بسبب مجمع التكسير الهيدروجيني، ما دفع المواطنين للتحرك قضائيَا لإيجاد وسيلة مناسبة يحافظون بها على صحتهم، فكيف يهدد التلوث حياة المصريين؟
يقول مصدر بوزارة الصحة لـ"عربي بوست" إن شرق القاهرة تحول إلى مكان موبوء بالغازات السامة والروائح الكريهة التي تسبب فيها مجمع التكسير الهيدروجيني ومصانع تكرير البترول التي تنتشر بكثافة بالقرب من منطقة شبرا الخيمة، بالرغم من أنها منطقة زراعية يقطنها مئات الآلاف من المواطنين.
إنتاج 40% من المواد البترولية من منطقة واحدة!
تضم منطقة مسطرد ثمانية مصانع و16 مدخنة، يقومون بإنتاج 40% من المواد البترولية، وبدأت الانبعاثات تصل بشكل كبير للسكان منذ نهاية عام 2021، وتصل الروائح، بحسب الشكاوى التي تعددت على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مناطق "مسطرد، مصر الجديدة، وحلمية الزيتون، والمطرية، والألف مسكن، وجسر السويس، وبعض مناطق حي مدينة نصر، وجميعها في شرق القاهرة ويقطن فيها ما يقرب من 5 ملايين مواطن.
وسط كتلة سكنية تضم 3 ملايين إجمالي عدد مواطني محافظة القليوبية، افتتح الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل عامين مجمع التكسير الهيدروجيني بمسطرد، والذي تقول عنه الحكومة إنه أكبر معمل لتكرير البترول فى الشرق الأوسط وتبلغ تكلفة إنتاجه 3.7 مليار دولار.
وفي ذلك الحين عددت مزاياه التي بينها أنه يساهم في تحقيق رؤية مصر للتحول لمركز إقليمي محوري لتداول الطاقة، ويوفر أكثر من 12% من مجمل احتياجات السوق المصري ونصف ما تستورده من منتجات الديزل، وكذلك فإنه يوفر نصف استيراد مصر من السولار والبوتاجاز ووقود النفاثات.
يعمل بالمجمع 9300 عامل ومهندس مصري، وهم الأكثر تضرراً من انبعاثاته التي ما زالت تتجاهل الحكومة آثاره السلبية في مقابل رغبتها في إنتاج 2.3 مليون طن سولار و600 ألف طن من وقود النفاثات، 850 ألف طن بنزين بأنواعه و80 ألف طن بوتاجاز سنوياً، إلى جانب إنتاج الفحم والكبريت سنوياً.
تسرّب غاز أول أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت تهدّد المواطنين بالسرطان
يشير مصدر طبي، رفض ذكر اسمه، إلى أن الأعراض التي يشكو منها سكان المناطق المتضررة من المجمع أو المصانع الموجودة في مسطرد، تؤكد أن هناك تسرباً لغاز أول أكسيد الكربون، الذي يعد أخطر الغازات السامة لارتباطه بـ"أيون الحديد".
ويؤثر سلباً على نقل الأكسجين إلى المخ وتكون نتيجة الإصابة بالدوار أو الشعور بالاختناق أو الصداع في بعض الأحيان، كما أن استنشاق كميات كبيرة منه يؤدي لآلام حادة في المعدة، وتصل في أحيان عديدة إلى فقدان الوعي.
ويضيف الطبيب الذي يعمل بمستشفى صدر العباسية بمدينة نصر، ويتردد عليه كثير من الحالات لمواطنين يقطنون في شرق القاهرة، أن كثيراً من المصريين يواجهون أخطار زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، الذي يؤدي للاحتباس الحراري، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة.
هذه المناطق ينتشر فيها تلوث الهواء بوجه عام وتؤدي إلى أمراض عديدة في الجهاز التنفسي، وهو أمر يتعرض له بالطبع المقيمين في المناطق القريبة من مصانع تكرير البترول.
الأخطر، من وجهة نظره، يتمثل في استنشاق الغازات التي تؤدي للإصابة بالربو مثل أكسايد الكبربت الناتحة عن اختراق البترول والتي تؤدي لالتهابات خطيرة في الجهاز التنفسي، وتؤثر على كفاءة الرئة وتؤدي للإصابة بالتليف الرئوي وتزيد معدلات الإصابة بسرطان الرئة، إلى جانب أكسيد النتروجين الذي يعد من المواد السامة عند ذوبانه في بخار الماء، والذي قد تصل أضراره للإصابة بتصلب الشرايين.
وزارة البيئة تؤكد أخطار مجمعات التكرير
لم تنفِ وزارة البيئة المصرية وجود انبعاثات سامة من مجمع تكرير البترول، ووفقاً لتصريحات إعلامية أطلقها رئيس جهاز شؤون البيئة التابع للوزارة، علي أبو سنة، فإن "أهم أسباب الروائح هي وجود انبعاثات مرتفعة من بعض شركات المجمع، وإن كان مسموحاً بنسبة بالانبعاثات، فلا ينبغي أن تزيد على المسموح، لكن ما يشعر المواطنون بها هو سكون الهواء وزيادة نسبة الرطوبة في فصل الصيف، والذي يتزامن مع زيادة معدلات الإنتاج من المواد البترولية".
ويؤكد مصدر مطلع بوزارة البيئة المصرية، رفض ذكر اسمه، أن لجان الفصح التي شكلتها وزارة البيئة نتيجة الشكاوى التي وردت إليها، والتي تضاعفت بشكل كبير خلال شهر يونيو الماضي، فإنها أظهرت أن معدلات الانبعاثات أعلى من المسموح بها، وأوصت بإعادة التخطيط البيئي للمناطق الصناعية على أن يكون ذلك بداية لإعادة التخطيط الاجتماعي والاقتصادي والعمراني في منطقة مسطرد.
بالإضافة إلى أن مشروع "استرجاع غازات الشعلة" الذي افتتحه وزير البترول، طارق الملا، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي يستهدف الحد من انبعاث الغازات المصاحبة لمجمعات تكرير البترول حفاظاً على البيئة وتحقيقاً للاستدامة مع إعادة استخدامها كوقود لترشيد الاستهلاك، وجاء ضمن توصيات اللجنة، بحسب ما أكده المصدر ذاته.
ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد بلغت التقديرات الكمية لغازات الاحتباس الحراري المنبعثة مصرياً 197 مليون طن عام 2013، ارتفعت إلى 197,1 مليون طن عام 2014.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي في تقرير له، فإن التردي البيئي الناتج عن تلوث الهواء يكلف مصر نحو 2.42 مليار دولار سنوياً.
اختناق وصعوبة شديدة في التنفس
استيقظت منال محمد فجراً، استعداداً لتجهيز احتياجات أبنائها قبل النزول إلى المدرسة، وأثناء تحضير وجبة الإفطار لهم، تعرضت للاختناق وصعوبة شديدة في التنفس، دفعتها لإيقاظ زوجها خشية أن تتعرض للإغماء أو السقوط.
ليكتشفا أن منزلهم بمنطقة مسطرد التابعة لمحافظة القليوبية شرق القاهرة تنتشر فيه رائحة كريهة تشبه الجاز المحروق أثرت سلباً على قدرتهما على التنفس بشكل طبيعي، دون أن تفلح محاولات غلق النوافذ أو فتحها في التخلص من الرائحة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تستنشق فيها السيدة الأربعينية هذه الرائحة لكنها كانت نفاذة أكثر من أي وقت مضى، ما دفعها لإيقاظ أبنائها والنزول مبكراً من المنزل، بحثاً عن مكان يمكنهم فيه استنشاق هواء نقي بعيداً عن محل إقامتهم.
رائحة كريهة تلازم المواطنين طوال اليوم
تشير محمود إلى أن استنشاق الروائح الكريهة أمر اعتاد عليه أهالي المنطقة، لكن هناك جديد طرأ جعلها أكثر قوة وانتشاراً منذ العام المنقضي أي بعد أشهر قليلة من افتتاح المجمع في سبتمبر/أيلول من العام 2020، وأن الرائحة كانت في السابق تظهر في ساعات متأخرة من الليل لكنها أصبحت الآن تلازمهم طوال اليوم ما أثر سلباً على حياتهم اليومية وأحاطت بهم مخاوف حقيقية حول ما إذا كانوا بالفعل قد يواجهون الموت البطيء نتيجة لتلك الانبعاثات.
توقع أهالي مسطرد ومناطق أخرى، تصلها الانبعاثات وروائح البنزين المحترق والغاز شرق القاهرة، أن تولي وزارة البيئة والجهات الحكومية الأخرى اهتماماً بالمشكلة التي تأخذ في التفاقم بالوقت الحالي، تزامناً مع استضافة مصر لقمة المناخ "كوب 27" في مدينة شرم الشيخ، والتي تختتم أعمالها الجمعة.
شكاوى وبلاغات دون فائدة
تؤكد منال أنها أرسلت هي وجيرانها وأهالي المنطقة عشرات الشكاوى إلى مجلس الوزراء، وجاءت الردود بأن وزارتي البترول والبيئة تعملان على تخفيف حدة الانبعاثات، مع حفظ الشكاوى العديدة المقدمة، وقامت مؤخراً بتحرير توكيل لأحد المحامين إلى جانب عدد من المواطنين بالمنطقة؛ للمطالبة بنقل مجمعات التكرير وإثبات الأضرار الصحية التي تعرض لها الكثيرون.
هناك بعض الحالات التي تعرضت لمشكلات صحية صعبة، بينهم إبراهيم المنياوي، صاحب أحد المقاهي بمنطقة جسر السويس شرق القاهرة، التي تبعد 25 كيلومتراً عن منطقة مسطرد وتتبع محافظة القاهرة، وهو مريض بالربو المزمن، وحينما تنتشر روائح الغاز الكريهة يتعرض للاختناق، وفي إحدى المرات أُصيب بحرقان شديد بمنطقة العين والصدر، وبعدها فقد الوعي.
يؤكد المنياوي أن نصيحة الطبيب المعالج له كانت بضرورة ترك منزله في أقرب فرصة، وأنه يواجه الموت البطيء بسبب احتمالات إصابته بسرطان الرئة، ويصطدم بمشكلة إمكانية توفير مسكن ملائم لارتباطه بالمنطقة، بحكم محل عمله الرئيسي، كما أن أبناءه في مراحل التعليم المختلفة، ولن يكون سهلاً عليه الانتقال لمكان جديد.
يلفت المواطن الخمسيني إلى أن المنطقة لم يصل إليها أي روائح كريهة قبل عام من الآن، قبل أن يشعر مبكراً بها نتيجة المرض بأن رائحة تتسلل إلى الأنف وتكون مؤلمة للغاية، وفي كثير من الأحيان يوقظ زوجته وأبناءه لإنقاذه، وأن البخاخات والأدوية التي يستعملها عند اللزوم لم يعد لديها مفعول يُذكر مع كثرة استخدامها ليل نهار، واستمرار الروائح دون توقف على مدار اليوم.
مواطنون يعانون حساسية الصدر منذ إنشاء المجمع الجديد
لم تكن أمنية فرج، وهي شابة ثلاثينية، تعاني أي مشكلات صحية في الصدر قبل عدة أشهر، قبل أن تصاب بحساسية صدر مستمرة جراء استنشاقها روائح بترولية كريهة داخل منزلها بحي مصر الجديدة الذي يبعد 27 كيلومتراً عن منطقة مسطرد، مشيرة إلى أنها انتظرت فصل الشتاء حتى تختفي الرائحة مثلما أشار مسؤولو وزارة البيئة في تصريحات عديدة سابقة من قبل، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
وتضيف قائلة: "للأسف الرائحة تكون قوية للغاية، ورغم أننا نقوم بإغلاق جميع منافذ البيت، لكنها تظل موجودة حتى وإن اختفت بعض الوقت، لكنني أشعر بأنها تزكم أنفي وتبقى في كافة أرجاء المنزل، وأشعر بالاختناق طول الوقت، وبكحة وسعال في أحيان عديدة، وفي الوقت ذاته، فإنني مللت من تقديم الشكاوى والبلاغات إلى جهات حكومية وأمنية عديدة دون جدوى، وأدعو الله أن أخرج سالمة من المنزل إلى أي منطقة أخرى أستطيع فيها استنشاق هواء نقي".
تحرك الآلاف من المواطنين المصريين لمواجهة الأزمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودشنوا "جروب" يحمل اسم"كفاية رايحة انبعاثات بترولية" وقاموا بتدشين توكيلات إلكترونية للتحرك قضائياً، لكنهم يدركون أنهم أمام معركة طويلة لن يتم حسمها قريباً إن تمكنوا من ذلك بالفعل، ودب اليأس في نفوس الكثير منهم عبر التعليقات التي أكدت أنهم انتظروا قمة المناخ؛ لكي تكون متنفساً لهم يمكنهم من عرض مشكلتهم أو التحرك لحلها، لكن ذلك لم يحدث أيضاً.
دراسات تؤكد تلوث هواء المنطقة بنسب أعلى من المسموح بها دولياً
وتشير دراسة الأثر البيئي لمشروع الشركة المصرية للتكرير، وهي واحدة من ثماني شركات ومجمعات عاملة في مجال تكرير البترول بمسطرد، إلى أنه تسبب في ارتفاع تركيزات الرصاص في المياه الجوفية.
وفي ظل البيئة الصناعية الكائنة في منطقة المشروع، فإنّ التلوث الصناعي يوحي بأنّ تلوث التربة والمياه الجوفية محتمل، ويحتمل أن تكون هذه هي الحال مع الأرض الشمالية والجنوبية للمشروع.
وكشفت الدراسة أنّ تلوث الهواء بالمنطقة أعلى من المسموح به دولياً، وقالت إنّ البيانات من محطتي مراقبة الهواء بمنطقة شبرا، التي تقع على بعد خمسة كيلومترات من المشروع، وكذلك محطة قها، توضح التركيزات القصوى للملوثات بصفة مستمرة.
وتشمل البيانات لمحطة رصد شبرا الخيمة تركيزات ثاني أوكسيد الكبريت، بينما تشمل بيانات محطة رصد قها تركيزات ثاني أوكسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة، وتتجاوز متوسط التركيزات لثاني أوكسيد الكبريت التي جرى قياسها في كلّ الأوقات في محطة شبرا الخيمة، القيم التي تحددها المعايير المصرية والأوروبية ومعايير البنك الدولي.
طلبات إحاطة محلها أدراج البرلمان المصري
وتقدمت النائبة البرلمانية عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، سميرة الجزار بطلب إحاطة موجه إلى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أكدت فيه أن الأضرار التي تعرض لها ما يقرب من خمسة ملايين مواطن في شرق القاهرة جاءت بالتزامن مع افتتاح وتشغيل مجمع تكسير الهيدروجين الجديد، وأن الأهالي قدموا استغاثات لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزارة البيئة ووزارة الصحة والسكان وللنائب العام وجميع الجهات المسئولة، يطالبون فيها بحقهم بتنفس هواء نقي بدون مواد خانقة، ونجدتهم من الرائحة القاتلة.
وطالبت بـ "إطلاع المجلس على الدراسة البيئية الخاصة بمجمع البتروكيماويات الجديد بمسطرد، خاصة الذي يعمل بخاصية التكسير الهيدروُيني بمسطرد، وكيف وافقت الوزارة على المشروع الذي اتضح فعلياً وعملياً أنه يضر الملايين من أهالينا طبقاً لتصريحات السكان، وطالبت بوقف تشغيله على الفور".
ولم يتطرق البرلمان في أي من جلساته لطلب الإحاطة هذا أو غيره من الطلبات التي قدمها عدد آخر من نواب منطقة مسطرد حتى الآن.