تقترب إسرائيل من إجراء انتخابات الكنيست، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لتكون هذه الانتخابات هي الخامسة التي تشهدها إسرائيل في السنوات الأربع الأخيرة، في مشهد يعبر عن عمق الأزمة السياسية التي وصلت إليها دولة الاحتلال، بسبب الخلافات بين قادة الكتل السياسية أبرزها حول هوية رئيس الأركان الإسرائيلي القادم
انقسام الدولة يطال الجيش
الانقسام السياسي بات مهدِّداً لاستقرار الدولة، هكذا وصفته كبرى مراكز البحث والاستشراف الإسرائيلي، خصوصاً بعد أن دخل الجيش في عمق هذه الخلافات، وبات ورقة مساومة وابتزاز بيد قادة الكتل والأحزاب السياسية لتحقيق مصالح حزبية.
فمنذ انهيار الائتلاف الحكومي، في مايو/أيار الماضي 2022، وسقوط حكومة بينيت، دخلت إسرائيل في ذروة أزمة سياسية لم تشهدها منذ سنوات، إذ باتت هذه الحكومة التي يرأسها وزير الخارجية يائير لابيد مسيّرة للأعمال لحين إجراء الانتخابات القادمة، وبالتالي لا تستطيع هذه الحكومة اتخاذ قرارات استراتيجية، أهمها اختيار القائد الجديد للجيش، في ظل اقتراب نهاية ولاية رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي مطلع العام 2023.
شهدت الأسابيع الأخيرة حرباً إعلامية وقانونية بين وزير الدفاع بيني غانتس وزعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، بسبب الخلاف حول هوية القائد الجديد للجيش، إذ يصر غانتس على ضرورة أن يبقى الجيش بعيداً عن الاستقطاب الحالي، وبالتالي يجب معرفة خليفة كوخافي خلال المرحلة الانتقالية، في حين يرفض نتنياهو هذا الإجراء، ويُصر بدوره على تأجيل هذا التعيين لحين إجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة التي يراهن على رئاستها، بعد أن منحت استطلاعات الرأي الأخيرة كتلة اليمين برئاسته 61 مقعداً.
انتقل الصراع بين الرجلين إلى أروقة القضاء، حيث تقدم غانتس بطلب استثنائي إلى المستشارة القضائية للحكومة غالي بيهار ميارا، للسماح له باختيار القائد الجديد للجيش، من منطلق وصفه غانتس باعتبارات أمنية حساسة لا تحتمل التأجيل.
جوهر الخلاف بين نتنياهو وغانتس
ينافس ثلاثة جنرالات على منصب رئيس الأركان القادم، وهم: الجنرال هرتسي هليفي، نائب رئيس الأركان الحالي، وهو المرشح المفضل لغانتس، والجنرال أيال زمير، النائب السابق لرئيس الأركان، وهو المرشح المفضل لنتنياهو، أما الجنرال الثالث فهو يوئيل ستريك، القائد السابق للقوات البرية، ولكن حظوظه في المنافسة تراجعت، لتبقى المنافسة محصورة بين هليفي وزمير.
يفضل نتنياهو المرشح أيال زمير، الذي شغل سابقاً السكرتير العسكري لمكتبه، عندما كان رئيساً للحكومة بين الأعوام 2013-2018، وبالنظر للأهمية الاستراتيجية التي يحظى بها قائد الجيش في إسرائيل، يصر نتنياهو على ترشيح زمير، نظراً لتطابق أفكارهم في العديد من القضايا، وبذلك يريد نتنياهو مرشحاً يعبّد له الطريق لاتخاذ قرارات حساسة في أية جبهة قتالية تحيط بإسرائيل، سواء في مواجهة التهديد الإيراني أو سوريا وحزب الله أو لإدارة الحالة الأمنية في كل من غزة والضفة الغربية.
ويمثل مثلث رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، أعلى هرم السلطة في إسرائيل، إذ يقف رئيس الأركان كحلقة وصل بين المستوى السياسي من جهة والعسكري والأمني من جهة أخرى، ويتمتع رئيس الأركان بدور مهم في اتخاذ قرارات استراتيجية، في حال تهرب الساسة من المسؤولية، أو لم يستطيعوا حسم مسألة تتطلب قراراً بالإجماع، فيأتي قرار قائد الأركان كقرار مفصلي ونافذ تقف خلفه كامل الدولة.
لماذا تبدو هذه الأزمة مقلقة بالنسبة للجيش؟
نشر الكاتب الإسرائيلي إيتمار إيخنر مقالاً بصحيفة يديعوت أحرونوت، اعتبر أن الأزمة الحالية حول تحديد هوية رئيس الأركان مقلقة للغاية، فلم تعتد إسرائيل تاريخياً على إدخال الجيش في معترك الخلافات السياسية، إذ كان الجيش تاريخياً محيداً عن أية صراعات داخلية، وهو مفرغ بشكل كامل لحماية الأمن القومي الإسرائيلي من التهديدات المحيطة به.
يستشهد المقال بآخر 3 تعيينات تمت في السنوات الأخيرة لاختيار قائد الجيش، حيث حرص وزير الدفاع إيهود باراك على اختيار بديل لرئيس الأركان غابي أشكنازي، منذ أبريل/نيسان 2010، أي قبل عشرة أشهر على انتهاء ولايته، وعين بيني غانتس آنذاك رئيساً للأركان، لاحقاً سار وزير الدفاع بوغي يعالون على نهج سلفه، واختار غادي آيزنكوت قائداً للجيش في سبتمبر/أيلول 2014، قبل 5 أشهر من انتهاء ولايته، كما حرص وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان على اختيار أفيف كوخافي قائداً للجيش، منذ مايو/أيار 2018.
يحرص وزراء الدفاع على ترك مساحة زمنية كافية تسمح لرئيس الأركان الجديد بوضع خططه العسكرية للسنوات الأربع القادمة، لحين انتهاء ولايته، والوقوف على التحديات الراهنة، سواء المتعلقة بالعقبات والمشاكل اللوجستية والفنية التي تواجه الجيش، وتقييم التهديدات الخارجية أو تلك التهديدات التي تتطلب تدخلاً عاجلاً، والهدف من ذلك هو قطع الطريق أمام الأطراف الخارجية، التي قد تستغل الفترة الانتقالية وترتيبات نقل السلطات لتنفيذ هجمات قد تضر بالأمن الإسرائيلي.
يعتقد غانتس أنه إذا لم يعرف هوية رئيس الأركان خلال فترة 4-5 أشهر قبل انتهاء ولاية كوخافي، فإن الجيش سيصبح أداة بيد الساسة، وهو وضع معقد بالنظر لحجم التهديدات المحيطة بإسرائيل التي تمتد من إيران وسوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية، وحتى التهديد الداخلي من المجتمع الإسرائيلي بات يحتل أولوية لدى صناع القرار.
نشر الكاتب الإسرائيلي يوآف زيتون مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت، جاء بعنوان تأثير الأزمة السياسية على الجيش الإسرائيلي، أشار من خلاله إلى أن تأجيل اختيار قائد الجيش لما بعد الانتخابات القادمة سيترتب عليه الانتظار لمدة 60 يوماً، لحين تشكيل الحكومة- هذا في حال افترضنا نجاح الكتل السياسية بالوصول لعتبة 61 مقعداً- تستغرق المشاورات بين وزير الدفاع ورئيس الحكومة وقتاً ليس أقل من شهر لاختيار قائد الأركان، وهذا يعني عملياً انتهاء الربع الأول من العام القادم دون معرفة من هم هيئة الأركان أو كبار الضباط في الجيش.
وإلى حين تسلم رئاسة الأركان لأحد المرشحين المنافسين على هذا المنصب، يتطلب منه وقتاً أطول لتقييم خطته متعددة السنوات، وإلى مدى يمكن أن تحظى هذه الخطة بموافقة هيئة الأركان، إذ يتطلب مثل هذه الخطط قبل إقرارها نقاشات ومشاورات كونها تحاكي تقييم الحالة الأمنية وسلم التهديدات المتوقعة للسنوات الأربع القادمة، وبالتالي قد ينتهي العام 2023، دون أي إضافة نوعية من رئيس الأركان الجديد.
أزمة الميزانية
قاد كوخافي قيادة الأركان في بداية الاستقطاب السياسي الحاد الذي تعيشه إسرائيل حالياً، فمرت الدولة بوضع حكومة طوارئ لمدة عامين كاملين، وبالتالي أدى غياب الميزانيات إلى تأجيل خطة "تنوفا" لعامين كاملين، حيث قدم كوخافي خطة لمدة 4 سنوات لم ينجح في تنفيذها بسبب غياب الميزانية، إلى أن طبقت جزئياً في العامين الأخيريين من ولايته.
أدى غياب الميزانية في فترة كوخافي لقصور في أداء الجيش، خصوصاً في التعامل مع أحداث عسكرية أضرت بالأمن الإسرائيلي، حيث جاء في تقرير مراقب الدولة للتحقيق في أحداث معركة سيف القدس، في مايو/أيار 2021، أن قصوراً في أداء القوات النظامية، وعدم جاهزية قوات الاحتياط تسببا في إرباك الجبهة الداخلية أثناء المعركة مع حركة حماس.
تشير يديعوت أحرونوت أن قادة الجيش يخشون من تكرار هذا السيناريو لرئيس الأركان القادم، فغياب الميزانية وعدم إقرارها وهذا متوقع، يعني أن خطط تطوير الجيش ستبقى ساكنة، ولن يتم الأخذ بالتوصيات التي يرفعها قادة الجيش لسد الثغرات التي يعاني منها الجيش.
ماذا يعني ذلك؟
ستتوقف التدريبات للسرايا القتالية، وبالتالي سيكون أداء الجيش منخفضاً في ساحات القتال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ستقتصر المناورات والتدريبات على القوات النظامية النشطة، وبالتالي لن تكون قوات الاحتياط على أتم الجاهزية للاندماج في جبهات القتال حين حدوث طارئ.
وقال قادة كبار في سلاح الجو إنهم وصلوا إلى حالة انهيار في العامين الأخيرين بسبب الأزمة السياسية، فالكثير من صفقات تطوير سلاح الجو تأجلت، وأهمها صفقة طائرات التزود بالوقود من طراز Boeing KC-46، التي يلزم وجودها ضمن أسطول الطيران العسكري، في حال تقرر استهداف المشروع النووي الإيراني، كما أن سلاح الجو لا يزال يعمل في قاذفات من الجيل الرابع منذ سبعينات القرن الماضي.
بالإضافة لذلك سيتوقف الجيش عن إكمال مشاريع لوجستية منها إصلاح الثغرات في خط التماس في جبهة الشمال مع لبنان، أو تلك الموجودة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب غياب الميزانية، وهذا يضع الدولة أمام تهديدات خطيرة.
شكل آخر من انزلاق الأزمة السياسية إلى مؤسسة الجيش، أن اليمين الإسرائيلي الذي بات يهيمن على الدولة، أبطل مشروعاً استراتيجياً تبنته هيئة الأركان لدمج النساء في الوحدات القتالية، حيث صادق وزير الدفاع بيني غانتس على توصية هيئة الأركان بدمج النساء في وحدة الإنقاذ الخاصة 669 من لواء المشاة كتجربة أولية، تمهيداً لإجراء تغيير دراماتيكي في بنية الجيش تتضمن دمج النساء والرجال في وحدات قتالية مشتركة.
إذ أوصى كبار الحاخامات من الصهيونية الدينية بمن فيهم الحاخام حاييم دروكمان والحاخام إيلي سادان، بإبطال قرار دمج النساء في وحدات قتالية، كون الجنود المتدينين الذين يلتزمون بالهالاخا (الشريعة اليهودية) لا يمكنهم الخدمة في وحدات قتالية مختلطة، لأن ذلك محرم في الدين اليهودي.