جددت الأزمة المالية التي تعانيها مصر نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ومِن قبلها فيروس كورونا المستجد، الجدل حول العاصمة الإدارية في مصر واحتوائها على مراكز للاحتجاز في مقرات فخمة تخص الجهات السيادية، تكلفت المليارات رغم الأزمة المالية التي دفعت إلى إيقاف العمل في بعض الإنشاءات الحكومية بالعاصمة الإدارية الجديدة إلى حين انفراج الأزمة.
تعالت أصوات مطالبة بضرورة الكشف عن المبالغ الحقيقية التي تكلفتها الدولة لبناء الإنشاءات الحكومية في العاصمة الجديدة، خصوصاً بعدما تم الكشف عن فخامة ما يعرف باسم مركز القيادة الاستراتيجية، الذي وجه السيسي مؤخراً بضرورة استمرار العمل فيه وفق التخطيط الزمني والإنشائي المقرر، في ظل التكتم الشديد المفروض على أية تفاصيل تخص المبنى المفترض أن يكون جزءاً من مقر وزارة الدفاع في العاصمة الجديدة.
الحديث عن المركز جدد الجدل حول سبل التأمين التي توفرها الدولة للعاصمة الإدارية الجديدة والتي تجعلها قلعة حصينة أو بمثابة "منطقة خضراء" تشبه تلك التي ابتكرتها القوات الأمريكية لقواتها ومسؤوليها في بغداد عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تاركةً العراقيين للعيش في مواجهة المخاطر الأمنية اليومية.
قلعة محصنة تعادل 4 أضعاف مساحة واشنطن
رئيس شركة مقاولات هندسية تعمل في العاصمة الإدارية قال لـ"عربي بوست"، إن المكان يمكن وصفه بأنه قلعة محصنة من الخارج تصلح لأن تكون مقر الحكم الجديد، حيث تقع على بعد 45 كيلومتراً من ميدان التحرير و80 كيلومتراً من السويس، وتعادل مساحتها التي تبلغ 170 ألف فدان تقريباً مساحة دولة سنغافورة، كما تماثل 4 أضعاف مساحة العاصمة الأمريكية واشنطن.
لكن المرحلة الأولى ستكون على مساحة 40 ألف فدان، وتضم 10 أحياء سكنية، بجانب الحي الحكومي الذي يضم 34 مبنى تمثل الوزارات المختلفة بقطاعاتها التابعة عدا وزارتي الدفاع والداخلية، ويعد مبنى مجلس الوزراء البوابة الرئيسية للحي، والحي الدبلوماسي الذي يضم في مرحلته الأولى 50 سفارة أجنبية بمصر، وهناك مقر وزارة الدفاع المصرية الذي يعد الأضخم على مستوى العالم، حيث يضم جميع مقرات أفرع القوات المسلحة المصرية، ويُعرف باسم "الأوكتاجون"، وهي كلمة لاتينية تعني ثماني الأضلاع، لأنه مصمم على شكل مبنى ثماني الأضلاع.
وأكد الرجل ما يثار عن أن العاصمة الإدارية الجديدة تشهد تدابير أمنية خاصة لم تعهدها أي مدينة مصرية سابقاً، حيث يظهر سور بارتفاع 7 أمتار في بعض النقاط المحيطة بالمدينة، تتخلله 6 بوابات مصممة على الطراز الفرعوني، كما أن لديه معلومات بأن الحي الحكومي فقط سيتم تأمينه بتركيب 24 ألف كاميرا مراقبة متطورة ومزودة بوسائل للتتبع وحفظ الصور والوجوه؛ في محاولة لرفع درجات الأمان داخل العاصمة، فيما يمكن أن يصل عدد الكاميرات في كل أحياء المدينة إلى 150 ألف كاميرا بخلاف سبل تأمين مقر وزارة الدفاع الذي لا تتوافر أي بيانات عنه للمدنيين.
تدابير أمنية مشددة تمت مراعاتها خلال تصميم العاصمة الجديدة
مصدر أمني قال في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، إن "الهاجس الأمني كان حاضراً بقوة في تصميم العاصمة الجديدة، لأن الرئيس وكبار المسؤولين الذين كانوا يشغلون مناصب قيادية خصوصاً في الجهات الاستخباراتية خلال ثورة يناير/كانون الثاني من عام 2011".
وحول حقيقة بناء سجن في العاصمة الجديدة مثلما تم ترويجه في الفترة الماضية بمواصفات خاصة، نفى المصدر ذلك قائلاً إنه حتى هذه اللحظة لم يتم بناء سجن أو توجد خطة لبناء واحد حسب علمه، وهناك فقط مبنى المخابرات العامة الذي حصل على تصريح من وزير الداخلية بإمكانية احتجاز المواطنين فيه.
وبحسب ما علمنا، فإن هذا التصريح صدر من الوزير بعد مناقشات حول عدم كفاية أماكن الاحتجاز الموجودة في مقر وزارة الداخلية الجديد، وقد يكون التصريح مؤقتاً إلى حين حسم مسألة بناء سجن أو أماكن واسعة تكفي لاحتجاز عدد أكبر من الخارجين على القانون، مشيراً إلى أن ما يتم بناؤه مسألة طبيعية ولا يعني بالضرورة أن العاصمة ستكون بمثابة سجن كبير للفقراء والعمال والمعارضين مثلما يروج البعض، لكن أي مدينة تقام في أي مكان حول العالم تحتاج لأماكن احتجاز، لأنه من الطبيعي أن يكون فيها خارجون على القانون.
لكن المصدر لم ينفِ أن هناك تدابير أمنية مشددة تمت مراعاتها خلال تصميم العاصمة الجديدة؛ حتى لا تتعطل الدولة في مواجهة أي طارئ سواء كان مظاهرات شعبية أو اعتداء خارجياً، مشيراً إلى أن أبرز هذه التدابير إنشاء مقر القيادة الاستراتيجي على مسافة 14 متراً تحت سطح الأرض في نطاق مقر وزارة الدفاع الجديد وهو تابع للوزارة، تم فيه تجميع كل خوادم وسيرفرات عقل الدولة المصرية، ليتمكن من معالجة كل البيانات الخاصة بالدولة دفعة واحدة، كما يتضمن عدداً من المراكز التي تضمن السيطرة والانسيابية في إدارة كافة مؤسسات الدولة والاستعداد لمجابهة أية أزمات أو طوارئ.
مقر لتنسيق الأعمال اسمه "عقل مصر"
ويحتوي المقر الذي يوصف بأنه "عقل مصر"، على مركز لتنسيق أعمال دفاع الدولة، وكذلك مركز البيانات الاستراتيجي الموحد للدولة والذي يحتوي على كافة البيانات الخاصة بمؤسسات الدولة، ومركز للتحكم في الشبكة الاستراتيجية المغلقة للسيطرة على الجهاز الإداري للدولة.
إضافة إلى مركز الإدارة والتشغيل للتحكم في مرافق الدولة، ومركز للتحكم في شبكة الاتصالات والذي يضمن استمرار تحقيق الاتصالات على مستوى الدولة.
كما يضم أيضاً مراكز السيطرة على خدمات الطوارئ والسلامة الميدانية ومركزاً للتنبؤات الجوية والذي يعد مركز الدفاع عن الدولة ببيانات الأحوال الجوية أولاً بأول، ليكون مستعداً لمجابهة التغيرات الجوية المفاجئة، إضافة إلى مخازن ضخمة تؤمن احتياجات الدولة من السلع الاستراتيجية.
تكهنات بنزع سلطات "الأمن الوطني" لصالح المخابرات العامة
جدير بالذكر أن وزير الداخلية المصري قد أصدر قراراً مثيراً للجدل في الخامس عشر من فبراير/شباط الماضي، بإضافة مقر المخابرات العامة بالعاصمة الإدارية الجديدة ضمن الأماكن التي يجوز فيها حجز المتهمين على ذمة القضايا التي تمس الأمن القومي.
نص القرار في مادته الأولى على أن "مقر المخابرات العامة بالعاصمة الإدارية الجديدة، من الأماكن المرخصة قانوناً، بإيداع المتهمين بها، وذلك في القضايا التي تمس الأمن القومي وأمن الدولة من جهة الخارج، وفقاً للضوابط القانونية المقررة في هذا الشأن".
لواء سابق بوزارة الداخلية قال لـ"عربي بوست"، إن القرار يقنن لوضع قائم بالفعل، متسائلاً عن الضجة التي أثارها القرار بينما هناك قرار سابق نشرته الجريدة الرسمية رقم 377 لسنة 2021، وجعل مقرات "هيئة الرقابة الإدارية" بالعاصمة الإدارية مكاناً لاحتجاز المتهمين.
لا يتوقع المصدر أن يكون للنيابة العامة دور رقابي على أماكن الاحتجاز في العاصمة الجديدة أو لرقابة القضاء، على الرغم من أنه بموجب الدستور والقوانين تخضع أماكن الاحتجاز لرقابة القضاء، لكنها لن تقوم بهذا الدور داخل مقر المخابرات التي تتبع ابن رئيس الجمهورية.
يكشف المصدر أنه نمى إلى علمه أن المقرات الأمنية بالعاصمة الإدارية سيكون لها مزيد من الصلاحيات، وسيتم وضع ترتيبات قانونية لتقنين الأمر القائم بالفعل؛ حتى لا يتعرضوا للهجوم من الخارج ومن المنظمات الحقوقية بعدم قانونية القبض على المتهمين، وبذلك يتم تقنين وضع محبوسين حاليين هناك.
لكن القرار أثار استياء عدد من نشطاء حقوق الإنسان، وفي السياق نفسه استنكر أحمد العطار مدير "الشبكة المصرية لحقوق الإنسان"، اختيار العاصمة الإدارية بالذات لتكون مقراً للاحتجاز تابعاً للمخابرات، رغم وجود أماكن أخرى كثيرة في مصر، وهو أمر يسيء إلى العاصمة الجديدة التي يروج لها باعتبارها مستقبل مصر، بينما ذهب مصطفى خضري، مدير مركز "تكامل مصر"، إلى اعتقاد أن قرار الوزير يتجاوز العاصمة الجديدة ليؤسس لمرحلة جديدة بانتزاع السلطات من جهاز الأمن الوطني وتسليمها لجهاز المخابرات العامة.
باحث بمركز خاص للدراسات السياسية في مصر علق على ما يثار حول فكرة سيادة الهاجس الأمني على تصميم العاصمة الادارية، قائلا لـ"عربي بوست"، إن النظام الحالي يخشى من تكرار ما حدث في ثورة يناير 2011، لهذا روعي في تصميم العاصمة الإدارية، بداية من اختيار مكانها في عمق الصحراء بعيدة بمسافة 45 كم عن ميدان التحرير وما لا يقل عن 15 كم من أقرب تجمع سكني لها، وهي مسافة لا يمكن للمتظاهرين قطعها سيراً على الأقدام، أي إنه إذا أراد الشعب أن يثور على حكامه فلن يستطيع الوصول إليهم.
مدينة ذكية لا يمكن للمظاهرات إسقاطها أو تعطيلها
كذلك فإن الانتقال من وإلى العاصمة يقتصر فقط على السيارات والحافلات الخاصة، حيث لا توجد وسائل نقل عام، كما يسهل إغلاق الطرق المؤدية إليها وقت الحاجة بقطع الطريق الإسفلتي المؤدي إلى العاصمة على السيارات والحافلات القادمة، أما حراك الجماهير الراجلين فهو مستبعد فعلياً.
وتطرق الباحث إلى الحديث عن الإمكانات الهائلة التي توافرت لمقر القيادة الاستراتيجي بما يجعله مركزاً لصمود الحكم أمام أي مظاهرات داخلية أو اعتداءات خارجية، ومن تلك الإمكانات (6500) كاميرا مراقبة مزودة بمستشعرات تحكّم تنقل الأحداث من خلال شبكة بيانات تغطي كل أنحاء المدينة، وتعرض البيانات على شاشات عرض مزودة بتطبيقات نظم المعلومات الجغرافية وتطبيقات ثلاثية الأبعاد، كما تم تزويد المركز بأحدث نظم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والنظم الذكية في مجال القيادة والسيطرة، لتعزيز قدرة الدولة على إدارة مؤسساتها بكفاءة في مختلف الظروف، بجانب احتوائه على مخازن ضخمة للسلع الاستراتيجية، ما يعني أنه سيكون بإمكان الموجودين داخل المدينة الاستغناء عن الخروج منها في حالة وقوع اضطرابات لشهور طويلة.
وكانت شركة العاصمة الإدارية قد وقعت بروتوكول تعاون مع شركة هانيويل الأمريكية؛ لإعداد وتجهيز أول مركز تحكم وسيطرة أمني في العاصمة الجديدة، يقضي بتجهيزها بكل الوسائل التكنولوجية والأمنية من أجهزة حماية وكاميرات مراقبة؛ لتكون أول مدينة ذكية في مصر. واستغرب الباحث بالقول حالة التعتيم الإعلامي حول تفاصيل العمل وحجم الإنجاز الإجمالي في مواقع إنشاء العاصمة الإدارية، رغم سوابق النظام الحالي وإعلامه في الحديث المسهب عن كل ما يعتبره النظام إنجازاً له مثلما حدث في شق تفريعة قناة السويس، ولفت إلى أن كل ما يخرج على شاشة التلفزيون هو تقارير أُعدت بعناية ودقة، يغلب عليها الإبهام وتخلو من أي إشارة إلى التكلفة الحقيقية لهذا المشروع، أو عوائده على المواطن المصري.