يشهد الأردن حالة من الجدل الواسع حول قضية الطيران منخفض التكلفة ومدى جدوى الأموال المخصصة من قبل هيئة تنشيط السياحة لجذب ودعم السياحة، تزامناً مع تسريب معلومات وبيانات تتحدث عن إهدار ميزانية هيئة تنشيط السياحة من دون استراتيجيات واضحة، وتركيزها بشكل كبير على دعم الطيران منخفض التكلفة في الأسواق الأوربية، وتجاهل الأسواق الخليجية التي تحظى بنسبة كبيرة من السياح الزائرين.
وأشارت نقاشات الأردنيين إلى وجود حالة من الاستياء تجاه هيئة تنشيط السياحة، لتجاهلها تطوير البنية التحتية الخاصة بالسياحة في الأردن، سواء فيما يتعلق بالمواقع والآثار السياحية أو تطوير وخلق أفكار إبداعية بالسياحة ومنها السياحة العلاجية.
ما هي قصة دعم الطيران منخفض التكلفة؟
تعود قصة الطيران المنخفض التكلفة في الأردن إلى أكتوبر/تشرين الأول 2018، حين انطلق خط طيران مباشر بين العاصمة عمان وبودابست لأول مرة، بعد تسعة أشهر من إعلان شركة "ريان إير" وهيئة تنظيم قطاع السياحة توقيع اتفاقية لتسيير 14 خطاً جديداً مباشراً بين 13 مدينة أوروبية ومطار الملكة علياء في عمّان ومطار العقبة.
كانت هذه الاتفاقية الأولى من نوعها التي توقعها الحكومة الأردنية ضمن سلسلة اتفاقيات مع شركات طيران منخفض التكلفة، تماثل أسعار تذاكرها أحياناً سعر وجبة عشاء.
فالحكومة الأردنية عبر هيئة تنشيط السياحة، عمدت إلى دعم قطاع السياحة بالأردن، وذلك بعد أن أظهر تحسناً وتعافياً عام 2017 نتيجة عوامل عدة، منها الهدوء السياسي النسبي في دول الجوار بالمقارنة بأعوام 2014 و2015، وأخرى تتعلق بتغيير توجهات وزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة لجعل الأردن نقطة يسهل الوصول إليها.
إذ عبر أكثر من 8.4 مليون مسافر من مطار الملكة علياء عام 2018، أي بزيادة قدرها نصف مليون مسافر، بالمقارنة بعام 2017 حسب أرقام هيئة المطار الدولي. يرافق ارتفاع أعداد المسافرين عبر السنوات الأخيرة ارتفاع عائدات الحكومة من المطار، بحسب ميزانية وزارة النقل.
ميزانية كبيرة لدعم السياح الأوروبيين رغم قلتهم
تشير خبيرة السياحة ومدير عام شركة مختصة بالسياحة الوافدة، رجاء الجزار، إلى أن الميزانية المخصصة لدعم الطيران منخفض التكاليف من قبل هيئة تنشيط السياحة تبلغ أكثر من نصف ميزانيتها المقدرة بـ72 مليون دينار أردني (حوالي 100 مليون دولار) كل عام. إذ يتم تخصيص 36.1 مليون دينار (حوالي 51 مليون دولار) لتسويق 3 شركات طيران منخفضة التكاليف، هي "إيزي جت" و"رايان إير"، و"ويز إير"، لاستقطاب السياح عبر الطيران منخفض التكلفة.
كما خصصت الهيئة لحملات تسويق الطيران 4.7 مليون دينار (حوالي 6.6 مليون دولار) لأول مرة في موازنتها، الأمر الذي يخلق- بحسب رؤية الجزار- علامات استفهام عن الأسباب الحقيقية في الاستمرار في دعم الطيران المنخفض من قِبل الهيئة والحكومة الأردنية، على الرغم من عدم جدوى هذا الدعم.
وتشير الجزار إلى أن توجه هيئة تنشيط السياحة الأردنية في دعم الأسواق الأوروبية بالطيران الرخيص لجذب السياحة للأردن، يأتي على الرغم من أن دخل السوق الأوروبي لا يتعدى 11% من حجم الدخل السياحي للأردن. في حين أن الدعم المخصص له يشكل ما نسبته 90% من قيمة الدعم المخصص للطيران منخفض التكلفة من قبل الهيئة، حيث تشمل نسبة 11% كل شخص دخل إلى الأردن ويحمل جواز سفر أوروبياً.
وتوضح الجزار لــ"عربي بوست" أن حجم الإنفاق على دعم الطيران المنخفض بلغ 20 مليون دينار أردني (28 مليون دولار) عام 2018، وكذلك الأمر بالنسبة لعام 2019، فيما زاد حجم الدعم في عام 2022 ليصل إلى 36 مليون دينار، رغم أنّ استهداف الأسواق الأوروبية بهذه النسبة الكبيرة من ميزانية الهيئة أثبت عدم جدواه.
الدول العربية أهم من الأوروبية
وتؤكدّ الجزار أن حصة الأوروبيين من السياحة الأردنية تعدّ منخفضة مقارنة بحصص السائحين من الجنسيات العربية، مشيرة إلى أن ميزانية الهيئة كاملة 72 مليون دينار، ويتم تخصيص 36 مليون دينار لدعم الطيران المنخفض في أوروبا، إضافة إلى 2 مليون للخطوط الملكية في أوروبا، و2 مليون أخرى لدعم الطيران العارض في السوق الأوروبية، ليصبح المبلغ 40 مليون دينار، يضاف إليه تكاليف التسويق والمشاركة في المعارض على المستوى الأوروبي، لتصبح النسبة 90% من ميزانية التسويق السياحي.
يأتي هذا في وقت لا يتعدى فيه عدد السياح القادمين من أوروبا نسبة 14% من إجمالي الزائرين للأردن، وهذا يعدّ خللاً كبيراً في السياسات، وتخبطاً في طريقة التعاطي مع الملف السياحي، على حد تعبيرها.
وتؤكدّ الجزار أن ما يقارب 30% من مجموع التذاكر المباعة للطيران المنخفض المدعوم من الأردن هي ذات وجهة واحدة (أي ذهاب بلا عودة)، وهذا يعني أن المستفيدين منها ليسوا السياح الأجانب في أوروبا، بل هم من الطلبة الجامعيين والمغتربين الأردنيين ومن الدبلوماسيين الأجانب، سواء من العائدين إلى البلاد أو الخارجين منها بغرض الدراسة أو بغرض زيارة الأقارب، الأمر الذي يعطي مؤشراً حقيقياً عن المستفيد الحقيقي من الطيران المنخفض.
تجاهل لدعم الرحلات القادمة إلى العقبة والمثلث الذهبي
وعلى الرغم من أن الرحلات الجوية منخفضة التكلفة إلى مطار الملك حسين الدولي "مطار العقبة" والذي يخدم منطقة المثلث الذهبي (العقبة، البتراء، وادي رم)، تشكل أولوية مهمة من قبل هيئة تنشيط السياحة لجذب السياح إليها، فإن حصة الركاب تعدّ منخفضة للغاية مقارنة بالركاب الذين يتوجهون للعاصمة، بحسب مصادر خاصة مطلعة لـ"عربي بوست".
وتشكل منطقة المثلث الذهبي أولوية قصوى للأردن، باعتبار أن غالبية السياح الأوروبيين ومن الجنسيات غير العربية تأتي إلى الأردن بغرض السياحة لتلك المنطقة، نظراً لما تحتويها من تاريخ وآثار، إلا أنّ هيئة تنشيط السياحة تجاهلت بشكل كبير تخصيص الحصة الأكبر لدعم الرحلات الجوية من عدة عواصم ومدن أوروبية باتجاه مطار العقبة.
هذا الأمر يؤكد عليه عدة خبراء خبراء سياحة في الأردن، وعلى رأسهم الخبيرة السياحية رجاء جزار، التي تؤكد بدورها على أنّ هذه السياسة تعدّ غير واضحة.
إعادة قراءة الأرقام بطريقة منطقية
وبحسب الإحصائيات الرسمية، فإنه يتم احتساب أعداد الأردنيين المقيمين في الخارج من ضمن أعداد السياح، ولذلك فقد احتل المغتربون الأردنيون صدارة ترتيب الدول من حيث أعداد الزوار الكلية للأردن لأول 5 أشهر من العام الحالي، وجاءت السعودية في المركز الثاني، تلتها فلسطين. وجاء ترتيب الأسواق العشرة حسب أعدادها تنازلياً من الأعلى للأقل على النحو التالي:
1- الأردنيون المغتربون 424 ألفاً
2- السعودية 263 ألفاً
3- فلسطين 171 ألفاً
4- سوريا 107 آلاف
5- مصر 51 ألفاً
6- العراق 51 ألفاً
7- إسرائيل 44 ألفاً
8- الولايات المتحدة الأمريكية 40 ألفاً
9- الكويت 28 ألفاً
10- فرنسا 21 ألفاً
يشكل مجموع الأسواق العشرة الأولى ما نسبته 81% من مجموع الأعداد الكلي خلال أول 5 شهور من العام الحالي، في حين أنّ مخصصات الترويج لهذه الأسواق أقل من 5% من موازنة هيئة تنشيط السياحة.
هنا تعقّب الرئيسة التنفيذية لمركز الشفافية الأردني، هيلدا عجيلات، مؤكدةً أنه بناءً على الأرقام نرى أن السياحة هي أردنية من المغتربين، وعربية بامتياز، وهذا سبب تجاوزها التوقعات.
وترى عجيلات في حديثها لـ"عربي بوست"، أن التسويق إلى أوروبا تسويق كلاسيكي، "لا نريد محوه، ولكن يجب التفكير بطرق أفضل للتسويق ووضع ميزانية منطقية له حسب الدخل العائد منها في السنوات العشرين الأخيرة، والتعامل مع النسب وقراءاتها بطريقة منطقية".
وتتعجب في الوقت نفسه "من غير المنطقي أن تكون أكثر من نصف ميزانية الهيئة لدعم الطيران وحده، ناهيك عن التسويق الرقمي والمعارض وغيره لنفس المنطقة".
وتشدد أيضاً على أهمية النظر بشكل عام في نشاطات الهيئة التسويقية الترويجية للأردن في العالم، ووضع خطة تتناسب مع دخل كل مكان مع تصور إلى أي سوق احتماليته أعلى دخلاً وعدداً.
وتشير الرئيس التنفيذية لمركز الشفافية، أنّه بحسب المعلومات التي وردت للمركز، فإن أمريكا الشمالية من أقوى الأسواق، ولكنّها تقريباً على ثبات من أكثر من عشرين عاماً، بنسبة 3.3%، فهذا السوق يعدّ من أكثر الأسواق صرفاً، مشيرةً إلى أنّ دول الخليج والعرب تدخل 46% من الدخل السياحي للأردن، فيما لا تتعدى نسبة الصرف عليها من هيئة السياحة 5%، متسائلةً "أليس بالأحرى زيادة التسويق هناك لزيادة الدخل لأنّها سياحة إقليمية قريبة وتسويقها سهل وأقل كلفة؟".
ومن هنا ترى عجيلات أنّه لا بدّ من إجراء دراسة جادة سريعة شفافة عن طبيعة الطيران المنخفض بالأردن بالأرقام، من دون تجميل سوق وحده، لبيان الدخل منه ومراجعة قرارات دعم الطيران المنخفض بطريقة مجدية تعود بالنفع على السياحة الأردنية.
وأشارت إلى ضرورة تقسيم ودراسة كل سوق ومعرفة اتجاهاته واحتياجاته، وعدم الاكتفاء بوضع جميع الأسواق في سلة واحدة، موضحة أنّه لا أحد يجيب عن مثل هذه الأسئلة بالأرقام والمعلومات للوقوف على مدى جدواه.
تطوير البنية التحتية السياحية
وفي نهاية الأمر تؤكد عجيلات على أهمية تطوير البنية التحتية للسياحة بالأردن، فهي مهمة في عملية نجاح السياحة بالأردن، منوهةً إلى أنّ ذلك يمكن أن يتم عبر تطوير المنتج السياحي بزيادة عدد ليالي المبيت بناء على ندرة هذا في المنطقة والعالم.
واختتمت بالقول إن البنية التحتية من طرق وتطوير وتحديث للمواقع والحمامات هي القضية الأساسية التي ما زالت رئيسية، عبر الاهتمام بالآثار والمواقع الأثرية، وكذلك الاهتمام بتدوين الأدلة الجديدة بلغات متعددة مثل الصينية واليابانية وغيرها، مشددةً على ضرورة تطوير أفكار مستحدثة في السوق السياحي الأردني واتخاذ قرارات سريعة فيها.
إهمال الخطوط الملكية
وتكشف مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" رفضت الكشف عن اسمها، أن الإحصائيات تكشف أن مجموع من دخل إلى الأردن جواً من كل الجنسيات هو 645197 زائراً خلال أول 5 أشهر من العام، بينهم 487 ألف أجنبي نقلتهم الخطوط الملكية الأردنية، وهذا يساوي 8 أضعاف ما نقلته شركات الطيران المنخفض التكاليف دون احتساب الأردنيين، على الرغم من ارتفاع التذاكر وقيمة الكلف التشغيلية للناقل الوطني الرسمي الأردني.
ويأتي ارتفاع أسعار الخطوط الملكية بسبب أن الإدارات السابقة- حسب المصادر- باعت السوق الحرة وقامت ببيع الـcatering والصيانة، الأمر الذي انعكس على دخل الملكية الأردنية وجعلها تكتفي ببيع تذاكر السفر، في ظل ارتفاع أسعار الوقود المستمرة بالأردن، وتزايد رسوم المطار.
كما أن هذه الخطوط لا تحصل على حوافز الطيران المنخفض من إعفاء رسوم وضريبة مغادرة ودعم مالي، وتتساءل المصادر نفسها "لماذا لا يتم دعم الناقل الرسمي للبلاد بتلك الأموال المخصصة للطيران المنخفض، التي يتم تخصصيها للسوق الأوروبية، أليس من الأولى أن يتم دعم الطيران الوطني ليشجع السائح العربي والخليجي والمغتربين على السياحة بالأردن، خاصة أنّ نسبة السائحين من تلك البلدان هي الأعلى على مستوى السياحة الأردنية، فهم الأَوْلى إذاً بهذا الدعم من الأسواق الأوروبية؟".
وفي نهاية الأمر تؤكدّ الخبيرة السياحية رجاء جزار أنّ هناك تضارباً في الأرقام المعلنة حول الطيران منخفض التكلفة، مشيرةً إلى أنّ المدير العام لهيئة تنشيط السياحة، الدكتور عبد الرزاق عربيات، أعلن أنّ عدد الذين قدموا إلى الأردن منذ شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام بلغ 74 ألف راكب سياحة مبيت، فيما أعلن عن تصريح آخر متناقض بأن العدد بلغ 100 ألف زائر منذ بداية العام وحتى شهر مايو/أيار، متسائلةً في الوقت نفسه بالقول: "أرقام متضاربة حول الطيران منخفض التكلفة، وعن نفس الفترة والفارق بين التصريحين أيام، فأين الشفافية؟"، على حد تعبيرها.