رغم الصورة الوردية التي ترسمها تصريحات المسؤولين المصريين والجهات الإعلامية الحكومية عن الفرحة العارمة التي يشعر بها مزارعو القمح في مصر بعد موسم الحصاد الحالي، الذي بدأ منتصف أبريل/نيسان وينتهي في أغسطس/آب، فإن واقع بعض المزارعين الذين تحدث إليهم "عربي بوست" غير ذلك، بعدما لوّحت الحكومة بعقوبات ستلجأ إليها في حالة امتناع المزارعين عن توريد محصول القمح بالسعر الذي تحدده هي، بما يخالف حرية السوق وأحقية البيع لمن يمنح السعر الأعلى.
الجهات التنفيذية كما قال فلاحون لم تأخذ في حساباتها توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبات كثيرة، منها حفل إفطار الأسرة المصرية، بتعزيز كافة أوجه الدعم المقدم لمزارعي القمح في مصر، وزيادة المحفزات المقدمة لهم، سواء مادية أو خدمية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، إلا أن الحكومة لم ترفع سعره إلا 65 جنيهاً فقط للإردب الواحد، وهي زيادة رآها الكثيرون غير عادلة لا تتناسب مع توحش الأسعار، فضلاً عن أنها حملت الفلاح مسؤولية النقل وتوصيله لنقاط التجميع الخاصة بالحكومة.
وأبدى مزارعون بمحافظة الشرقية، وهي على رأس المحافظات المنتجة للقمح بنحو 432 ألف فدان، استياء بالغاً وعدم رضا بسبب شعورهم المتنامي بأن الحكومة تعاقب المزارع على اختياره زراعة القمح.
مزاعو القمح في مصر.. التوريد الإجباري
يقول عماد محمد، وهو مزارع في إحدى قرى مركز منيا القمح التابع لمحافظة الشرقية لـ "عربي بوست": "منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وهناك وصاية وظلم بيّن واقع على مزارعي القمح، حيث تفاجأنا بقرار وزير التموين بالتوريد الإجباري للمحصول، رغم أن ذلك يتعارض مع اتفاقيات تحرير التجارة التي وقعت عليها مصر.
بدأت الحكومة سياسة التوريد الإجباري للقمح في سنة 1945، لكن تلك السياسة توقفت لثماني سنوات من عام 1976 إلى 1984، لتتحول إلى البيع الاختياري، حيث يمكن للمزارعين بيع القمح طواعية للحكومة بسعر شراء ثابت. وفي عام 1985 أعيدت سياسة التوريد الإجباري في ظل إحجام الفلاحين عن البيع طواعية بسعر بخس، وتم الغاؤه مرة أخرى في سنة 1988، وبعد 32 عاماً أعادت الحكومة العمل بسياسة التوريد الإجباري مرة أخرى، وأصدرت قراراً يُلزم مزارعي القمح في موسم حصاد 2022، الذي بدأ منتصف شهر أبريل/نيسان، ويستمر حتى نهاية أغسطس/آب المقبل، بتسليم 12 إردباً كحد أدنى على كل فدان يزرعونه، ووضعت قيوداً على بيع باقي المحصول المتبقي (حيث لا يستطيع نقل القمح الناتج عن موسم حصاد العام الجاري من مكان إلى آخر إلا بعد الحصول على تصريح بذلك من الجهات الحكومية، وهي الشركة القابضة للصوامع، والشركة العامة للصوامع والتخزين، وشركات المطاحن التابعة للقابضة الغذائية، والبنك الزراعي المصري).
يوضح المزارع أنه يستأجر ثلاثة أفدنة، ومعظم المستأجرين تتبقى لديهم كميات قليلة بعد توريد القمح، في ظل صغر مساحة الحيازات الزراعية، فهل يعقل أخذ الإذن وتحمل نفقات السفر لمقرات الوزارة للحصول على تصريح التصرف في محصولنا؟
يشرح المزارع أن متوسط إنتاجية الفدان 18 إردباً تقريباً، والقرار يجبره على توريد ثلثي المحصول، وهو يزرع ثلاثة أفدنة، سيورد 36 إردباً ويتبقى له 18 إردباً (الإردب 150 كيلوغراماً)، ووفق قرار وزير التموين فإن المزارع إذا قام ببيع القمح خارج منافذ التوريد الحكومية، من دون الحصول على ترخيص مسبق بالنقل أو التخزين، سيتم مصادرة هذه الكميات من المزارع أو التجار أو الوسطاء، والتحفظ على وسيلة النقل نفسها.
طبقاً لقوانين حرية السوق المتبعة منذ عقود، فإنه من حق الفلاح أن يبيع محصوله لمن يعطيه السعر الأعلى، وكانت الحكومة المصرية أعلنت أن السعر الذي ستشتري به حسب درجة النقاوة يصل إلى 885 جنيهاً للإردب، إن كان المحصول كله فرزاً أول، وهذا لا يحدث في الواقع، لأن هناك نسبة هدر.
الدستور يحمي الفلاح من الاستغلال، والحكومة تفعل!
قرارات الحكومة لم تجد قبولاً لدى مزارعي القمح المستأجرين وأصحاب الحيازات الزراعية، الذين اشتكوا من انخفاض سعر التوريد للجهات الحكومية عن ألف جنيه للإردب، وأنهم لن يتمكّنوا من تعويض ما أنفقوا من إيجار وزراعة وتكاليف المزارعين والعمال والأسمدة والأجهزة، فضلاً عن تكاليف النقل إلى نقاط التسليم.
يقول ناجي سليم، وهو فلاح يمتلك خمسة أفدنة يزرعها قمحاً بإحدى القرى المجاورة لمركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، إن الحكومة أظهرت العين الحمراء للفلاحين، وبدلاً من أن تتعامل معهم باعتبارهم حائط صدّ لتأمين الغذاء للبلاد، أو شركاء في إدارة الأزمة المرتبطة بتوفير رغيف الخبز، فرضت وصايتها عليهم، واعتبرت الفلاحين عبيداً لديها، وعليهم السمع والطاعة عندما تُقرر الامتناع عن شراء محصول القمح من الفلاح لتستورده من الخارج، وعليهم الترحيب إن قررت بسبب الأزمة اللجوء إليهم كبدلاء وقت اللزوم.
فهل تنتظر التعاطي مع قرار التوريد الإجباري وهي تُخضع أصحاب الحيازات الزراعية لأسعار لا تُحقق ربحاً من زراعتهم لمحصول القمح، رغم أن الدستور ينص في مادته رقم 29 على "شراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب، يحقق هامش ربح للفلاح، وحمايته من الاستغلال".
يتساءل صاحب أفدنة القمح هل كانت الحكومة ستتحكم في محصوله إذا كان فاكهة مثلاً؟ وهل إذا حدث نقص في الزيوت وارتفع سعرها فهل ستُجبر الحكومة مصانع الزيوت على تسليمها حصة من إنتاجها بسعر أقل، مثلما يحدث مع الفلاح هذه الأيام، ولماذا عليه تحمل تبعات ليس له يد فيها، تحت شعارات لن تسد جوع أطفاله، من قبيل الوقوف بجانب الوطن في أزمته، وهل ستقف حكومة الوطن بجانبه وتسدد عنه التزاماته، وتعفيه من مصروفات المدارس والجامعات، وتسد عنه فاتورة المياه والكهرباء وغيرها.
الفلاح بين مطرقة الحكومة والتقارير المفبركة
حمدى السبيل، مهندس زراعي بالجمعية الزراعية، يشير إلى أن المسؤولين يعوّلون على الفلاح لتجاوز الأزمة، بينما الأخير مهموم بتكاليف الزراعة، التي ارتفعت أسعارها بشكل لا يستطيع تحمله.
يشير المهندس إلى أن سعر طن القمح عالمياً، خلال شهر مايو/أيار، بلغ 453 دولاراً، وهو ما يوازي 8244 جنيهاً مصرياً، في حين تبلغ قيمة الطن -حسب أعلى جودة وفق السعر الذي قررته الحكومة للإردب- 5900 جنيهاً (324 دولاراً)، أي أن الفرق بين سعر مايو/أيار العالمي، وسعر التسليم في الوقت الحالي للحكومة يبلغ 129 دولاراً للطن، وقد يزيد هذا الفرق بعد إضافة تكلفة الشحن البحري وارتفاع أسعار النفط.
ألم يلفت نظر الحكومة أن سعر الذرة الصفراء التي يشتريها الفلاح لتغذية المواشي تجاوز الـ7500 جنيه للطن، فهل المنطق أن يشتري الفلاح العلف بسعر أعلى من قمحه؟!
الغريب أن الحكومة تُصر على أن تضع الفلاح تحت ضغط، وتُراهن على استجابته، بعد محاصرته بقرار يحرمه من صرف الأسمدة المدعومة، ومن دعم البنك الزراعي إن امتنع عن توريد الكمية المحددة، مع تطبيق العقوبات المنصوص عليها في المادة 56 من القانون رقم 95 لسنة 1945، الخاص بشؤون التموين، وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على 5 سنوات، وغرامة لا تقل عن 300 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه، وتُضبط كميات القمح، ويُحكم بمصادرتها، كما تُضبط وسائل النقل أو الجر التي استُعملت في نقله، ويُحكم بمصادرتها.
وعن إذا ما كانت سياسة التوريد الإجباري ستنجح في شراء 6 ملايين طن من القمح المحلي كما تستهدف الحكومة، يقول عضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصري، إن البعض لم يستجب للتهديدات والعقوبات، ويستخدمون القمح الرخيص علفاً للمواشي بدلاً من الذرة الغالية، وآخرون يقومون بطحن القمح وبيعه دقيقاً للمخابز بسعر كبير، ولن يهتموا إذا حرمتهم الحكومة من الأسمدة أو القروض البنكية، لأن أرباحهم من البيع بسعر مجزٍ ستخفف من العقوبات التي ستُفرض عليهم.
ما قاله العضو كشف عنه مستند رسمي، حصل عليه موقع "مدى مصر"، يشير إلى انخفاض كميات القمح المحلي المورّدة إلى وزارة التموين، بعد مرور شهر على بدء موسم التوريد بنحو 77%، مقارنة بالمدة المناظرة خلال العام الماضي.
المستند صادر عن الهيئة العامة لسلامة الغذاء، ويشير إلى أن وزارة التموين جمعت ما يقرب من 248 ألفاً و351 طن قمح محلي، منذ مطلع أبريل/نيسان الماضي، وحتى أول مايو/أيار الجاري، فيما كانت الكمية المورَّدة خلال المدة المناظرة بالسنة الماضية هي مليون و81 ألفاً و510 أطنان. ويوازي ما جمع هذا العام نحو 4% فقط من إجمالي ما تستهدف الحكومة جمعه من القمح المحلي، والبالغ 6 ملايين طن.
ويتساءل: لماذا لا تشتري الحكومة القمح من الفلاح بالسعر نفسه الذي تدفعه لجهات التوريد الأجنبية؟! فمن جهة يقل الاستيراد بالعملة الصعبة، وتوفر الدولار الذي تعاني من ندرته، ومن جهة أخرى تحقق للفلاح هامش ربح جيداً يشجعه على أن يتوسع في زراعة المحصول الاستراتيجي، الذي يعتمد عليه المواطن في الغذاء، وكان سبباً في قيام ثورات.
انفلات أسعار المدخلات الزراعية
يقول مصدر في وزارة الزراعة، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ"عربي بوست"، إن الحكومة لم تضع في اعتبارها وهي تضع قرار التوريد الإجباري انفلات أسعار المدخلات الزراعية، وعدم وجود رقابة من الجهات المختصة على نوعية وأسعار المبيدات والأسمدة، وهو ما رفع تكلفة الإنتاج الزراعي على المُزارع، فضلاً عن أنها لم تلتفت لتغير المناخ، الذي تسبَّب في خفض إنتاجية معظم المحاصيل.
وكشف المصدر عن أن واقع الإنتاج يشير إلى أن التقارير التي تتحدث عن الوفرة في المحصول هي تقارير ملفقة، وعندما سألناه لِمَ لا يقول ذلك لوزير الزراعة ارتبكَ، مشيراً بصوت منخفض أن من يقول ذلك هو من يستغني عن منصبه، لأنه حتماً سيطيح به.
يؤكد المصدر أن هناك مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة بالقمح في الدلتا والوادي والصحاري انخفض إنتاجها في السنوات الأخيرة من 18 إردباً للفدان إلى إنتاج يتراوح بين 8 و10 أرادِبّ، بسبب المناخ وندرة المياه ومتوسط الإنتاج، لا يمكن أن يتجاوز سقف 16 إردباً للفدان على أقصى تقدير، وهناك مساحات لن تحقق أكثر من 10 أرادِبّ فضلاً عن أن هناك أراضي مزروعة بالقمح تعرّضت للتملُّح وتصحر بعضها، وإنتاجها من القمح لن يصل إلى عشرة أرادِبّ للفدان.
تخبط في التصريحات
في التاسع عشر من مايو/أيار، حذّر المهندس ياسر عمر، وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، من عدم كفاية مخصصات شراء القمح بمشروع موازنة الهيئة العامة للسلع التموينية للسنة المالية الجديدة 2022/ 2023، لافتاً إلى أنه تم تخصيص نحو 43 مليار جنيه لشراء القمح المحلي والمستورد بالعام الجديد، قائلاً: "هذا المبلغ لن يكون كافياً"، موضحاً أنه من المتوقع أن تتعدى تكلفة توريد القمح المحلي مبلغ 15 مليار جنيه، وأن المبلغ المتبقي سيكون 28 مليار جنيه فقط، مؤكداً أن هذا الرقم لن يكفي لاستيراد الكميات المطلوبة من الخارج، في ظل ارتفاع الأسعار عالمياً.
وتساءل عمر عن حجم مشتريات مصر من القمح خلال عام 21/ 22 حتى الآن، وأوضح أحمد يوسف منصور، نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للسلع التموينية، أنه كان مخصصاً لهذا الغرض نحو 35 مليار جنيه، وتم استيراد 4.7 مليون طن قمح بسعر 335 دولاراً للطن، بإجمالي تكلفة بلغت نحو 25 مليار جنيه، وتم شراء قمح محلي بقيمة 13 مليار جنيه، ليبلغ الإجمالي حتى اليوم نحو 38 مليار جنيه للقمح، وكان مدرجاً بـ35 ملياراً بالموازنة.
ويبلغ إجمالي المساحة المزروعة من محصول القمح على مستوى الجمهورية حوالي 3 ملايين و659 ألف فدان، ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي إنتاجية المحصول هذا الموسم حوالي 10 ملايين طن، وفقاً لوزارة الزراعة.
لكن بسبب حالة التخبط في التصريحات الحكومية فيما يخص كميات المحصول التي تم توريدها من الفلاحين، لم يصل "عربي بوست" إلى الكميات الحقيقية التي تم توريدها إلى الآن.
على سبيل المثال هناك تصريحات لبعض المحافظين عن كمية القمح المورّدة من محافظاتهم، لا تتفق مع البيانات الواردة في مستند سلامة الغذاء، مثل تصريح محافظ الغربية، عن تجاوز كمية القمح الموردة 13 ألف طن في محافظته، فيما ذكر المستند أن الكمية الموردة، حتى 2 مايو/أيار، بلغت 2282 طناً.
وأعلنت وزارة التموين والتجارة الداخلية، في 14 مايو/أيار، عن توريد ما يقرب من 1.6 مليون طن قمح محلي من المزارعين، منذ فتح باب التوريد في منتصف أبريل/نيسان الماضي، وذلك في إطار متابعة ورصد توريدات القمح المحلي لموسم 2022، بينما صرح نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للسلع التموينية بأنه حتى 19 مايو/أيار تم تسلم 2.8 مليون طن قمح محلي.